لجيل الراشدين تميزه، فهو امتداد لزمن النبوة من حيث الاستقامة بحسب الطاقة البشرية، وله خصائص يجب معرفتها؛ إذ إنه “جيل المقياس” لمن جاء بعده.

مقدمة

عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن «خير القرون قرني» كان في هذا تنبيها على خيرية جيل الصحابة الذين اختارهم الله اختيارا لصحبة نبيه، كما اختار الله محمدا للنبوة والرسالة.

وهذا الجيل قام بإقامة النظام الاسلامي الراشد، الذي هو امتداد لزمن النبوة من حيث استمرار الحالة السياسية والقيمية والأخلاقية، والتصرف في الأموال، والشورى في السياسة، واحترام حق الأمة من خلال عمل “أهل الحل والعقد”.

قسمة ضيزى

ولم تزل الأسس التي قام عليها هي الفرصة أمام المسلمين اليوم لتطبيق نظام راشد يليق بواقعهم اليوم بين الأمم التي نالَت حرياتٍ يتباكى عليها المسلمون اليوم؛ بل وأصبحت سببا لهجمة المنافقين من العلمانيين والليبراليين على الاسلام وأهله؛ إذ ربطوا أوضاع الاستبداد بالاسلام! بسبب بقاء الانتساب اليه، ويطلبون من الناس الخروج من مظلة الاسلام شريعةً وهويةً لكي يحصلوا على حرياتهم وحقوقهم..!

بينما الفرصة التاريخية أمام المسلمين اليوم هي معرفة أسس هذا النظام الراشد للخروج من “الاستبداد باسم الاسلام” ومن “الاستبداد العلماني” ومن “دعوات الإلحاد والانحلال الأخلاقي” على السواء.

الخلفاء الراشدون .. جيل المقياس

تميز عصر الخلفاء الراشدون من بين سائر عصور الدول الإسلامية بجملة من المميزات التي تميزه عن غيره، وصار العصر الراشدي مع عصر النبوة معلماً بارزاً ونموذجاً مكتملاً، تسعى الأمة الإسلامية وكلُ مصلح إلى محاولة الوصول إلى ذلك المستوى السامق الرفيع، ويجعله كل داعية نصب عينيه فيحاول في دعوته رفع الأمة إلى مستوى ذلك العصر أو قريباً منه، ويجعله معلماً من معالم التأسي والقدوة للأجيال الإسلامية.

ومن ثم صار كل مصلح، وكل حاكم عادل، وكل إمام مجتهد؛ يقاس بهذا العصر ويوزَن بميزانه، حتى لقّب كثير من العلماء الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز بـ “خامس الخلفاء الراشدين”(1انظر سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (باب في أنه من الخلفاء الراشدين المهديين)، والنووي تهذيب الأسماء واللغات 2/17، والذهبي سير أعلام النبلاء 5 /120)، ونسبوه إليهم، وذلك لأنه سار بسيرتهم، وسلك طريقهم، وأعاد في خلافته رغم قِصَرها (99-101هـ) معالم نهجهم، وأحْيا طريقتهم في الحُكم والإدارة وسياسة الرعية.

وفي هذه المقالة نتعرف على بعض معالم عصر الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم؛ لتكون مثالاً يُحتذى وصدىً يهُتدى بها في طريق الدعوة إلى الله.

توحيد مصدر التلقي

ومصدر التلقي هو الكتاب والسنة المطهرة، وهذه قضية مهمة جداً، فما وقَع التفرق والاختلاف إلا عندما قصَّرَ المسلمون في فهْم الكتاب والسنة وزاحموهما بمصادر ومقررات خارجية من فلسفات الأمم وأهواء النفوس.

والبشرية لا يمكن لها أن تتقارب وتتوحّد إلا إذا وحّدت مصادر فهمها وتلقيها؛ فإن الناظر في الفلسفات البشرية والمذاهب الفكرية والسياسات العملية يجد بينها بونا ً شاسعاً واختلافاً كبيراً يصل إلى التضاد والتناقض، ولذلك فإنه لا سبيل لوحدتها وإزالة ما بينها من اختلاف وتناقض، ويبرأ من النقص والهوى ويخضع له الجميع؛ سوى “وحْي الله المنزل” في كتابه وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، لأنه من تشريع الله الخالق لكل شيء، الحكيم الخبير الذي أحاط علمه بكل شيء، فما كان الخلفاء الراشدون يتلقون أو يأخذون نُظمهم ولا سياستهم ولا مناهج علمهم وكافة أمورهم إلا من الكتاب المنزل من الله والسنة الموحى بها إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

ولم يكن الاقتصار منهم على “الوحي الرباني” عن فقر في العلوم والثقافة في عصرهم؛ ولكنه عن علمٍ وقصدٍ واتباعٍ لأمر الله وأمر رسوله، صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18].

فكل ما خالف الوحي فهو هوى وجهل وعمى، وقال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30].

ولقد غضب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عندما رأى في يد عمر بن الخطاب صحيفة من التوراة وقال: «لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني». (2رواه أحمد 3 / 387)

وأقوال الخلفاء الراشدين بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومواقفهم توضح ذلك وتبينه.

قال الخليفة الأول “صدّيق هذه الأمة” بعد أن بويع بالخلافة في خطبة عامة:

“إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني”. (3تاريخ الطبري 3 / 224)

وقال عمر الخطاب، رضي الله عنه: «قد كنت أرى أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سيدبر أمرنا ـ أي: يكون آخرنا ـ وإن الله قد أبقى فيكم الذي به هدى رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم». (4البداية والنهاية 6 / 301 وقال: إسناده صحيح) (يعني: أبا بكر).

وقال أيضاً: «إنا كنا أذلّ قوم فأعزّنا الله بالإسلام؛ فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله». (5رواه الحاكم في المستدرك 1/ 62 وقال: صحيح على شرطهما وسكت عنه الذهبي وقال الألباني: صحيح)

فالاعتصام بالكتاب والسُنة والتلقّي منهما قضية مسلمة لا تقبل النقاش، ولقد استمرت الأمة على هذا الفهم قروناً، ولكنها أصيبت في الأعْصُر المتأخرة بالانحرافات حتى جهلت المسلمات ووجد من أبنائها من يجادل في هذا، بل وربما وجد فيمن ينتسبون إلى الدعوة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

حماية جانب العقيدة عند الخلفاء الراشدين

لقد جاءت الشريعة بسد باب الذرائع المؤدية إلى الشرك ومحاربة البدع والمحدَثات في الدين، ولهذا لم يكن الخلفاء الراشدون وظيفتهم تقف عند حفظ الأمن والحكم بين الناس؛ بل إنها تتعدى ذلك لتشمل كافّة مصالح الأمة الدنيوية والأخروية، ومن ثم قاموا على نشر العقيدة الصحيحة وسدّوا كافّة المنافذ المؤدية إلى الابتداع في الدين أو النقص منه أو الانحراف في فهمه، وقاوموا كل مبتدع أو مشكك في الدين، وطبقوا قوله، صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ». (6رواه مسلم 3 / 1344 حديث رقم 1718، ط فؤاد عبد الباقي)

والوقائع التاريخية والمواقف المنقولة عنهم في هذا المعنى، كثيرة نذكر نماذج منها:

موقف “الصّدّيق”، في الردة بعد وفاة رسول الله

فقد واجه المرتدين بكل قوة وصلابة وحزم وشجاعة، ورفض مهادنة مانعي الزكاة رغم قِلّة الجند الإسلامي ومشورة كثير من الصحابة له بذلك منهم عمر بن الخطاب، فقال، رضي الله عنه، قولته الشهيرة: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه». (7رواه مسلم في صحيحه 1 / 206 بشرح النووي)

وقال لعمر بن الخطاب: «أجبار في الجاهلية، خوار في الإسلام؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أوَ ينقص وأنا حي؟». (8قال في الرياض النضرة في مناقب العشرة،، 247: خرجه النسائي بهذا اللفظ ومعناه في الصحيحين)

فهو يعلم، رضي الله عن،- أن واجب الخليفة حراسة الدين من الزيادة والنقصان، لذلك قال مستفهماً هذا الاستفهام: «أو ينقص وأنا حيّ؟» أي: إن ذلك غير ممكن ولا أقبل به أبداً مادمت حياً، ولذلك قال أيضاً: «والله لأقاتلنهم ما استمسك السيف في يدي، ولو لم يبق في القرى غيري». (9البداية والنهاية 6 / 304)

مواقف كثير لـ “عمر بن الخطاب”

فقد كان، رضي الله عنه، شديداً على أهل الأهواء والبدع، فقد ضرب “صبيغ بن عسل التميمي” بجريد النخل وعراجينه عندما أخذ يثير بعض الأسئلة المشككة، حتى قال له: «والله لقد ذهب ما أجد يا أمير المؤمنين»، ثم بعث به إلى والي البصرة أبي موسى الأشعري وأمَره بمنعه من مخالطة الناس؛ فحُجز حتى تاب واستقام أمره وأقلع عن بدعته. (10سنن الدرامي 1/ 54، 55، ومسند أحمد)

وقولته، رضي الله عنه، عند تقبيله الحجر الأسود: «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقبلك ما قبلتك) (11رواه الجماعة انظر المنتقى من صحيح الأخبار، حديث رقم (2536))؛ دليل واضح على المتابعة الدقيقة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإبعادٌ لأي اعتقاد ينشأ عند بعض الناس بأن الحَجر ينفع أو يضر بذاته.

وكذلك قطعه للشجرة التي بايع تحتها رسول، صلى الله عليه وسلم، أهل الحديبية “بيعة الرضوان”، عندما بلغه أن بعض الناس يقصدها بعبادةٍ كالصلاة “عندها” أو الدعاء والتبرك بها. (12طبقات ابن سعد 2 / 100، وأخبار مكة للفاكهي 5 / 78)

“عثمان” وسد باب الفتنة والاختلاف في القرآن الكريم

حيث سارع ـ عندما قدم عليه “حذيفة بن اليمان” من “أرمينية” وأخبره بما رأى من الاختلاف في قراءة القرآن ـ إلى الأمر بكتابة مصحف واحد من عدة نُسخ، وبعث إلى كل قُطْر وناحية نُسخة، وأمر بإحراق بقية النُسخ والصُحف الموجودة عند الناس، فجمع الناسَ على مصحف واحد، وقطع الله بعمله هذا دابر الفتنة، وحقّق الله على يديه صيانة كتابه وحفظه من الزيادة والنقصان. (13انظر صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن)

موقف عليّ” في تحريق الغالية في شأنه

 فقد قاتل رضي الله عنه الخوارج والشيعة الذين غلوا فيه حتى ألَّهوه ـ رضي الله عنه ـ فنصحهم عن ذلك، ثم لمَّا لم ينتهوا أمر بإحراقهم بالنار، وقال:

لمّا رأيت الأمر أمراً منكرا … أجّجت ناراً ودعوت قنبراً. (14ابن حزم، الفصل 4 /186)

خاتمة

الرسالة المهمة هنا هي أنه بإمكان المؤمنين، دون الأنبياء، أن يحققوا النظام الراشد، من حيث المؤسسات والأسس والمباديء، بغض النظر عن المستوى الشخصي الذي تميز به أصحاب رسول الله، كما أنهم استطاعوا الاستمرار على أسس هذا النظام ولم يكونوا أنبياء.

تلك رسائل لأنقاذ الأمة، ولعلهم يرجعون.

……………………………………………..

هوامش:

  1. انظر سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (باب في أنه من الخلفاء الراشدين المهديين)، والنووي تهذيب الأسماء واللغات 2/17، والذهبي سير أعلام النبلاء 5 /120.
  2. رواه أحمد 3 / 387.
  3. تاريخ الطبري 3 / 224.
  4. البداية والنهاية 6 / 301 وقال: إسناده صحيح.
  5. رواه الحاكم في المستدرك 1/ 62 وقال: صحيح على شرطهما وسكت عنه الذهبي وقال الألباني: صحيح.
  6. رواه مسلم 3 / 1344 حديث رقم 1718، ط فؤاد عبد الباقي.
  7. رواه مسلم في صحيحه 1 / 206 بشرح النووي.
  8. قال في الرياض النضرة في مناقب العشرة،، 247: خرجه النسائي بهذا اللفظ ومعناه في الصحيحين.
  9. البداية والنهاية 6 / 304.
  10. سنن الدرامي 1/ 54، 55، ومسند أحمد.
  11. رواه الجماعة انظر المنتقى من صحيح الأخبار، حديث رقم (2536).
  12. طبقات ابن سعد 2 / 100، وأخبار مكة للفاكهي 5 / 78.
  13. انظر صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن.
  14. ابن حزم، الفصل 4 /186.

راجع:

  • محمد بن صامل السلمي، ربيع الآخر – 1409هـ،ديسمبر – 1988م، (السنة: 3).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة