حين تختلط المفاهيم تتشوّه الحقائق الثابتة… فكيف نتعامل مع محاولات تصوير الاختلاف العقدي على أنه وحدة دين؟
تتكرر في بعض الخطابات المعاصرة عبارات توحي بتقارب عقدي أو وحدة رسالة بين الإسلام وغيره من الأديان، مما يستدعي وقفة تأمل تعيد الأمور إلى سياقها الشرعي الصحيح. وتوضح النصوص المحكمة الاتجاه الذي يجب أن يُرجع إليه في فهم الولاء والبراء وطبيعة العلاقة مع غير المسلمين دون إفراط أو تفريط.
وهذه الفتوى الكريمة تسهم في توضيح المعنى..
مناسبة الفتوى والتذكير
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
أما بعد..
فقد نشرت صحيفة عكاظ في عددها 3031 الصادر بتاريخ 27/8/1394هـ خبرا يتعلق بإقامة صلاة الجمعة في مسجد قرطبة، وذكرت فيه أن الاحتفال بذلك يعد تأكيدا لعلاقات الأخوة والمحبة بين أبناء الديانتين الإسلام والمسيحية. انتهى المقصود.
كما نشرت صحيفة أخبار العالم الإسلامي في عددها 395 الصادر بتاريخ 29/8/1394هـ الخبر المذكور وذكرت ما نصه (ولا شك أن هذا العمل يعتبر تأكيدا لسماحة الإسلام وأن الدين واحد) إلى آخره.
ونظرا إلى ما في هذا الكلام من مصادمة الأدلة الشرعية الدالة على أنه لا أخوة ولا محبة بين المسلمين والكافرين، وإنما ذلك بين المسلمين أنفسهم، وأنه لا اتحاد بين الدينين الإسلامي والنصراني، لأن الدين الإسلامي هو الحق الذي يجب على جميع أهل الأرض المكلفين اتباعه، أما النصرانية فكفر وضلال بنص القرآن الكريم.
نصوص القرآن الموضحة لحقيقة الاعتقاد
ومن الأدلة على ما ذكرنا قول الله سبحانه في سورة الحجرات: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ الآية، (الحجرات:10).
وقول الله عز وجل في سورة الممتحنة: ﴿قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ فِیۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَٱلَّذِینَ مَعَهُۥۤ إِذۡ قَالُوا۟ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَ ٰۤ ؤُا۟ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَاۤءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥۤ﴾ الآية،(الممتحنة:4).
وقوله سبحانه في سورة المجادلة: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (المجادلة:22)،
وقوله تعالى في سورة التوبة: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ الآية، (التوبة:71)
وقوله سبحانه في سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (المائدة:51).
وقوله عز وجل في سورة آل عمران: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ﴾ الآية (آل عمران:19)، وقوله تعالى في السورة المذكورة: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران:85)
وقوله عز وجل في سورة المائدة: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ الآية (المائدة:72)، وقوله سبحانه في سورة المائدة أيضا: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ الآية (المائدة:73).
وقوله تعالى في سورة الكهف: ﴿قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِینَ أَعۡمَـٰلًا ١٠٣ ٱلَّذِینَ ضَلَّ سَعۡیُهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ یَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ یُحۡسِنُونَ صُنۡعًا ١٠٤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَاۤىِٕهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَلَا نُقِیمُ لَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَزۡنࣰا﴾ (الكهف:103-105)
الموقف العقدي من المسلمين ومن الكفار
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله ولا يكذبه..» 1رواه مسلم، ففي هذه الآيات الكريمات والحديث الشريف وما جاء في معنى ذلك من الآيات والأحاديث ما يدل دلالة ظاهرة على أن الأخوة والمحبة إنما تكون بين المؤمنين أنفسهم.
أما الكفار فيجب بغضهم في الله ومعاداتهم فيه سبحانه، وتحرم موالاتهم وتوليهم حتى يؤمنوا بالله وحده ويدَعوا ما هم عليه من الكفر والضلال.
وحدة دعوة الأنبياء ونسخ الشرائع السابقة بالإسلام
كما دلت الآيات الأخيرة على أن الدين الحق هو دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وسائر المرسلين.
وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء ديننا واحد» 2رواه البخاري في صحيحه.
أما ما سواه من الأديان الأخرى سواء كانت يهودية أو نصرانية أو غيرهما فكلها باطلة، وما فيها من حق فقد جاءت شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم به أو ما هو أكمل منه، لأنها شريعة كاملة عامة لجميع أهل الأرض.
أما ما سواها فشرائع خاصة نسخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي أكمل الشرائع وأعمّها وأنفعها للعباد في المعاش والمعاد، كما قال الله سبحانه يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ الآية(المائدة : 48).
وجوب اتباع الرسول والتحاكم إلى شريعته
وقد أوجب الله على جميع المكلفين من أهل الأرض اتباعه والتمسك بشرعه، كما قال تعالى في سورة الأعراف بعد ذكر صفة محمد عليه الصلاة والسلام: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (سورة الأعراف الآية:157).
ثم قال عز وجل بعدها: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (سورة الأعراف الآية 158).
ونفى الإيمان عن جميع من لم يحكمه، فقال سبحانه في سورة النساء: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (سورة النساء الآية 65).
شرك أهل الكتاب وتحريفهم لعقيدة التوحيد
وحكم على اليهود والنصارى بالكفر والشرك من أجل نسبتهم الولد لله سبحانه، واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله عز وجل بقوله تعالى في سورة التوبة:
﴿وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ عُزَیۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَـٰرَى ٱلۡمَسِیحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَ ٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡۖ یُضَـٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن قَبۡلُۚ قَـٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ یُؤۡفَكُونَ ٣٠ ٱتَّخَذُوۤا۟ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَـٰنَهُمۡ أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوۤا۟ إِلَـٰهࣰا وَ ٰحِدࣰاۖ لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ عَمَّا یُشۡرِكُونَ ٣١ یُرِیدُونَ أَن یُطۡفِـُٔوا۟ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَیَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّاۤ أَن یُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ ٣٢ هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ﴾ (سورة التوبة: الآيات 30-33).
التعاون المشروع دون الوقوع في المداهنة
ولو قيل أن هذا الاحتفال يعتبر تأكيدا لعلاقات التعاون بين أبناء الديانتين فيما ينفع الجميع، لكان ذلك وجيها ولا محذور فيه.
ولِواجب النصح لله ولعباده رأيت التنبيه على ذلك؛ لكونه من الأمور العظيمة التي قد تلتبس على بعض الناس.
وأسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين للأخوة الصادقة في الله والمحبة فيه ومن أجله..
وأن يهدي أبناء البشرية جميعا للدخول في دين الله الذي بعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، والتمسك به وتحكيمه ونبذ ما خالفه، لأن في ذلك السعادة الأبدية والنجاة في الدنيا والآخرة، كما أن فيه حل جميع المشاكل في الحاضر والمستقبل..
إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
الهوامش
- رواه مسلم.
- رواه البخاري في صحيحه.
المصدر
- الموقع الرسمي لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله.

