قد تطغى أمة، وقد يطغى امرؤٌ. وفي التاريخ عبرة لنهاية الطغيان. فلا ينبغي إهمال التاريخ، كما ينبغي الاعتبار بمآلات الحق وأهله والطغيان وأهله.

التاريخ كتاب

التاريخ كتاب عظيم الفائدة لمن أراد أن يقرأه ويستفيد من حوادثه كمنهج قرآني؛ قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن قَبْلُ﴾ (الروم: 42).

وقد استخدم الرسول، صلى الله عليه وسلم، هذا المنهج في غير موضع.

والنظر الى التاريخ وقراءته على وجه الاعتبار يمنع تكرار الأخطاء ويستفيد الناظر من أخطاء من سبقه، بل ويعلم نهايات دورات الطغيان وعاقبة الأخيار وانتصار الحق وأهله.

غزارة الفوائد

دراسة التاريخ غزيرة الفوائد ولعل من أهمها:

أولاً: إن الحقائق تصبح ظاهرة.. حيث أن الحادثة وتفاعلاتها ونتائجها تكون معروفة، لذلك يمكن إعطاء الأحكام العادلة على الحوادث المنصرمة.

ثانياً: يصبح في المقدور ربط الحاضر بأصوله، وجذوره في الماضي، فلا نُخدع بالثمرة الحسنة المظهر المرة المذاق من الشجرة الخبيثة الأصل، وعلى أثر ذلك فإن أحكامنا على الحوادث والأمور الحاضرة سوف تتسم بالجدية والأسلوب العلمي البعيد عن العاطفة والتخمين.

ثالثاً: يمكننا عند دراسة التاريخ ـ دراسة واعية ـ أن نستشف المستقبل، فيصبح خداعُنا أمراً صعباً ومستحيلاً، وتكون الخطط المستقبلية ـ وهي أحد أساسيات تطور الشعوب ـ مبنية على أسس صلبة لا تتأثر بالرياح الموسمية.

الطغيان

إذن التاريخ يخبرنا عن الماضي لنفهم الحاضر ونخطط للمستقبل، وفي هذه المقالة أريد أن أدرس أمراً واحداً فقط وهو “الطغيان” لنرى ماذا يقول التاريخ فيه.

تعريف الطغيان

والطغيان في اللغة:

مجاوزة الحد والتعدي

وعند تطبيق هذا المعنى في “الدين” يكون الطغيان:

“التمرد على أوامر الله سبحانه وتعالى ومحاربته سبحانه”.

أسس الطغيان

وللطغيان أسس هي:

“الطاغوت”؛ وهو “كل ما يعبد من دون الله تعالى.. صنم.. رجل..شجرة.. حزب.. منهج … الخ”.

“الطاغية”؛ وهو “المؤمن بأحد هذه الطواغيت، ويجبر الناس على  عبادتها مثله”.

“السبيل” الذي يسلكه الطاغية للوصول إلى هدفه، وقد يكون هو القت،. التجويع، الإغراء.. الخ.

“الأمة” الضعيفة .. الجاهلة .. الواهنة .. المترَفَة.

ويقول لنا التاريخ أنه لا بد من اجتماع هذه الأصول، فالطاغوت بدون طاغية لا قيمة له، والطاغية لا يجبر الأمة العالِمة القوية المجاهدة على عبادة طاغوته مهما استخدم من سُبل، وقد تطغى أمة بمجموعها أو قد يطغى فرد واحد، والأمثلة على النوعين كثيرة.

طغيان الأمم

قوم نوح، عليه السلام، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً ونَهَاراً *  فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إلاَّ فِرَاراً * وإنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وأَصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً﴾ (نوح:5-7).

القومُ أبوا إلا عبادة الأصنام وأصروا على ذلك.. قال تعالى: ﴿وقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ولا تَذَرُنَّ وداً ولا سُوَاعاً ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْراً﴾ (نوح: 23)، أعلنوها حرباً صريحة مع الله تعالى، وهنا صدر الحكم، قال تعالى: ﴿مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا﴾ (نوح: 25).

إذن اتخذوا طواغيت.. استكبروا وأصروا على غيهم.. أعلنوا الحرب مع الله فأُغرقوا وانتقلوا من الدنيا إلى جهنم وبئس المصير.

ثم قوم هود، وهم عاد كانوا جبابرة، قال لهم نبيهم: ﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الأعراف: 169).

وقال تعالى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة﴾ (فصلت 15).

إذن أعلنوا التحدي لله تعالى بل طلبوا المنازلة..! وهنا صدر الحكم، قال تعالى: ﴿وأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً﴾ (الحاقة: 6-7).

أما قوم لوط؛ فاختاروا طريق الشهوات ونكّسوا فطرتهم، وأصبح العفاف عندهم جريمة تستوجب النفي، ألم يقولوا ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (النمل: 56)، ومثلهم قوم شعيب وقوم سبأ.. الخ.

خلاصة طغيان الأمم

مما سبق نستنتج من قوله تعالى:

﴿ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ ولَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ﴾ (الأعراف: 96-99)..

أن التاريخ يقول: أن الأمة التي تكثر معاصيها وتطغى لا بد وأن تهلك، ولا ينجو إلا من آمن بالله تعالى، بل إن المؤمن إن لم ينْه عن المنكر فقد يهلكه ذلك المنكر الذي لم ينه عنه.

طغيان الأفراد

والنوع الثاني من الطغيان هو طغيان الأفراد.

ومن أمثلة ذلك إمامهم وقدوتهم “فرعون” الذي أُعطى كل دعائم القوة.. الشباب.. السلطة.. الفصاحة.. المال.. الجيوش.. الأراضي.. القصور.. العبيد.

ومع ذلك كله كان عنده قومه؛ إنهم كانوا قوم سوء فاسقين، لأنهم مهّدوا له طريق الطغيان، كل هذا جعله يقول لهم: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ فأماته الله شر ميتة مع جنده، وهو في أوج مجده.

و”قارون” كان فقيراً معدماُ فرزقه الله المال وأحسن اليه، فلم يحمد الله على ذلك.. فخُسفت به الأرض وهو يمشي متبختراً بين قومه.

و”كسرى”.. كان أقوى ملوك الدنيا في عصره ولكنه ـ باستخفاف الطاغية ـ لم يحترم رسالة الرسول، صلى الله عليه وسلم؛ بل مزقها، فمزق الله ملكه.

و”أبو جهل” لقي نفس المصير.

مصير مشترك

لقد ماتوا شر ميتة وهم في أوج تغطرسهم..

وفي عصرنا الحاضر ماذا كانت عاقبة “هتلر”.. جنرالات إسبانيا.. ماذا حصل لـ “تشاوشيسكو”.. المصير واحد والمعادلة معروفة

“الطغيان يؤدي إلى الهلاك”

التاريخ يقول لنا أن “الطاغية” يصل إلى أوج مجده ثم بسرعة جداً يسقط إلى الحضيض، ومن لا يعتبر فالسنة الربانية لا تتغير.

الطاغي بين أمة صالحة

وإن سألت ما هو حال من يطغى في وسط أمة صالحة؟

فالجواب: هو ما حصل لصاحب الجنتين الذي قال لصاحبه وهو يحاوره: ﴿ومَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ولَئِن ُّدِدتُّ إلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً﴾ (الكهف 36) ، أُحرقت جنته وأصبح يعضّ أصابع الندم.

الحقيقة التي لا تقبل الجدل هي قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى * وآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى﴾ (النازعات 37-39).

مآلات الطغاة

إن العودة إلى الله تعالى وترك المعاصي هي سبيل النجاة الوحيد للأمم والأفراد، ووقوع الكوارث والمصائب لا يكون إلا عندما تكثر المعاصي، ولا تُرفع إلا بالتوبة إلى الله عز وجل.

وباختصار إذا أرادت أمة أن تطغى، أو أراد فرد أن يطغى.. فلتبحث تلك الأمة، أو ذلك الفرد، عن ملكوت غير ملكوت الله تعالى، أما في ملكوته فهو وحده الجبار المتكبر سبحانه وتعالى.

……………………………….

المصدر:

  • د.محمد عابد. مجلة البيان ذو الحجة – 1413هـ

اقرأ أيضا:

 

التعليقات غير متاحة