للولاء والبراء مقومات عقدية على أساسها يكون ولاء المسلم لله تعالى أصلا، ولرسوله والمؤمنين تبعا لولاية الله تعالى وتحقيقا لهوية الإسلام.

مقدمة

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:

فولاية المسلم لربه هي مسألة المسائل وأصل الأصول التي تتشعب عنها التصورات، وتنطلق منها المواقف.

وتزداد الحاجة للتركيز على هذا الأصل في غمرة الخلط الحاصل اليوم في ولاءات المسلمين، وفي غيابه فقدان هذا الأصل عند من أمسكوا بشيء من الأزمّة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

قواعد عاصمة

وهذا مقام مسافر فيه عرض لبعض مقتضيات هذه المسألة:

إفراد الله بالولاية

ويدل عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ ولِياً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ﴾ [الأنعام: 14] ويربي القرآن المسلم على تحديد هذا الأمر بينه وبين نفسه وأمام الآخرين بوضوح وجلاء.

﴿إنَّ ولِيِّيَ اللَّهُ الَذِي نَزَّلَ الكِتَابَ وهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف: 196] وولاية المسلم للرسل وللمؤمنين نابعة من هذه الولاية.

وهذه الولاية متبادلة بين العبد وربه، ولاء العبد لله وتولى الله لعبده؛ ﴿اللَّهُ ولِيُّ الَذِينَ آمَنُوا﴾؛ إذن فولاء المسلم لا يصح أن يتجزأ؛ شيء لله وشيء لغير الله.

إفراد الله بالعبادة

﴿قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ﴾ [الأنعام: 162].

توحيد مصدر التلقي

عن الله وحده الذي يقول: ﴿وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾. ويقول محذراً: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ فمصدر التلقي إذن هو الوحي فقط وليس القوانين الكافرة أو عادات القبائل أو أعراف المجتمعات أو بيوت الأزياء. وحق التحليل والتحريم لله وحده وليس لأحد بعده سبحانه.

التحاكم إلى الله وحده

القاعدة: ﴿إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ﴾ والاستفهام القرآني قوي إنكاري ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً﴾ والقرآن يحدد موقف المخالفين لهذه المسألة في آية ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ﴾ فكيف إذاً صار المبدأ عند البعض الاعتراض على أحكام الله..؟ وكيف إذا آل أمر الآخرين إلى أنْ كرهوا ما أنزل الله، فأحبط أعمالهم..؟!

توحيد الانتماء إلى حزب الله (أهل السنة والجماعة)

قال ابن القيم رحمه الله:

“ومن صفات هؤلاء الغرباء التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك اكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله: لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً، وأكثر الناس ـ بل كلهم ـ لائم لهم”. (1تهذيب مدارج السالكين، ص517)

وتوحيد هذا الانتماء يفيد كثيرا في تجميع الجهود وتوجيهها؛ لرفع شأن أهل الحق وصد كيد أهل الباطل.

استبدال ولاية الله بالولاءات الجاهلية

كثيرون أولئك الذين لا يزالون يمتّون بصلات وولاءات لأعداء الله بشكل جزئي أو كلي، قد يأخذ صوراً مادية أو معنوية. وعلى هؤلاء إن أرادوا النجاة من نار جهنم أن يستدبروا أهل الباطل ويولوا وجوههم لأهل الحق، وتبنّي دين الله عز وجل، وأن يقوم العزم في أنفسهم على عدم وصل حبال الكفار مرة أخرى.

كانت الولاءات في الجاهلية تتعدد بتعدد القبائل والعصبيات فلما جاء الإسلام أزالها وأبدلها بولاية الله، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حريصاً كل الحرص على عدم تجديد وإحياء شعارات الجاهلية وولاءاتها في نفوس المسلمين.

روى البخاري رحمه الله تعالى تحت باب: ما ينهى من دعوى الجاهلية: عن جابر رضى الله عنه قال: غزونا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا. وكان من المهاجرين رجل لعّاب (يلعب بالحراب) فكسع أنصارياً، فغضب الأنصاري غضباً شديداً، حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما بال دعوى أهل الجاهلية، ثم قال: دعوها فإنها خبيثة». (2رواه البخاري (3330))

ونظرة تقويمية للواقع تخبرنا أن ولاء كثير من العجائز في قعر بيوتهن خير وأحب إلى الله من كثير ممن ابتليت بهم الدعوة الإسلامية والذين تنازعتهم الولاءات للجاهلية من كل جانب ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 29].

رفض موالاة الكفار أو التحالف معهم

لا يجتمع حب الله وحب أعداء الله في قلب مسلم أبداً، وما حلّا في قلبٍ إلا تدافعا حتى يُخرج أحدُهما صاحبه:

أتحب أعداء الحبيب وتدعي … حباً له ما ذاك في إمكان

وتحقيق الولاية يقتضي بغض الكفار وعدم توليهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ، أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾ [النساء: 144].

وتتضح خطورة هذا الأمر في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾. قال العلامة صديق حسن خان:

“وأما القوم الذين في بلاد المسلمين ويدّعون أنهم من رعية النصارى ويرضون بذلك ويفرحون به وأنهم يتخذون لسفنهم بيارق وهي التي تسمى الرايات مثل رايات النصارى إعلاماً منهم بأنهم من رعاياهم فهؤلاء قوم أُشربوا حب النصارى في قلوبهم، وقصروا نظرهم على عمارة الدنيا وجمعها، وأن النصارى أقوم لحفظها ورعايتها.

فإن كان القوم المذكورون جهالاً يعتقدون رفعة دين الإسلام وعلوه على جميع الأديان وأن أحكامه أقوم الأحكام وليس في قلوبهم مع ذلك تعظيم للكفر وأربابه (ما أصعب هذه الشروط!) فهم باقون على أحكام الإسلام لكنهم فساق مرتكبون لخطب كبير يجب تعزيرهم عليه وتأديبهم وتنكيلهم.

وإن كانوا علماء بأحكام الإسلام، ومع ذلك صدر منهم ما ذكر فيستتابوا فإن رجعوا عن ذلك وتابوا إلى الله، وإلا فهم مارقون.. فإن اعتقدوا تعظيم الكفر ارتدوا وجرى عليهم أحكام المرتد”. (3“العبرة مما جاء في الغزوة والشهادة والهجرة”، ص 243)

وانظر للتقريع في هذه الآية: ﴿بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾ [النساء: 138-139].

إن هذه المواقف القلبية لبعض المسلمين تجاه الكفار تناقض ولاية الله.

إلى هؤلاء نسوق هذا النص لفقهائنا:

“ولو قال معلم الصبيان أن اليهود خير من المسلمين بكثير لأنهم يقضون حقوق معلمي صبيانهم كَفَرَ”. (4“روضة الطالبين وعمدة المفتين”، كتاب الردة، ص69)

إذن لابد من بغض الكفار وعداوتهم ولكي تتحقق ولاية الله لا بد من:

مفاصلة الكفار واتخاذ المواقف منهم

إذا كانت ولاية المؤمن تقتضي موالاة أحبابه ومعاداة أعدائه؛ فعليه لا تجوز موادة الكافر ولو كان أخاً شقيقاً، ونحب أخا الإسلام ولو كان حبشياً أو رومياً أو فارسياً أو قوقازياً.

وفقه الصحابة لمسألة المفاصلة عظيم فهماً وتطبيقاً. قال ابن حجر رحمه الله في ترجمة عامر بن عبد الله الجراح، وهو أبو عبيدة في (الإصابة):

“نزلت فيه ﴿لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ الآية، وهو فيما أخرج الطبراني بسند جيد عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر فيحيد عنه، فلما أكثر، قصده فقتله فنزلت”. (5الإصابة لابن حجر (2/ 253))، وألفاظ القصة تغني عن التعليق عليها.

ولم تقتصر المفاصلة واتخاذ المواقف من الكفار على مسألة القتال فقط، ففي حديث إسلام ثمامة سيد اليمامة في (صحيح البخاري): «ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض علي من دينك فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، (ثم ذهب ليعتمر في مكة فقال لكفار قريش): لا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم». (6رواه البخاري (4372))

الله أكبر، كم في هذا الموقف من عجب.. رجل يُسْلم لتوه فيفهم أن ولايته لله تفرض عليه أن يفاصل الكفار، ويعبر عن عدائهم وهو بين أظهرهم ويصارحهم بموقفه منهم في وجوههم.

محبة أولياء الله وفي مقدمتهم محمد، صلى الله عليه وسلم

في الصحيح المسند من أسباب النزول، من رواية الطبراني في الصغير عن عائشة قالت: «جاء رجل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنك لأَحب إلى من نفسي وإنك لأحب إلى من أهلي ومالي وأحب إلى من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك فلم يرد عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا * ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهُ﴾ [النساء: 69]. (7السلسلة الصحيحة (6/ 1044))

وهذا يقوّي الأواصر والروابط بين أفراد المسلمين وخلاياهم في المجتمع الإسلامي الكبير، ويقضي على دخائل النفس الخبيثة التي تنحرف بالمحبة في الله إلى أغراض أخرى، وذلك إذا والى كل مسلم أخاه، بحسب حاله من الإيمان والعمل الصالح.

تحمل الأذى في سبيل تحقيق ولاية الله

وقد جرَت سنة الله بامتحان المؤمنين ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [آل عمران: 179]. ولابد أن يلاقي المؤمن في سبيل تحقيق ولاية الله أنواعاً من الأذى المادي والمعنوي ـ خصوصاً في هذا العصر ـ وانظر ماذا جمعت هذه الآية ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً؛ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [آل عمران: 186].

وقدوتنا، صلى الله عليه وسلم، يعبّر لنا عما لقي في هذا السبيل: «لقد أوذيت في الله وما يؤذَى أحد، وأُخفت في الله، وما يخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال». (8صحيح الجامع (2472))

الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام

وهذه الخطوة ضرورية حماية لدين المسلم واستفادة من طاقاته في المجتمع الإسلامي وحرمان الكفار من ذلك مع ما في ذلك من الأذى النفسي والتغرب عن الأوطان وفراق الأهل والعشيرة.

أليس الولاء لله يمنع من تقوية الكفار ومناصرتهم والإقامة بين أظهرهم.

خاتمة

هذه قواعد عاصمة غابت عن الكثير اليوم ما بين الجهل وما بين من يعلم وللا يطبق. كما اجتمعت الدنيا على المسلمين حتى صنف الكفار ـ في مشارق الأرض ومغاربها ـ من يتولى الله ورسوله ويجعل الإسلام محور ولائه يصنف على أنه إرهابي. ويجعل الأوطان بديلا عن الإسلام بل يجعل هذا في مقابل ذاك.

لذا وجب التنبيه لهذا الأصل العظيم لأن فيه نجاة الآخرة للمرء، ونجاة الدنيا للأمة باجتماعها على كلمة “لا إله إلا الله”.

…………………………

الهوامش:

  1. تهذيب مدارج السالكين، ص517.
  2. رواه البخاري (3330).
  3. “العبرة مما جاء في الغزوة والشهادة والهجرة”، ص 243.
  4. “روضة الطالبين وعمدة المفتين “، كتاب الردة، ص69.
  5. الإصابة لابن حجر (2/ 253).
  6. رواه البخاري (4372).
  7. السلسلة الصحيحة (6/ 1044).
  8. صحيح الجامع (2472).

المصدر:

  • محمد صالح المنجد، مجلة البيان العدد 22-23. (قل أغير الله أتخذ وليا 2،1).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة