إن التصور السليم لا ينفي مؤامرات الأعداء ومكائدهم وسعيهم الدؤوب لإلحاق الضرر والأذى بالمسلمين، لكن لا ينبغي تبرئة النفس من كل سبب للقصور أو النقص، بل لا شك أن من أسباب نجاح كيد الكائدين ومؤامراتهم هو أخطاء النفس وتقاعسها عن القيام بما وجب عليها .

مناسبة الآية

إن عنوان هذا المقال جزء من آية كريمة نزلت مع ما قبلها وما بعدها في غزوة أحد الشهيرة ، والتي أصاب المسلمين فيها ما أصابهم من القرح الشديد ؛ حيث قتل فيها سبعون من الصحابة ، وجرح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وشج وجهه الشريف ، وانكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم ، وهذه الآية واحدة من ثمانين آية نزلت في سياق الغزوة في سورة آل عمران ، وفي هذه الآيات من العبر والدروس الشيء العظيم ، ونكتفي في مقالنا هذا بالآية المذكور جزء منها في عنواننا هذا ؛ حيث يقول الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 190].

سؤال وجواب

وقد جاءت هذه الآية تعقيبا على سؤال سأله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن سبب الهزيمة التي حلت بهم، وجوابا لاستغرابهم القرح الشديد الذي أصابهم وهم المسلمون وقائدهم سيد البشر ، وحبیب الرحمن محمد صلى الله عليه وسلم ، وعدوهم المشركون المشاقون لله وللرسول ، فجاءهم الجواب من العليم الخبير العزيز الحكيم أنهم أتوا من عند أنفسهم ، وبسبب ذنوبهم وقد قدر الله عز وجل هذه المصيبة ، لحكم أخرى ذكرتها الآية التالية لهذه الآية ، وهي قوله تعالی: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ۖ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ ۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ [آل عمران: 166-167] .

قال الإمام الشوكاني رحمه الله حول قوله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ… الآية﴾:

(الألف للاستفهام بقصد التقريع، والواو للعطف . والمصيبة: للغلبة والقتل الذي أصيبوا به يوم أحد. ﴿قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا﴾ يوم بدر ؛ وذلك أن الذين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعون ، وقد كانوا قتلوا يوم بدر من المشركين سبعين وأسروا سبعين ، فكان مجموع القتلى والأسرى يوم بدر مثلي القتلى من المسلمين يوم أحد .

والمعنى: أحين أصابكم من المشركين نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم وقلتم: من أين أصابنا هذا؟، ونحن نقاتل في سبيل الله ، ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد وعدنا الله بالنصر عليهم.

وقوله: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عن سؤالهم بهذا الجواب ؛ أي هذا الذي سألتم عنه هو من عند أنفسكم بسبب مخالفة الرماة لما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من لزوم المكان الذي عينه لهم، وعدم مفارقتهم له على كل حال.

وقيل: المراد بقوله: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ خروجهم من المدينة ، وقيل: هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل)11- فتح القدير، الشوكاني، (596/1). .

سنن الله عز وجل لا تحابي أحدا

ويعلق سید قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله: (لقد كتب الله عز وجل على نفسه النصر لأوليائه حملة رايته ، وأصحاب عقيدته ، ولكن علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم ، وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم ، وسلوكهم ، وباستكمال العدة التي في طاقتهم ، وبذل الجهد الذي في وسعهم ، فهذه سنة الله ، وسنة الله لا تحابي أحدا.

فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور ، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير ؛ فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن ، وإبطال النوامیس ؛ فإنما هم مسلمون ؛ لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس .

ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدرا ، كذلك ، ولا يضيع هباءا ؛ فإن استسلامهم لله وحملهم الراية وعزمهم على طاعته ، والتزام منهجه. من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيرا وبركة في النهاية ، بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح ، وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروسا وتجارب تزيد من نقاء العقيدة ، وتمحيص القلوب ، وتطهير الصفوف، وتؤهل للنصر الموعود ، تنتهي بالخير والبركة ، ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته ، بل تمدهم بزاد الطريق ، مهما يمسهم من القرح والألم والضيق أثناء الطريق.

وبهذا الوضوح والصراحة معا يأخذ الله الجماعة المسلمة ، وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع ، ويكشف عن السبب القريب من أفعالها: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) ، أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر ﴿حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ فأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأنفسكم هي التي خالجها الهواجس والأطماع ، وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ﴾ ؛ فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم وتقولون: كيف هذا ؟، هو من عند أنفسكم بانطباق سنن الله عز وجل عليكم حين عرضتم أنفسكم لها)22- في ظلال القرآن، سيد قطب، (492/1)..

عدل الله عز وجل في معاملة العباد

ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشوری: 30]، ومعنى هذه الآية من الوضوح بحيث لا يحتاج معه إلى توضيح وتفسير .

ويقول الله عز وجل: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 53].

قال الإمام ابن کثیر رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ [الرعد: 11])33- تفسير ابن كثير، (78/4). .

وقال صاحب الظلال رحمه الله حول نفس هذه الآية: (إنه من جانب يقرر عدل الله عز وجل في معاملة العباد ، فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم ، ويبدلوا سلوكهم ، ويقلبوا أوضاعهم ، ويستحقوا أن يغير ما بهم مما أعطاهم إياه للابتلاء والاختيار، من النعمة التي لم يقدروها ويشكروها .

ومن الجانب الآخر يكرم هذا المخلوق الإنساني أكبر تکریم حين يجعل قدر الله به ينفذ ويجري، عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله ، ويحصل التغيير القدري في حياة الناس مبنيا على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم، وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم ، ومن جانب ثالث يلقي تبعة عظيمة – تقابل التكريم العظيم – على هذا الكائن ، فهو يملك أن يستبقي نعمة الله عليه ، ويملك أن يزاد عليها إذا هو عرف فشكر ، كما يملك أن يزيل هذه النعمة عنه إذا هو أنكر وبطر وانحرفت نواياه ، فانحرفت خطاه)44- في ظلال القرآن، سيد قطب، (432/3)..

خطورة العوائق الداخلية على الفرد والمجتمع

ومن هذا الاستعراض العام لمفهوم هذه الآيات يتبين لنا خطورة العوائق الداخلية في أنفسنا ، والتي لها دور كبير في حصول المصائب الفردية والجماعية ، فنحن المسلمين اليوم كثيرا ما نلقي أسباب هزائمنا وتأخرنا عن غيرنا على العوائق الخارجية كالغزو الفكري ، وكيد الكفار والمفسدين .

ولا شك أن للعوائق الخارجية دورا في مصائبنا ، لكنها لم تكن لتؤدي دورها لو أصلحنا ما بأنفسنا ، كما قال تعالى: ﴿وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120]، فما كان لكيد الأعداء الخارجيين أثر لو صبرنا واتقينا الله عز وجل وحاربنا عدونا الداخلي الذي بين جوارحنا ، كما قال أحد الدعاة – رحمه الله تعالی – تلك المقولة الحكيمة: “أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم تقم في أرضكم”.

إن الاهتمام بإزالة العوائق الداخلية، جزء أساسي من اهتمامنا بتوفير شروط الانتصار على العوائق الخارجية، التي تحاول منع تحركنا نحو أهدافنا.

إننا معشر الدعاة كثيرا ما ننسى أنفسنا ، ونحن ندعو الناس ؛ حيث نجعل أكثر همنا في الآخرين ، والتفتيش عن عيوبهم ونقدهم، وفي هذه الزحمة ينسى أو يتناسى الإنسان نفسه ، وما فيها من الأمراض والمخالفات التي قد تفتك به في يوم من الأيام، وإن نسيان النفس والحرص على إصلاحها والوقوف على سيئاتها، علامة خطيرة يخشى على صاحبها أن يقع تحت قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 19].

وعندما نطرح مثل هذا الموضوع، فإننا نحتاج في ذلك إلى قومة لله عز وجل صادقة، ووقفة شجاعة مع أنفسنا، لنفتش وننقب في أعمالنا الظاهرة والباطنة، وسنجد وللأسف أشياء وأشياء، لولا ستر الله عز وجل ورحمته لما قبل الناس منا كلمة واحدة.

الهوامش

1- فتح القدير، الشوكاني، (596/1).

2- في ظلال القرآن، سيد قطب، (492/1).

3- تفسير ابن كثير، (78/4).

4- في ظلال القرآن، سيد قطب، (432/3).

اقرأ أيضا

مراعاة السنن الربانية .. من هدي الأنبياء

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (2-7) علوم ضرورية، العلم بالسنن الالهية

حسن التعامل مع الهزيمة يحولها نصراً

المعالم الرئيسية لمنهج التغيير الصحيح

 

التعليقات غير متاحة