التوحيد والعدل والشورى من أبرز سمات الإسلام، وقد امتثلها الأولون وقاموا بها، وهي جزء من ملامح النظام الإسلامي، والقيام بها يقطع الطريق على العلمانيين والملاحدة.

مقدمة

لما كانت الخلافة الراشدة تمثل تطبيقا أمثل للإسلام، وكانت جماعة المقياس لكل من جاء بعدهم، وكان النظام الراشد في إقامة الاسلام هو طوق النجاة للمسلمين اليوم وسط الصراعات الفكرية والأطروحات السياسية المختلفة حول الحكم الرشيد وحول “الهوية”، ولعودة الثقة لضعاف النفوس في دينهم..

لمّا كان الأمر كذلك كان الواجب هو معرفة خصائص هذه الفترة وملامحها.. والأمر يحتاج الى دراسات، ولكن في هذه المقالات إلمامة سريعة لبعض أبرز ملامح الفترة الراشدة.

في المقال الأول “معالم من تاريخ الخلفاء الراشدين .. حماية العقيدة” برزت سمة “توحيد مصدر التلقي”، و”حماية جانب العقيدة”. وفي هذا المقال استكمال لبعض خصائص هذه الفترة.

سيادة العدل والمساواة بمفهومهما الإسلامي

بالعدل قامت السماوات والأرض.

والمساواة بين المسلمين حق واجب، ولغير المسلمين حقوقهم في الأموال والدماء والأعراض، مع حفظ حرمة المسلم وعزّته بالاسلام. وتقريره لهوية بلاده وإقامته للدين، وله حقوقه التي تقتضيها تلك القواعد.

وذلك أن التفاضل بين البشر قوامه الميزان الذي قرره الله في كتابه؛ قال تعالى: ﴿إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات/13]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود؛ إلا بالتقوى» (1المسند للإمام أحمد بن حنبل 5/411)

والأدلة الواقعية والتاريخية على سيادة هذا المبدأ في عصر الخلفاء الراشدين أكثر من أن تحصى، فهذا الخليفة الأول أبي بكر الصديق يطلب في أول خطبة له من الرعية أن تقوّم ما ترى فيه من خطاً أو اعوجاج. (2ابن هشام، السيرة النبوية 2 /661، والطبري 3 /210)

وهذا عمر بن الخطاب يتقاضى ـ وهو خليفة ـ مع أبيّ بن كعب الأنصاري عند قاضي المدينة في عهده زيد بن ثابت، فيأتي عمر وأبيّ ابن كعب إلى مجلس القضاء، ويقول زيد لعمر: «لو طلبتني يا أمير المؤمنين لأحضر عندك». فيرد عليه عمر مقرراً قاعدة مهمة من قواعد التقاضي وهي قاعدة المساواة: «في بيته يؤتَى الحَكَم».

ثم يحاول زيد من باب الإكرام للخليفة أن يُدني مجلس عمر، فيأبى عمر إلا أن يجلس مع خصمه على قدم المساواة ويقول لزيد: «هذا أول الجور منك».

وبعد أن يدلى كل من الخصمين بحجته، يحكم زيد باليمين على عمر، ثم يطلب من أبىّ بن كعب أن يعفى أمير المؤمنين من اليمين لكن عمر أصرّ على تنفيذ ذلك، فيحلف كما حكم القاضي، وبعد أن استحق الأرض المتنازع عليها قضاء وهبها عمر لأبي بن كعب. (3أخرج القصة ابن شبه في أخبار المدينة 2 /755-756 بإسناد صحيح من طريقتين عن الشعبي)

ومرة جاء رجل من المسلمين فقال لعمر: “اتق الله”، فقال أحد الحاضرين: “أتقول ذلك لأمير المؤمنين؟!”، فردّ عليه عمر بقوله: «دعه يقلها؛ فلا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم». (4ابن الجوزي: مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ص155)

ومن مظاهر المساواة والعدل توزيع الفيْء وأخماس الغنائم على كافّة المسلمين فإن عمر رضي الله عنه لما دوّن ديوان العطاء جعل لكل مسلم حقا في ذلك العطاء حتى المواليد، فبمجرد ولادة طفل لأحد المسلمين يسجل اسمه في الديوان ويُفرض له عطاؤه، وكان عمر يقول: «لئن بقيتُ لهم ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه دون أن يسعى لطلبه». (5ابن سعد: الطبقات الكبرى 3 /299، ومسند أحمد حديث رقم 262، ط شاكر)

ويقول أيضاً: «والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد، ووالله ما من المسلمين من أحد إلا وله في هذا المال نصيب، ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقسْمِنا من رسول الله». (6ابن سعد: الطبقات الكبرى 3 /299)

وقد واسى رضي الله عنه الناس بنفسه في عام الرمادة؛ فامتنع عن أكل اللحم والسمن حتى توفر ذلك لعامة الناس ومضت أزمة المجاعة وجاءهم الفرَج من الله؛ يقول أنس رضي الله عنه: «غلا الطعام بالمدينة فجعل عمر رضى الله عنه يأكل الشعير، وجعل بطنه يصوّت؛ فضرب بيده على بطنه وقال: «والله ما هو إلا ما ترى حتى يوسع الله على المسلمين». (7ابن سعد: الطبقات الكبرى 3 /1313، وابن شبه، أخبار المدينة 2/ 742، ومنتخب كنز العمال 5 /397)

وعن طاووس قال: «جدب على عهد عمر فما أكل سمِنّاً، ولا سمنّا حتى أخصب الناس». (8ابن شبه، أخبار المدينة 2 /742)

أثر العدل ودوره في واقعنا السياسي

العدل من أبرز سمات هذا الدين، وأيما دولة أو نظام ينتسب للاسلام ويرى الناس فيه المظالم والحيْف أمرا مستقرا ومشرعَنا، والناس مقسَّمة الى طبقات بين أمراء ومتنفذين من جانب وعامة من جانب آخر، وأن دما يُهدر بلا عاقبة ولا رادع وأموالا تصادَر بلا حق ولا رداع؛ فهذا ليس من الاسلام في شيء.

ما يجب معرفته أن ما يحصل عليه الكفار وهم بعيدون عن الاسلام، هو جزء مما ضمنه الاسلام لأهله وللدينا كلها، لكن الشأن في أن تقوم الأمة بدين الله وتكاليفه التي فرضها سبحانه.

سيادة مبدأ الشورى قاعدة للتعامل بين الحاكم والمحكوم

مبدأ الشورى من المبادئ الإسلامية الهامة التي توفر الأمن والطمأنينة للأفراد والاستقرار السياسي للدولة، ويؤدي إلى إشاعة المحبة وبث روح التعاون والتناصح بين الحاكم والرعية، وهو ضروري حتى لا ينفرد الحاكم بالأمر والرأي الذي قد لا يكون صواباً فإن رأي الجماعة خير من رأي الواحد لأنه يأتي بعد نظر ودراسة وتفكر في الأمر وعواقبه؛ ومن ثَم تضمن الأمة أكبر قدر من إصابة الحق، قال ابن عطية:

«الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب». (9المحرر الوجيز 2 /280)

وقد قال تعالى مثنياً على المؤمنين ومعدداً بعض صفاتهم: ﴿والَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [الشورى/38].

قال القرطبي عند تفسير هذه الآية: “كان الأنصار قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملوا عليه فمدحهم الله به. ونقل عن الحسن البصري أنه قال: إنهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون فمُدحوا باتفاق كلمتهم”. (10تفسير القرطبي 16 /36)

وقال تعالى مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159].

أخرج ابن أبى حاتم بسند حسن ـ كما قال الحافظ في الفتح (11فتح الباري 13 /340) ـ عن الحسن قال: «قد علم أنه ما به إليهم حاجة ولكن أراد أن يُستن به من بعده».

فالشورى مشاركة في المسئولية وضمانة من الانحراف، ولهذا بوَّب البخاري رحمه الله في صحيحه بهاتين الآيتين:

“باباً في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة”. (12انظر صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (28))

وهذا فقهٌ عميق ونظرٌ دقيق من البخاري، رحمه الله، لأهمية الشورى وكوْن العمل بها اعتصام بالكتاب والسنة وبُعدٌ عن الانحراف والبدعة؛ فما أحوج دعاة الإسلام اليوم إلى تدبّره وتفهمه لتسلم دعوتهم من القرارات العشوائية، والاتجاهات الفردية.

وقد وردت الآثار عن الأئمة في مدح الشورى وبيان فضائلها. قال الحسن البصري: «ما تشاوَر قوم قط بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما يحضُرهم»، وفي لفظ: «إلا عزم الله لهم بالرشد أو بالذي ينفع». (13فتح الباري 13 /340، وقال ابن حجر: أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي حاتم بسند قوي)

وقال بعض العقلاء: “ما أخطأت قط!! إذا حزبني أمر شاورت قومي فعملت الذي يرَون فإن أصبت فهم المصيبون وان أخطأت فهم المخطئون”. (14تفسير القرطبي 16 /37)

وقال البخاري:

“كان الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره”. (15الصحيح، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (28))

وقال ابن العربي:

“الشورى أُلفة للجماعة، ومسار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا”. (16أحكام القرآن 4 /1868)

مشاورة رسول الله لأصحابه

ولقد كانت سيرة رسول صلى الله عليه وسلم وخلافة الخلفاء الراشدين من بعده تطبيقا واقعيا لمبدأ الشورى؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الوحي من الله يسدده؛ يصفه أبو هريرة رضي الله عنه بقوله «ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم» (17أشار إليه الترمذي في كتاب الجهاد من سنته بقول: ويروى عن أبي هريرة، وقال الحافظ في الفتح 13 /340، رجاله ثقات إلا أنه منقطع).

وقد شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأمور العامة كما في القتال يوم بدْر، وفي أسرى بدْر، وفى أحُد والخندق والحديبية بل حتى في الأمور الخاصة، كما في قصة حادثة الإفك.

مشاورة الخلفاء الراشدين

أما الخلفاء الراشدون رضى الله عنهم جميعاً فقد وقعت منهم في خلافتهم أمور كثيرة توضح التزامهم بهذا المنهج الشوري منها:

تشاورهم في اختيار الخليفة، ومنها استشارة أبى بكر رض الله عنه في قتال أهل الردة، وقد أخرج البيهقي بسند صحيح عن ميمون بن مهران قال:

«كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه أمر نظر في كتاب الله؛ فإن وجد فيه ما يقضى به قضى بينهم، وإن علِمه من سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السُنة؛ فإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم. وإن عمر كان يفعل ذلك. (18ذكره الحافظ في الفتح 13 /342) وقد كان القُرّاء أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شباناً. (19صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (28))

وقد شاور عمر الصحابة في الصحابة في “إملاص المرأة” (20صحيح البخاري، كتاب الديات، باب (25))، وأيضاً في”قتال الفرس”، وفى “دخول الشام لما وقع الطاعون بها”، وقد ترك عمر “الخلافة من بعده شورى”.

وشاوَر عثمان رضى الله عنه الصحابة أول خلافته فيما يفعل بـ “عبيد الله بن عمر” لما قتل “الهرمزان” ظناً منه أن له في قتل أبيه مدخلاً.

وشاوَر الصحابة في جمع الناس على مصحف واحد، قال علي بن أي طالب: «ما فعل عثمان الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا»”. (21فتح الباري 13 /342)

فهذه الوقائع من تاريخ الخلفاء الراشدين توضح بما لا مزيد عليه التزامهم بمنهج الشورى في كافة الأعمال المحتاجة إلى ذلك مثل بعث الجيوش واختيار القادة وحكام الأقاليم والولايات والاجتهاد في الأحكام الشرعية التي لا نص فيها بخصوصها.

  1. وقد كانت الشورى طريقاً ومنهجاً في اختيار الخلفاء الأربعة للإمامة العظمى، وإن اختلفت صور المشاورة، وقد قال عمر رض الله عنه: «من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يتابَع هو ولا الذي بايعه» (22رواه البخاري، كتاب الحدود، باب (31)). مما يدل على التزام الشورى في البيعة والخلافة.

دور الشورى في واقع الأمة المعاصر

كم يخرج العلمانيون والليبرليون بالناس من الاسلام الى الإلحاد ورد الشرائع والتشكيك في الدين وتأخير وجوده وفاعليته، ويمنعون فاعليته وحاكميته في التشريع والإعلام والفن والأدب والتعليم وغيره؛ بحجة أن في الأنظمة العلمانية الليبرالية وفي الأنظمة “الديمقراطية” يجد الناس فيها “جودهم” و”فاعليتهم” و”احترامهم” و”حريتهم” و “مشاركتهم السياسية”، بينما هم محرومون منها في “الاسلام”..!

فإذا سألناهم عن صورة “الاسلام” المقصود؛ استحضروا إما صورا معاصرة لمن ينتسب الى الاسلام دون ممارسة لحقيقته (بل يعادونه !)، أو يستحضرون صورا من التاريخ إما مزيفة وإما منتقاة.

بينما الاستبداد مرفوض في الاسلام، والصورة الراشدة توضح التطبيق الأمثل والصحيح للنظام الاسلامي. وأي مخالفة أخرى يقرر الاسلام أنها مخالفة ويعلن هذ العلماء وتعرفه الأمة، فالخط الصحيح معروف ومحفوظ؛ فحفظ أصول الاسلام وصورته الصحيحة جزء من حفظ الوحي.

فحق الأمة مكفول في الإسلام، حقها السياسي وحقها الاجتماعي.

ومن الحق السياسي المشاركة في الحكم، من خلال عمل “أهل الحل والعقد” ودورهم في إلزام الحاكم بدين الله، ثم بما تراه الأمة وبحفظ حقوقها، كما تقوم على الإمام بالحسبة، فتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، ولا تقر انحرافاته؛ فأين تذهبون..؟!

فللتمتع بهذه الحقوق يجب العودة الاسلام، والى صورته الراشدة؛ لا الى الملك العضوض ولا الى الحكم الجبري بطبيعة الحال.

…………………………………………………

هوامش:

  1. المسند للإمام أحمد بن حنبل 5/411.
  2. ابن هشام، السيرة النبوية 2 /661، والطبري 3 /210.
  3. أخرج القصة ابن شبه في أخبار المدينة 2 /755-756 بإسناد صحيح من طريقتين عن الشعبي.
  4. ابن الجوزي: مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ص155.
  5. ابن سعد: الطبقات الكبرى 3 /299، ومسند أحمد حديث رقم 262، ط شاكر.
  6. ابن سعد: الطبقات الكبرى 3 /299.
  7. ابن سعد: الطبقات الكبرى 3 /1313، وابن شبه، أخبار المدينة 2/ 742، ومنتخب كنز العمال 5 /397.
  8. ابن شبه، أخبار المدينة 2 /742.
  9. المحرر الوجيز 2 /280.
  10. تفسير القرطبي 16 /36.
  11. فتح الباري 13 /340.
  12. انظر صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (28).
  13. فتح الباري 13 /340، وقال ابن حجر: أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي حاتم بسند قوي.
  14. تفسير القرطبي 16 /37.
  15. الصحيح، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (28).
  16. أحكام القرآن 4 /1868.
  17. أشار إليه الترمذي في كتاب الجهاد من سنته بقول: ويروى عن أبي هريرة، وقال الحافظ في الفتح 13 /340، رجاله ثقات إلا أنه منقطع.
  18. ذكره الحافظ في الفتح 13 /342.
  19. صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (28).
  20. صحيح البخاري، كتاب الديات، باب (25).
  21. فتح الباري 13 /342.
  22. رواه البخاري، كتاب الحدود، باب (31).

راجع:

  • محمد بن صامل السلمي، مجلة البيان جمادى الآخرة – 1409هـ، فبراير – 1989م، (السنة: 3).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة