مفاتيح التعامل مع القرآن، لا بدّ من الوقوف عليها ومعرفتها، واستخدامها في استخراج كنوز القرآن المذخورة فيه .. لقد حرصنا أن نضع هذه المفاتيح بين يدي أهل القرآن وجنوده وحملته، ليتعرفوا عليها، ويقفوا عليها، ويستخدموها في صلتهم بالقرآن، وتعاملهم معه، وأخذهم عنه، واستخراجهم لكنوزه ..
16 – الشعور بأنّ الآية موجّهة له
لابدّ للقارئ أن يأخذ القرآن على أنه موجه له هو، وأن الخطاب يعنيه هو ..
وقبل حديثنا عنه نحب أن نورد كلام الإمام الغزالي رحمة الله في الإحياء عنه: «التخصيص: وهو أن يقدّر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن، فإن سمع أمرا أو نهيا قدّر أنه المنهى والمأمور، وإن سمع وعدا أو وعيدا فكمثل ذلك، وإن سمع قصص الأولين والأنبياء علم أن السمر غير مقصود، وإنما المقصود ليعتبر به وليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه .. » إلى أن يقول: «وإذا قصد بالخطاب جميع الناس فقد قصد الآحاد، فهذا القارئ الواحد مقصود، فماله ولسائر الناس، فليقدّر أنه المقصود، قال الله تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام: 19]، قال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله .. وإذا قدّر ذلك لم يتخذ قراءة القرآن عمله، بل يقرأه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه .. ولذلك قال بعض العلماء: هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده، فنتدبرها في الصلوات، ونقف عليها في الخطوات، وننفذها في الطاعات والسنن المتبعات .. »1(1) [إحياء علوم الدين: 1/ 517 – 518 باختصار]..
إن القارئ المؤمن مطالب أن ينظر إلى القرآن بهذا المنظار، وأن يتعامل معه على هذا الأساس، وأن يفتح كنوزه بهذا المفتاح .. ولو أن كل قارئ فعل هذا فسوف يخرج من تدبر القرآن بزاد عظيم، من الإيمان والالتزام والتنفيذ والعمل، وسيكون رجلا قرآنيا عمليا نافعا مؤثرا ..
هل القرآن موجها لأكوان أخرى، ولأقوام يوجدون في عالم الأحلام والخيالات؟!
إن مما يؤسف له في صلة المسلمين المعاصرين بإسلامهم وقرآنهم وتعاملهم مع ربهم، أنهم يفعلون عكس هذه القاعدة .. إن الواحد منهم لا يشعر أنه هو المقصود أساسا بالأمر أو التوجيه، وأنه المطالب به، وأن شخصه بذاته معني به بخاصة .. ولكنه يشعر أن الخطاب لفلان أو علان ..
إنه يلقي المسئولية عنه، ويلغي خصوصيته ليوجهها إلى غيره، إنه «يوزّع» الواجبات على غيره، بعد أن «يزحلقها» عنه، ولهذا لم يتفاعل معها ولم يسع لكي يلتزم هو بها ..
إذا قرأ آيات القصص قصرها على السابقين، وإذا قرأ آيات الخطاب والتكليف للرسول عليه الصلاة والسلام خصه هو بها، وإذا قرأ حادثة زمن الصحابة فهي لهم فقط .. وإذا سمع يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهي تخاطب الصحابة أو مؤمنين في العوالم الأخرى، آيات الزكاة والصدقة للأغنياء فقط، وآيات الحكم والالتزام والطاعة للحكام فقط، وآيات الجهاد والحرب للعسكريين فقط، وآيات الولاء والمحبة والنصرة للسياسيين فقط، وآيات الدعوة والبلاغ للشيوخ والعلماء فقط .. وهكذا .. وهكذا وإذا بهذا المسلم لم توجه له آية، ولم يطالب بحكم، ولم يكلف بواجب .. فإذا ما وصلت الآيات إلى الآخرين فإنهم سيفعلون مثل هذا، ويحرصون على أن يوجهوها لغيرهم ويزحلقوها عنهم .. فنرى القرآن موجها لأكوان أخرى، ولأقوام يوجدون فى عالم الأحلام والخيالات والأوهام ..
على القارئ البصير للقرآن أن يوقن أنه هو المقصود بالآية، وأنها تعنيه هو، وتخصه هو، وتخاطبه هو، وتطالبه هو، وتحدثه هو .. فإذا قرأها فليفتح لها أجهزة التلقى والاستجابة ليلتزم بما فيها من توجيهات ..
17 – حسن التلقّي عن القرآن
القرآن كلام الله، والله هو الذى يعين القارئ له على أن يتلقى عنه، إذا ما سلك السبيل الذى بيّنه الله فاستحضر معه وسائل الفهم وأدوات التدبر، وإذا ما طهر نفسه من الموانع والحجب والأكنة، التى تحجب عنه القرآن وإيحاءاته ..
على القارئ أن يوقن أنّ فهم القرآن إنما هو من نعم الله عليه، ومن منه وأفضاله .. وأن هذا الفهم والتلقي والتدبر والتفسير إنما هو فتوحات من الله عز وجل، يفتح بها على من يشاء من عباده، عندما يكونون (أهلا) لهذه الفتوحات، ووسطا صالحا لهذه الفيوضات، إن الفهم والتدبر والتفسير نور من الله سبحانه، ونور الله لن يصل إلى قلب مغطى بالحجب والموانع، وأنها هدايا من الله ورحمة منه، وهدايا الله لا يصلح لها العصاة، ورحمة الله لن تفتح لها قلوبهم ..
ونورد للقارئ قول أبي طالب الطبري في أوائل تفسيره- الذي سجله له السيوطي في الإتقان- في شروط المفسر وآدابه، على اعتبار أنها تصلح شروطا وآدابا للمتدبر للقرآن المتعامل معه المتلقي عنه، تضمن له إن راعاها حسن التدبر والتعامل والتلقي .. قال: «اعلم أن من شرطه صحة الاعتقاد أولا، ولزوم سنة الدين، فإن من كان مغموصا عليه في دينه لا يؤتمن على الدنيا فكيف على الدين، ثم لا يؤتمن في الدين على الإخبار من عالم فكيف يؤتمن في الإخبار عن أسرار الله تعالى، ولأنه لا يؤمن- إن كان متهما بالإلحاد- أن يبغي الفتنة، ويغر الناس بليّه وخداعه .. » إلى أن يقول: «ومن شروطه صحة المقصد فيما يقول ليلقى التسديد، فقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت: 69] وإنما يخلص له القصد إذا زهد في الدنيا، لأنه إذا رغب فيها لم يؤمن أن يتوسل به إلى غرض يصده عن صواب قصده، ويفسد عليه تمام عمله ..»2(2) [الإتقان للسيوطي: 2/ 176]..
حسن التلقي لا يتحقق إلّا بصحة الاعتقاد أولا ثم صحة المقصد والغاية ثانيا
ولقد سبق أن تحدثنا عن مفتاح ضروري للتعامل مع القرآن، وهو دخول القارئ عالم القرآن بدون مقررات سابقة [ من مفاتيح التعامل مع القرآن (3) ]، وهو مرتبط بهذا الأساس الذي نقرره هنا. فهناك اشترطنا له حسن المدخل لعالم القرآن وحسن الاستعداد له وحسن الوصول إليه، وهنا نشترط له حسن البقاء معه، وحسن التلقي عنه، وحسن التعرض لأنواره، وحسن الحياة مع فتوحات الله ورحماته وفيوضاته فيه. وهذا كله لا يتحقق إلّا بصحة الاعتقاد أولا ثم صحة المقصد والغاية ثانيا ..
إن الأهواء والبدع والضلالات والانحرافات حجب وموانع على قلوب أصحابها، وإن المنكرات والمحرمات والمعاصي والذنوب حجب وموانع كذلك. وإن فساد المقصد وسوء الباعث و «دنيوية النية وتجاريتها» في التعامل مع القرآن كذلك. فلا بدّ من الإخلاص لله والإنابة إليه والاستعانة به والتلقي عنه ليستفيد ويفيد..
عليه أن لا يفسر أو يفهم القرآن حسب معلوماته السابقة التي تخالف توجيهات القرآن، ولا حسب أهوائه وميوله ورغباته التي لا يقرها القرآن .. وإنما يسعى إلى فهم مراد الله سبحانه من كلامه وأخذه والتعامل معه والالتزام به، إنه من المرفوض أن يستغل أناس القرآن، وأن يتعاملوا معه تعاملا مصلحيا نفعيا تجاريا، وأن يوظفوه لدنياهم وأهوائهم وشهواتهم، وأن يقيدوا نصوصه بمعلوماتهم ومعارفهم المخالفة له .. إن هؤلاء محجبون عن القرآن، مخطئون في التعامل معه.
18 – تسجيل الخواطر والمعاني لحظة ورودها
عندما يعيش القارئ مع القرآن بكل كيانه، ويتلقاه بكافة أجهزة التلقي والاستجابة عنده، سيأخذ عن القرآن الكثير من المعاني والإيحاءات، وترد على ذهنه وشعوره الخواطر واللطائف واللفتات والدلالات، وسيتذوق مذاقات، وسيجد راحة وسعادة، وسيتقلب في أفياء رحمة الله ونعمته ..
عندها سيعرف معنى الحياة، وسيجد طعم السعادة، ويستروح الطمأنينة واليقين ..
وهذا الذي يجده ويستشعره ويعيشه قد يزول وينتهي إذا ما أقبل على آيات أخرى، لأنه سيجد عندها معاني جديدة، وسيتلقى عنها مذاقات جديدة، وقد يزول وينتهي إذا غادر ظلال القرآن وأقبل على الدنيا بشواغلها وصوارفها، وقد يزول وينتهي إذا أزله الشيطان إلى المعصية أو الغفلة أو الشهوة.
ولذلك نوجه القارئ إلى أن يسجل ما يعيشه أولا بأول، وأن يقيد خواطره ولفتاته ولطائفه لحظة ورودها، وأن يقتنص هذه المعاني والحقائق قبل أن ينساها أو يصرف عنها .. وعندها سيحصل على سعادتين اثنتين: السعادة الغامرة في أن يعيشها بكيانه ويتذوقها بمشاعره، وينفعل لها بأحاسيسه، وترتد عنده إلى مذاقات وحقائق معاشة .. والسعادة الثانية في أن يحتفظ بها ويحرص عليها ويشعر بغناه بها، وثروته منها .. في أن يجعلها كنزا من كنوزه الثمينة العتيقة، ورصيدا وافرا من علمه ومعارفه وحقائقه ويقينياته، ومعينا ثرّا معطاء يعود إليه عندما يحتاجه ليمده بالزاد والوقود والثقة والإيمان والثبات ..
ننصح القارئ أن يكون إلى جانبه أوراقه أثناء التلاوة، وأن يسجل فيها كل ما يجده، وأن لا يكون همه- وبخاصة عند أدائه لورد التدبر الذي أشرنا إليه، أن ينتهي من الآية أو الآيات بأقصر الأوقات .. إن حرصه على تقصير الوقت قد يكون مانعا من تدبره للقرآن، وإن «الكم» القرآني وحرصه على تكثيره قد يكون مانعا كذلك، فلا يلتفت إلى مقدار ما قرأ وما تدبر، ولا يلتفت إلى الوقت الذي أمضاه فيه، فكم من الأوقات أمضاها الصحابة والعلماء والمتدبرون للقرآن في تدبر آية من الآيات، وترديدها ساعات وساعات قد تستغرق الليل بطوله، رغم حرصهم على أوقاتهم وشعورهم بأهميتها وقيمتها وتحرجهم من أن يضيعوا لحظتها .. ومع ذلك جادوا بها من أجل التدبر والحياة في ظلال القرآن، وقدموها له بسخاء وكرم ويقين ..
الوقت عند القارئ البصير خادم للقرآن وتابع له، يوظفه توظيفا نافعا، ويبذله بذلا كريما بسخاء، وبدون من أو أذى ..
وإذا ما سار القارئ فى يومه لعمله أو حاجته، أو ضرب في الأرض لوظيفته، أو ساح في ساعات نهاره، فماذا يشغل فكره ومشاعره أثناء سيره؟
وإلى أين سيرسل خطراته وخواطره وخياله؟ لا يجوز أن يخرجها عن عالم القرآن، بل يختار آية يعيشها بكيانه، ويرددها بمشاعره وحواسه، ويتلقى ظلالها وإيحاءاتها .. وعندها يحاول أن يسجل ما تلقيه إليه .. فإن لم يستطع أثناء سيره فليكن هذا أول ما يقوم به عند حلوله ونزوله ..
كذلك إذا قرأ القرآن في صلاته بتدبر وانفعال ومعايشة، فكم سيرد عليه من معانيه وحقائقه ولطائفه؟ فإذا خرج من صلاته سجل ما وجده منها.
الهوامش
(1) [إحياء علوم الدين: 1/ 517 – 518 باختصار].
(2) [الإتقان للسيوطى: 2/ 176].
المصدر
“مفاتيح للتعامل مع القرآن”، د صلاح عبد الفتاح الخالدي: ص132-141.
اقرأ أيضا
من مفاتيح التعامل مع القرآن (1)
من مفاتيح التعامل مع القرآن (2)
من مفاتيح التعامل مع القرآن (3)
من مفاتيح التعامل مع القرآن (4)