لقد ساءنا تحريف المحرِّفين لمعاني كلام رب العالمين، وللنتائج الخاطئة التي خرجوا بها منها، والأحكام الباطلة التي بنوها عليها، كما أزعجنا ازدياد نسبة هذه التحريفات في هذا الزمان، وشمولها لآيات ذات أبعاد شتى، سياسية واجتماعية واقتصادية وعلمية.

واجب الدعوة إلى الله والنصح للمسلمين

قرأنا عن مفاهيم لبعضهم زعموها قرآنية مستمدة من القرآن، كما سمعنا كلاماً كثيراً أورد فيه أصحابه مفاهيم ومعاني زعموها قرآنية، مستمدَّة من آيات معينة، وقَبِل بعض الناس بهذا التحريف، وهذه النتائج والمفاهيم.

وحرصاً منّا على بقاء مفاهيم القرآن كما هي في كتاب الله، وعلى الفهم الصحيح لآيات القرآن، وقياماً منّا بواجب الحراسة على حسن الفهم للقرآن، وواجب الدعوة إلى الله والنصح للمسلمين، وواجب تقديم العلم الذي نراه نافعاً للآخرين، فإننا سنورد نماذج حرَّفوها، واستنبطوا منها أحكاماً ومفاهيم زعموها قرآنية.

سنورد الآية، ثم نذكر ما استنبطه منها هؤلاء، ووجه استدلالهم بها، حتى نقرر حجتهم ونورد شواهدهم -من باب العلمية والمنهجية والموضوعية- ثم نبين المعنى الصحيح الذي تدل عليه الآية، كما هو مستمدّ منها نفسها، ومن السياق الذي وردت فيه، ومن بيان القرآن لحقائقها في الآيات الأخرى، ومن فهم الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة لها -إن صح النقل عنهم في ذلك-.

ومن الله نستمدّ العون والتوفيق والفهم والسداد، وإليه وحده نتوجه بهذا العمل، راجين مرضاته وثوابه:

نماذج لآيات حرَّفوا معناها: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)

قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

هذه آيةٌ كريمةٌ، اعتمد عليها الكسالى والقاعدون والمقصرون والجبناء في عدم القيام بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. واعتبروها تقدم لهم عذراً في القعود، ورخصةً في عدم القيام بالواجب، و” فتوى ” قرآنية تبرِّر لهم ما هم فيه!

معنى الآية عند هؤلاء المحرِّفين: إنها تجيز لكل مسلم أن يعود إلى نفسه وأن يلزمها بالطاعة والعبادة والذكر. وأن يبتعد هو عن المحرمات والمعاصي.

فإذا فعل هذا فقد أدّى الواجب الذي يريده الله منه. ولا يجب عليه -بل غير مطلوب منه- أن يدعو الآخرين إلى الله، وأن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. إن الآية تقول لكل مسلم: عليك نفسك، أصلحها وأبعدها عن المعاصي، ودع غيرك ولا تَدْعُه إلى الله، وهو لا يضرك، ولا يؤثر عليك بضلاله، ألستَ عابداً؟ ألست تاركاً للمعاصي؟ إذن أنت مهتد، ولو لم تخاطب الآخرين.

هذا فهم خاطئ لمعنى الآية، بل قَلْبٌ له، وإتيانٌ بعكسه. وفي هذه المناسبة نقول:

قد يقعد بعض المسلمين عن أداء الواجب، وقد يفرِّطون في بعض الأوامر، وقد يرتكبون بعض المحظورات، وهذا حرام، وفيه إثمٌ ووعيدٌ بالعذاب. لكن الذي يكون إثمه مضاعفاً، وجريمته مزدوجة، وعذابه شديداً أليماً يوم القيامة، هو ذلك الذي يفلسف قعوده عن أداء الواجب، ويبرر مخالفته للأوامر، ويتبجح في ارتكاب الحرام، و ” يتعالم ” على الإِسلام والقرآن، ويسند مخالفته بآياتٍ من القرآن يحرف معناها، ويلوي أعناقها. إنه يجمع بين الجريمتين: جريمة المخالفة وجريمة التحريف، ويجني إثمين: إثم الخطأ وإثم الافتراء.

طائفة من أقوال السلف الصالح في معنى الآية

أخرج أصحاب السنن عن قيس بن أبي حازم قال: صعد أبو بكر منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أيها الناس: إنكم تقرأون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ). وإنكم تضعونها على غير موضعها. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر، ولم يغيِّروه أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب».

وفي روايةٍ أخرى أخرجها ابن جرير الطبري، عن خطبة أبي بكر قال: «أيها الناس: إنكم لتتلون آية من كتاب الله، وتَعُدّونها رخصة، واللهِ ما أنزل الله في كتابه أشدّ منها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ). والله لتأمُرنَّ بالمعروف ولتنهَونَّ عن المنكر أو ليعمَّنَكم الله منه بعقاب».

وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي أمية الشَّعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه فقلت له: ما تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قال: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، قال: أما والله لقد سألتَ عنها خبيراً. لقد سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مُؤثَرَة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن مِنْ ورائكم أيام الصبر، الصابر فيهن مثلُ القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً، يعملون مثل عملكم».

وأخرج أحمد عن أبي عامر الأشعري أنه كان فيهم شيء، فاحتبس على رسول الله صلى الله وسلم، ثم أتاه .. فقال: ما حبسك؟ قال: يا رسول الله: قرأتُ هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أين ذهبتم؟ إنما هي لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم».

وأخرج ابن جرير وآخرون عن أبي العالية: قال: «كانوا عند عبد الله بن مسعود، فوقع بين رجلين ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: أَلا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟، فقال آخر إلى جانبه: عليك نفسك، فإن الله تعالى يقول: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، فسمعها ابن مسعود فقال: مَهْ! لم يجئ تأويل هذه الآية بعد. إن القرآن أُنزل حيث أُنزل، ومنه آيٌ يقع تأويلهن عند الساعة، ما ذُكر من أمر الساعة، ومنه آيٌ يقع تأويلهن عند الحساب، ما ذُكر من أمر الحساب والجنة والنار، فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تُلْبَسوا شيعاً، فلم يذق بعضكم بأس بعض، فمُروا وانهوا، فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وأُلْبستم شيعاً، وذاق بعضكم بأس بعض، فكل امرئ ونفسَه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية».

وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال: «كنت في حلقة فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقلت: أليس الله يقول: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، فأقبلوا عليَّ بلسانٍ واحدٍ، فقالوا: أتنزع آية من كتاب الله لا تعرفها ولا تدري ما تأويلها؟ حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت، ثم أقبلوا يتحدثون. فلما حضر قيامهم قالوا: إنك غلام حَدَث السن، وإنك نزعت آية لا تدري ما هي. وعسى أن تدرك ذلك الزمان: إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوًى متبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يضرك من ضلَّ إذا اهتديت».

وأخرج ابن مردويه عن أبي بكر الصدّيق قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما ترك قؤمٌ الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بذل، ولا أقرَّ قوم المنكر بين أظهرهم إلا عمَّهم الله بعقاب، وما بينكم وبين أن يعمكم الله بعقاب من عنده، إلا أن تَأَوّلوا هذه الآية، على غير أمر بمعروف ولا نهي عن منكر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)».

وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله: أخبرني عن قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، قال: يا معاذ: «مروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيتم شحاً مطاعاً، وهوًى متبعاً، وإعجاب كل امرئ برأيه، فعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يضركم ضلالة غيركم، فإن من ورائكم أيام صبر، المتمسك فيها بدينه مثل القابض على الجمر، للعامل منهم يومئذ مثل عمل أحدكم اليوم، كأجر خمسين منكم» . قلت: يا رسول الله: خمسين منهم؟ قال: «بل خمسين منكم أنتم».

وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: ذكرتُ هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «لم يجئ تأويلها، لا يجيء تأويلها حتى يهبط عيسى ابن مريم عليه السلام».

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، يقول: إذا ما أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام، فلا يضره من ضل بعده، إذا عمل بما أمرته به.

وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير أنه سئل عن هذه الآية فقال: نزلت في أهل الكتاب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) من أهل الكتاب (إِذا اهْتَدَيْتُمْ).

وأخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان في قوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) إذا أَمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر.

وأخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب في قوله: (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، قال: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، لا يضرك من ضلَّ إذا اهتديت.

وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه تلا هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، فقال: الحمد لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي، إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله.

المعنى الراجح للآية الكريمة

وقد عقب الإمام ابن جرير الطبري على الأقوال التي أوردها في معنى الآية تعقيباً لطيفاً، ورجَّح منها القول الذي قال به الصحابة والتابعون وجمهور العلماء.

قال: وأوْلى هذه الأقوال وأصحّ التأويلات عندنا، ما رُوي عن أبي بكر الصديق، وكأنه يقول: إنه لا يضركم ضلال من ضل، إذا أنتم لزمتم العمل بطاعة الله، وأدَّيتم فيمن ضل من الناس ما ألزمكم الله به فيه، من فرض الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي يركبه أو يحاول ركوبه، والأخذ على يديه إذا رام ظلماً لمسلم أو معاهد ومنعه منه، فأبى النزوع عن ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيِّه وضلاله.

وإنما كان هذا أوْلى التأويلات بالصواب: لأن الله أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البرّ والتقوى. ومن القيام بالقسط الأخذُ على يدي الظالم. ومن التعاون على البرّ والتقوى الأمر بالمعروف. وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو كان للناس تَرْكُ ذلك لم يكن للأمر به معنى.

وعلى هذا يدخل في معنى الآية ما قاله حذيفة وسعيد بن المسيب: إذا اهتديتم: إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر. ومعنى ما رواه أبو ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما الإمام فخر الدين الرازي، فقد ردَّ ما قد يفهمه البعض من الآية، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير واجبين، وأنها تقدِّم رخصة للناس في تركهما:

1 – إن الآية لا تدل على ذلك، بل إنّ المطيع لربِّه لا يكون مؤاخَذاً بذنوب العاصي، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثابت بالروايات في تفسير الآية.

2 – قال الإمام عبد الله بن المبارك: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه قال: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ): يعني عليكم أهل دينكم. ولا يضركم من ضل من الكفار. وهذا كقوله: (فاقتلوا أنفسكم)، يعنى أهل دينكم. فقوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، يعني بأن يعظ بعضكم بعضاً، ويرغِّب بعضكم بعضاً في الخيرات، وينفره عن القبائح والسيئات. والذي يؤكد ذلك ما بينّا أنّ قوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) معناه: احفظوا أنفسكم، فكان ذلك أمراً بأن نحفظ أنفسنا، فإن لم يكن ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان ذلك واجباً.

3 – (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ): من أداء الواجبات التي من جملتها الأمر بالمعروف عند القدرة، فإن لم يقبلوا ذلك فلا ينبغي أن تستوحشوا، فإنكم خرجتم من عهدة تكليفكم، فلا يضركم ضلال غيركم.

4 – أنه تعالى قال لرسوله: (فَقاتِلْ في سَبيلِ اللهِ لاتكَلَّفُ إِلا نَفْسَك)، وذلك لا يدل على سقوط الأمر بالمعروف عن الرسول – صلى الله عليه وسلم -، فكذا ههنا.

الآية تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

من هذه الروايات التي نقلناها، والأقوال التي أوردناها في معنى الآية، يتبين لنا أنها لا تقدم رخصةً في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما هي تدل على وجوبه على المسلمين. هذا ما وضَّحه الرسول – صلى الله عليه وسلم – وسلم من معناها، وهذا ما وضَّحه الصحابة والتابعون والعلماء، وصحَّحوا للمسلمين الخطأ الذي وقعوا فيه حولها، وصوَّبوا لهم فهمهم لها.

وإذا كان مسلمون من أهل هذا الزمان، يعتبرون هذه الآية رخصةً لهم في القعود عن الواجب، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، فإننا نقدم هذه الروايات عن السابقين، والتصويبات التي قدَّموها للآخرين في فهمها، هديةً لهؤلاء، ليعرفوا كيف يفهمون القرآن ويتدبَّرون آياته.

إن هذه الآية أشد آيةٍ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -كما نقلنا قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه- وإنها أوكد آية في هذا الموضوع، كما نقلنا قول عبد الله بن المبارك رضي الله عنه.

1 – نفهم من الآية، أنها تطالبنا العمل في مجالين، وتطلب أن يكون هذا العمل على مرحلتين.

تأمرنا بالعمل في المجال الخاص: وهو الإقبال على النفس بالتربية والإصلاح، لتستقيم على الطاعة وتبتعد عن المعصية.

ثم تأمرنا بالعمل في المجال العام، وهو الإقبال على الآخرين، ووعظهم ونصحهم وتذكيرهم بالله، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

وتجعل من كل مجال منهما مرحلة: المرحلة الأولى هي العمل في المجال الخاص، مجال التربية والإعداد والتكوين، وأخْذ النفوس بهذا الدين، وإلزامها بتوجيهاته كاملة.

والمرحلة الثانيةُ: هي المبنية على الأولى والمكملة لها: وهي العمل في المجال العام والتوجه إلى الناس، ودعوتهم إلى الله، والقيام بواجب الأمر والنهي بينهم.

إنه لا بد من أداء الواجب في المجالين، وتحقيق كل من المرحلتين.

2 – وتقرر الآية أن ضلال الآخرين لن يضرنا إذا اهتدينا، ولكن الاهتداء لن يتحقق إلا إذا حملنا الإسلام كاملاً وطبقنا أوامره وتوجيهاته، ومن ضمنها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يتحقق هذا عملياً، فإن الاهتداء لن يتحقق. كما قرر حذيفة وسعيد بن المسيب وغيرهما.

3 – وحتى لو كانت الآية تدل على الإِقبال على نفوسنا بالتربية والطاعة والعبادة، فإنها لا تعني ترك الآخرين وإهمالهم. لأننا نفهم من قرآننا وإسلامنا أن إصلاح النفس وتهذيبها وتربيتها، لا يتحقق إلا من خلال دعوة الآخرين ونصحهم. لأن الإنسان لا يعيش معتزلاً في رأس جبل، وإنما هو في مجتمع الآخرين، فإذا ترك الآخرين ومعاصيهم وانحرافاتهم، فإنهم -هم وذنوبهم- سيؤثرون عليه، وعلى خطته التربوية وأسرته وأولاده. ولهذا يكون من لوازم التربية الفردية في قوله (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الاتصال بالآخرين وتربيتهم ليتحقق المراد.

4 – ويعجبني قول ابن المبارك في معنى (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) يعني عليكم أهل دينكم، فلا يضركم كفر الكافرين، طالما أنتم أمة مسلمة على طاعة الله، ولن يتحقق هذا إلا بالأمر والنهي والدعوة.

المصدر

كتاب ” تصويبات في فهم بعض الآيات” للشيخ صلاح الخالدي، ص75-85.

اقرأ أيضا

تصويبات في فهم بعض الآيات: فاتقوا الله ما استطعتم

لوازم العبادة والتوكل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لماذا الدعوة إلى اللَّه عز وجل..؟

جهاد البيان

 

التعليقات غير متاحة