يجيب المقال عن سؤال: هل نحن مستَعملون أم مستَبدلون؟
بين وسواس اليأس ووعد النصر: هل نحن مستبدلون؟
بعد الذي أثبتناه في المقالات الماضية، فإن الذي يُرجى أن يكون أهل البلد في أحسن ما يكون من الاستعمال بإذن الله تعالى ورحمته وفضله، وأنهم ليسوا من سنة الاستبدال في شيء، ولكن شدة المحنة أضعفت صورة المنحة، ولهذا عبَّرت عن هذا المعنى في عنوان هذه الرسالة إذ سميتها: “في غمرات الطوفان آمالٌ تتدثر بالآلام“.
وأضرب مثالًا في اتجاهٍ مختلف من شأنه أن يُقرِّب الصورة:
قال لي أحد الإخوة يومًا: إني أصبت بوسواسٍ قهري في الوضوء والصلاة، وتمدد الداء حتى وصل إلى الأفكار العقدية، وانقلبت حياتي جحيمًا، وصرت أشعر كأني خرجت من الإيمان إلى الكفر، وشرح قصته وتفاصيل ذلك مما هو معروفٌ في بابه.
فقلت له: هل أحدثت عملًا صالحًا في المدة التي سبقت الوسواس القهري؟
قال: نعم، نشطت في حفظ القرآن، وقال آخر عرض له ذلك نفسه وسألته نفس السؤال: صرت أقوم الليل بعد أن لم أكن أقومه من قبل.
قلت له: هذا هو السر.
قال: كيف؟!
قلت: لقد تخففتَ من أشكال الغفلة، وربما كنت على ذنبٍ وجاهدت نفسك في تركه، واستكثرت من الأعمال الصالحة بما يشي بزيادة الخشية والديانة عندك.
ذاك صريح الإيمان
ومن كانت هذه حاله لم يأتِه الشيطان من بوابة الشهوات المعتادة؛ لأنه سيفشل كما هو ظاهر، ولكن يأتيه من بوابةٍ أخرى تناسب حاله الجديد، وهذه البوابة هي بوابة الحرص على العبادة، والاحتياط فيها، فيصير من الأفكار التي تراوده:
– أنه لا بد أن تقع الطهارة عنده على الوجه التام.
– وأن تؤدى الصلاة وتكون على ما يُرام.
– مع الصلاة في المسجد وإدراك تكبيرة الإحرام.
– ثم إن الحالة الإيمانية التي يكون عليها لا بد أن تكون على خير حال، بحيث إن ما يعرض له من خواطر لا بد أن تجتمع فيه معاني تعظيم الله ومحبته والتقرب إليه وما إلى ذلك.
فهنا يدخل الشيطان، ويبدأ يرمي أمام ذهنه جملةً من الأسئلة العقدية:
– هل يمكن أن يكون الله راضيًا عنك أم تحتاج إلى مزيدٍ من الاحتياط؟
– وربما ما عملته لم يكن مقبولًا؟
– ولماذا يحصل لك كذا وكذا ما دمت تحسن العلاقة مع الله؟ وينتهي به الأمر إلى التفكير إلى أن الله لو كان موجودًا لفعل لك كذا وكذا.
والمقصود: أنَّ الأفكارَ تبدأ في رحلة تدهور حتى يدخل صاحبها في موجة شكٍّ مرعبة، تعود على عبادته ومشاعره بالتهتك والفتك والغبش.
لكن الحقيقة أن ما عرض له مما توهمه أنه من ضعف الإيمان هو في التصور الشرعي من قوة الإيمان، وما يراه من الأفكار مما قد يوقعه في الكفر نظرًا لما يتردد في صدره هو في الواقع من قوة الإيمان واليقين بالله تعالى، بدليل أنه لا يستطيع أن ينطق بلسانه بما يجول في صدره.
وهنا تستطيع أن تدرك عمق جواب النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه ناسٌ من أصحابه يسألونه: “إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به”؟! قال: “وقد وجدتموه“؟! قالوا: نعم، قال: “ذاك صريحُ الإيمان“.
وسواس القهر الجماعي وعلاجه بالتهميش
ولهذا يقوم العلاج الفقهي وكذا الإيماني والتربوي على كلمةٍ واحدة وهي التهميش حتى ينقطع الشيطان وييأس، ويتأسس هذا القول على أن ما يعرض له إنما هو من الوهم، والوهم لا يُتفاعل معه، فهو كالسراب الذي يظنه الناظر ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.
وبسط الكلام عن مسألة الوسواس محله المقام الفقهي وكذا التربوي، وعسى أن تتيسر فرصة لإفراد الكلام عليه بما يزيل ما ينتج عنه من آثار عند المبتلى به.
والمقصود: أنَّ الوساوسَ التي تصيب عددًا كبيرًا من صالحي هذا البلد، وخشيتهم من أن يكون طول المعركة وما حصل لنا من مشاهد الإبادة مرَدُّه إلى غضب الله ومقته على أهل هذا البلد، بسبب ما يحصل من تجاوزات من بعض الناس الفسقة الذين لا ينقطع منهم زمانٌ أو مكان.. تشبه الوساوس التي تعرض للمبتلى بالوسواس القهري، فهو قد يكون على أحسن ما يكون من الالتزام والإيمان ولكن يظن نفسه أنه واقعٌ في غضب الله ومقته.
وحضور مثل هذه الشبهات في أوقات الحروب والفتن أمرٌ متوقع، ولهذا فإني أحسب أن أكثر السور عنايةً بالجواب عن الشبهات هي سورة آل عمران، خاصة في الصفحات الثماني التي عقبت على غزوة أحد؛ لكثرة ما دار فيها وحولها من أسئلة تتعلق بقدر الله في الأجل والنصر وغير ذلك.
التوبة والشكر سبيل النجاة من وسواس اليأس
والوصية لي وللقارئ ولمن بلغه هذا الخطاب بالتوبة والاستغفار والتواصي بالحق والصبر والمرحمة، وأن نزيد من الإقبال على الله تعالى ونتوب إليه من كل ذنب، ونستغفره من كل خطيئة، ومع هذا الحال نحمده سبحانه ونشكره على ما قدَّره لنا من الاستعمال، ومن إعزاز دينه وهداية كثير من عباده وإذلال أعدائه.
فنحن أعقل من أن نرد فضل الله علينا في هذه المعركة وغيرها من كل ما يعرض لنا في هذا الثغر الإسلامي الكريم.
ولئن بقي عندك شيءٌ من الشك فإني أذكرك بما تقدم من الثمرات المتكاثرة على الصعيد الشخصي والمحلي والإقليمي والدولي والعالمي، مما يُشعر بمجموعه أنَّ الله استعمل رجال هذا البلد على أحسن ما يكون من الاستعمال، وكلما بقي الصلاح فينا وبقي الجهاد والصبر والنصح والمدافعة التي لا ينقطع منها مجتمع كنا أبعد ما نكون عن الاستبدال بإذن الله تعالى.
وشرطُ هذا الفضل: الثباتُ وعدم التبديل حتى نلقى الله كما قال سبحانه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 23].
ما الذي يمكن أن يحصل في نهاية المعركة؟ وكيف يمكن أن تنتهي؟
يقول السائل: بعد أن مضى على المعركة قرابة السنتيْن؛ ما الذي يمكن أن يحصل في المستقبل القريب؟ وكيف يمكن أن تنتهي المعركة؟
والجواب: الحمد لله، وبعد:
فإنَّ المعركةَ من الأيام الأولى ظهر أنها لا تمشي على قاعدة أو منطقٍ عقليٍّ سوي، ولهذا لم يستطع محللٌ سياسي على مدار المعركة -فيمن سمعت لهم- أن يرسم مسارًا واضحًا للمعركة من حيث المدة، وذلك يعود لأمرين:
الأول: أن قيادة الكيان كانوا يتحركون بدافع الانتقام وليس انطلاقًا من الحسابات المتخذة عادة في تقدير المواقف الاستراتيجية، وهذا يعني غلبة النفوس على العقول، وهذا أمرٌ لا يسهل قياسه.
الثاني: اختلاف العقليات واختلاف الأهداف لدى الأطراف المؤثرة، وهم ثلاثة في أول المعركة: نتنياهو وابن غفير وحزبه وبايدن، وشيئًا فشيئًا صارت الأمور تجتمع عند نتنياهو بعد أن ازداد تشربًا وتقويًا بعقلية ابن غفير وحزبه وإن كان هو الثعلب، واستفاد عددًا من الملامح من العقلية الأمريكية، وبيان ذلك بشواهده خارجٌ عن موضوع الكلام.
وهذه المعطيات تُنتِجُ حالةً من الغطرسة التي تُكسَرُ كسرًا، ولهذا كنت أقول لمن يسألني عقب التهدئة التي حصلت بعد 48 يومًا من بدء الحرب عما يمكن أن تصير إليه الأمور: إن الأهداف التي يرفعها العدو، والعقلية التي تُدار بها المعركة لو تمكنوا معها من سحق البلد سحقًا تامًّا، وهدم كل شيءٍ فإنه في مقابل ما رفعوا من أهدافٍ لا يعني شيئًا.
ولقد انتهوا من هدم البلد، واكتشفوا أنهم ما فعلوا شيئًا، وهذا كلما امتد الزمان وتوالت الأيام ضاعف عليهم من حجم العقدة النفسية التي صنعتها عملية السابع من أكتوبر، حتى إن قرار إيقاف المعركة يعني الإعدام النفسي والمعنوي لدولة الاحتلال.
ولهذا حين أقفل المشهد في غزة راحوا يتحرشون بجبهة الشمال، ويفعلون من الأفعال ما يُجبِرُ حزبَ الله على الدخول في مواجهةٍ شاملةٍ رغم أنَّ العدوَّ يترنح في الداخل على أكثر من صعيد، ويخسر اقتصاديًّا وغير مستعد اجتماعيًّا، ولكن القتال في الشمال هدفه إطالة مدة الحرب في الجنوب في غزة.
عودة النازحين وابتهاج المؤمنين: العاقبة المعلومة للمتقين
أما نهاية المعركة فما أحسبه يكون بأمرٍ خارق، ولكن دوام الضغط الذي يتزايد على قادة العدو، مع اليأس من تحقيق أي إنجاز سيأخذ بهم إلى نهاية الحرب عبر صفقةٍ متدرجة وهم صاغرون.
والذي يزيد الأمر تعقيدًا أنَّ إنهاءَ المعركة بصفقةٍ لازِمُهُ فشلُ الأهداف كلها، ومشهد خروج الأسرى هو مشهد إذلال للعدو وانتصار للبلد لا يستطيع العدو أن يتحمله، وفي نفس الوقت لا يعرف كيف يفعل، فليس أمامه من خيارٍ إلا الهروب إلى الإمام لعله يظهر له من الفرص ما يراه مناسبًا يُخرِجُه مما فيه.
ولهذا فالمعركة مجهولة المدة معلومة النتيجة.
قد تطول، وعسى ألا تطول، وقد جعل الله لكلِّ شيءٍ قدرًا؛ فالشدةُ لها قدر، والرخاء له قدر، وليس هناك ذرةٌ من شكٍّ أنَّ العاقبة في هذه المعركة للمتقين، وأن الله ينصر هذا البلد، وسيعود النازحون إلى ديارهم، وسيبتهج المسلمون بفضل ربهم الكبير، والله هو ربنا الكريم الذي عوَّدنا فضله في كل مرة، ولن يخذلنا هذه المرة.
فاثبتوا وتضرعوا واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر
مجلة أنصار النبي صلى الله عليه وسلم، الشيخ محمد محمد الأسطل.