ثمة من يرغب عن الفضل ويزهد فيه، وفي المقابل ثمة من يبتدع عما سن رسول الله. ويجب الحذر من الجانبين؛ فالمؤمن يرغب في الخير، ولكن خلف رسول الله.
مقدمة
فضّل الله تعالى بعض الأيام والليالي والشهور على بعض، حسبما اقتضته حكمته البالغة؛ ليجدّ العباد في وجوه البر، ويُكثروا فيها من الأعمال الصالحة، ولكن شياطين الإنس والجن عملوا على صد الناس عن سواء السبيل، وقعدوا لهم كل مرصد؛ ليحولوا بينهم وبين الخير؛ فزيّنوا لطائفة من الناس أن مواسم الفضل والرحمة مجال للهو والراحة، وميدان لتعاطي اللذّات والشهوات.
وحرّضوا طوائف أخرى؛ سواء أكانوا ممن قد يملكون نوايا طيبة ولكن غلب عليهم الجهل بأحكام الدين، أو من ذوي المصالح والرياسات الدينية أو الدنيوية الخائفين على مصالحهم وزوال مواقعهم؛ من مزاحمة مواسم الخير والسّنّة مواسم مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان.
قال حسان بن عطية: «ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ولا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة”. (1الحلية 73/6)
بل قال أيوب السختياني: «ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا زاد من الله بعداً». (2الحلية 9/3)
أبرز المواسم البدعية
ولعل من أبرز تلك المواسم البدعية: ما يقوم به بعض العباد في كثير من البلدان في شهر رجب.
هل لـ (رجب) فضل على غيره من الشهور؟
قال ابن حجر:
“لم يرِد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه.. حديثٌ صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام “أبو إسماعيل الهروي” الحافظ، رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه عن غيره”. (3تبيين العجب فی ما ورد في فضل رجب ، لابن حجر ، ص6)
من أشهر البدع في رجب
صلاة الرغائب
كلام أهل العلم حولها:
قال النووي:
“هي بدعة قبيحة منكرة أشد إنكار، مشتملة على منكرات، فيتعين تركها والإعراض عنها، وإنكارها على فاعلها”. (4فتاوى الإمام النووي ، ص57)
وقال ابن النحاس:
“وهي بدعة؛ الحديث الوارد فيها موضوع باتفاق المحدثين”. (5تنبيه الغافلين، 496)
وقال ابن تيمية:
“وأما صلاة الرغائب فلا أصل لها؛ بل هي محدَثة، فلا تُستحب، لا جماعة ولا فرادى؛ فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى أن تُخص ليلة الجمعة بقيام أو يوم الجمعة بصيام. والأثر الذي ذُكر فيها كذِبٌ موضوع باتفاق العلماء، ولم يذكره أحد من السلف والأئمة أصلاً”. (6الفتاوى لابن تيمية،132/23)
صلاة النصف من رجب
ذُكر في هذه الصلاة حديث مرفوع عن أنس بن مالك، قال اللكنوي:
“أخرجه الجوزقاني، وقال ابن الجوزي والسيوطي وابن عراق وغيرهم: موضوع، ورواته مجاهيل”. (7“الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة” ص 60)
الإسراء والمعراج
“من أعظم معجزات النبي، صلى الله عليه وسلم، الإسراء به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم العروج به الى السماوات السبع فما فوقها.
وقد انتشر في بعض البلدان الاحتفال بذكراها في ليلة السابع والعشرين من رجب، ولا يصح كون ليلة الإسراء في تلك الليلة، قال ابن حجر عن ابن دحية:
“وذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب، قال: وذلك كذب”.
وقال ابن رجب:
“ورُوي بإسناد لا يصح، عن القاسم بن محمد، أن الإسراء بالنبي، صلى الله عليه وسلم، كان في سابع وعشرين من رجب. وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره”.
وقال ابن تيمية:
“لم يقم دليل معلوم لا على شهرها، ولا على عَشرها، ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة ، ليس فيها ما يقطع به”.
على أنه لو ثبت تعيين ليلة الإسراء والمعراج لما شُرع لأحد تخصيصها بشيء؛ لأنه لم يثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من صحابته أو التابعين لهم بإحسان أنهم جعلوا لليلة الإسراء مزية عن غيرها، فضلاً عن أن يقيموا احتفالاً بذكراها، بالإضافة إلى ما يتضمنه الاحتفال بها من البدع والمنكرات”. (8فضائل شهر رجب في الميزان)
الذبح في رجب وما يشبهه
مطلق الذبح لله في رجب ليس بممنوع كالذبح في غيره من الشهور، لكن كان أهل الجاهلية يذبحون فيه ذبيحة يسمونها “العتيرة”، وقد اختلف أهل العلم في حكمها: فذهب الأكثرون إلى أن الإسلام أبطلها، مستدلين بقوله كما عند الشيخين عن أبي هريرة، رضي الله عنه: “لا فرع ولا عتيرة”. (9البخاري، 5473)
وذهب بعضهم كابن سيرين إلى استحبابها، مستدلين بأحاديث عدة تدل على الجواز.
وأجيب عنها بأن حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أصح منها وأثبت؛ فيكون العمل عليه دونها، بل قال بعضهم كابن المنذر بالنسخ؛ لتأخر إسلام أبي هريرة، وأن الجواز كان في صدر الإسلام ثم نُسخ، وهذا هو الراجح.
قال الحسن:
“ليس في الإسلام عتيرة، إنما كانت العتيرة في الجاهلية، كان أحدهم يصوم ويعتر”.
قال ابن رجب:
“ويشبه الذبح في رجب: اتخاذه موسماً وعيداً، كأكل الحلوى ونحوها. وقد روي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه كان يكره أن يُتخذ رجب عيداً”. (10لطائف المعارف، ص227)
تخصيص رجب بصيام أو اعتكاف
قال ابن رجب:
“وأما الصيام: فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه”.
وقال ابن تيمية:
“وأما صوم رجب بخصوصه؛ فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها. وليست من الضعيف الذي يُروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات.
وقد روى ابن ماجة في سننه، عن ابن عباس، عن النبي، صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن صوم رجب»، وفي إسناده نظر؛ لكن صح أن عمر بن الخطاب كان يضرب أيدي الناس؛ ليضعوا أيديهم في الطعام في رجب، ويقول: «لا تشبهوه برمضان».
وأما تخصيصها بالاعتكاف الثلاثة الأشهر: رجب، وشعبان، ورمضان؛ فلا أعلم فيه أمراً، بل كل من صام صوماً مشروعاً وأراد أن يعتكف من صيامه، كان ذلك جائزاً بلا ريب، وإن اعتكف بدون الصيام ففيه قولان مشهوران لأهل العلم”. (11الفتاوى،ج25، ص 290-291)
صوم رجب بين الكراهة والاستحباب المطلق
وكونه لم يرد في فضل صيام رجب بخصوصه شيء لا يعني أنه لا صيام تطوع فيه مما وردت النصوص عامة فيه وفي غيره؛ كالإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وصيام يوم وإفطار آخر، وإنما الذي يُكره كما ذكر الطرطوشي (12فضائل شهر رجب في الميزان، صيد الفوائد) صومه على أحد ثلاثة أوجه:
- إذا خصه المسلمون في كل عام حسب العوام ومن لا معرفة له بالشريعة، مع ظهور صيامه أنه فرض كرمضان.
- اعتقاد أن صومه سنّة ثابتة خصّه الرسول بالصوم كالسنن الراتبة.
- اعتقاد أن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على صيام سائر الشهور، وأنه جارٍ مجرى عاشوراء، وفضل آخر الليل على أوله في الصلاة، فيكون من باب الفضائل لا من باب السنن والفرائض، ولو كان كذلك لبينه النبي، صلى الله عليه وسلم، أو فعله ولو مرة في العمر، ولمّا لم يفعل: بطل كونه مخصوصاً بالفضيلة.
العمرة في رجب
يحرص بعض الناس على الاعتمار في رجب، اعتقاداً منهم أن للعمرة فيه مزيد مزية، وهذا لا أصل له؛ فقد روى البخاري عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: «إن رسول الله اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب، قالت ـ أي عائشة ـ : يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهِدُه، وما اعتمر في رجب قط». (13البخاري، 1776
الزكاة في رجب
اعتاد بعض أهل البلدان تخصيص رجب بإخراج الزكاة، قال ابن رجب عن ذلك:
“ولا أصل لذلك في السُنّة، ولا عُرِف عن أحد من السلف.
وبكل حال: فإنما تجب الزكاة إذا تم الحول على النصاب، فكل أحدٍ له حولٌ يخصه بحسب وقت ملكه للنصاب؛ فإذا تم حولُه وجب عليه إخراج زكاته في أي شهر كان”.
ثم ذكر جواز تعجيل إخراج الزكاة لاغتنام زمان فاضل كرمضان، أو لاغتنام الصدقة على من لا يوجد مثله في الحاجة عند تمام الحول، ونحو ذلك”. (14لطائف المعارف، ص231)
خاتمة
تكلم سلف الأمة عن معنى عظيم؛ وهو أن “الاقتصاد في سنة خير من الاجتهاد في بدعة”، وأن الشيطان يفرح بالظفر بالعاصي، وفرحه بالمبتدع أشد لأنه لا يرى لنفسه ذنبا يتوب منه.
لذا وجب التحري قبل العمل للتأكد أنه قد شرعه الله ورسوله، ليكون في محل القبول والرضا.
……………………………….
الهوامش:
- الحلية 73/6.
- الحلية 9/3.
- تبين العجب فی ما ورد في فضل رجب ، لابن حجر ، ص6.
- فتاوى الإمام النووي ، ص57.
- تنبيه الغافلين، 496.
- الفتاوى لابن تيمية،132/23.
- “الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة” ص 60.
- فضائل شهر رجب في الميزان.
- البخاري، 5473.
- لطائف المعارف، ص227.
- الفتاوى،ج25، ص 290-291.
- فضائل شهر رجب في الميزان، صيد الفوائد.
- البخاري،1776.
- لطائف المعارف، ص231.