أثر القرآن اثر عجيب وعميق؛ فهو كلام الخالق، وهو يعرف طريقه الى النفوس؛ من نفوس الجماد الى المخلوق بكل أنواعه ومختلف تأثراته.

مقدمة

الحمد لله وبعد؛ يعرف القرآن مداخله وطرقه للتأثير؛ فهو كلام خالق الوجود ومُبدعه. وهو مَن تكلم الى خلقه. ولكلامه تعالى أثر عميق تجعل القلوب في لحظاتٍ مندفعة بإرادتها أو بغير إرداتها الى الخضوع له واستماعه، بل والتجاوب معه مثل ما سجد المشركون في مكة حينما استمعوا الى سورة “النجم”.

مجالات متنوعة للتأثر بكلام رب العالمين

وهنا ننظر الى بعض مجالات تأثير القرآن في مواقع متعددة ومخلوقات متنوعة..!

من الجماد الى قلوب المشركين..!

تأمل كيف تنفعل (الجمادات الصماء) بسكينة القرآن ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21].

الجبال الرواسي التي يُضرب المثل في صلابتها تتصدع وتتشقق من هيبة كلام الله.

وتأمل كيف انبهر (نساء المشركين وأطفالهم) بسكينة القرآن، ففي صحيح البخاري أن أبا بكر «ابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بَكّاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين». (1[البخاري، 2297])

هذه الكلمة «فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم» من العبارات التي تطرق ذهني كثيراً حين أسمع تالياً للقرآن يأخذ الناس بتلابيبهم.

ومعنى “يتقصّف” أي يزدحمون ويكتظون حوله مأخوذين بجمال القرآن.

فانظر كيف كان أبو بكر لا يحتمل نفسه إذا قرأ القرآن فتغلبه دموعه، وانظر لعوائل قريش كيف لم يستطع عتاة وصناديد الكفار عن الحيلولة بينهم وبين الهرب لسماع القرآن.

وتأمل كيف “انبهر” صناديد المشركين بسكينة القرآن، ففي البخاري أن جبير بن مطعم أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، يريد أن يفاوضه في أسارى بدر، فلما وصل إلى النبي وإذا بالمسلمين في صلاة المغرب، وكان النبي إمامهم، فسمع جبير قراءة النبي، ووصف كيف خلبت أحاسيسه سكينة القرآن، كما يقول جبير بن مطعم:

«سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾ كاد قلبي أن يطير». (2[البخاري، 4854])

لله در العرب ما أبلغ عباراتهم.. هكذا يصور جبير أحاسيسه حين سمع قوارع سورة الطور، حيث يقول «كاد قلبي أن يطير»، هذا وهو مشرك، وفي لحظة عداوة تستعر إثر إعياء القتال، وقد جاء يريد تسليمه أسرى الحرب، ففي خضم هذه الحالة يبعد أن يتأثر المرء بكلام خصمه، لكن سكينة القرآن هزّته حتى كاد قلبه أن يطير..!

من الجن الى الملائكة..!

وتأمل كيف انبهرت تلك المخلوقات الخفية “الجن” بسكينة القرآن، ذلك أنه لما كان النبي، صلى الله عليه وسلم، في موضع يقال له “بطن نخلة” وكان يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فهيّأ الله له مجموعة من الجن يسمون “جن أهل نصيبين”، فاقتربوا من رسول الله وأصحابه.

فلما سمعوا قراءة النبي في الصلاة انبهروا بسكينة القرآن، وأصبحوا يوصون بعضهم بالإنصات، كما يقول تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾. [الأحقاف: 29]

وأخبر الله في موضع آخر عمّا استحوذ على هؤلاء الجن من التعجب فقال تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ [الجن: 1]

وتأمل كيف انبهر “صالحوا البشر” بسكينة القرآن، فلم تقتصر آثار “الهيبة القرآنية” على قلوبهم فقط، بل امتدت إلى الجلود فصارت تتقبّض من آثار القرآن، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ [الزمر: 23]

وتأمل كيف انبهر “صالحوا أهل الكتاب” بسكينة القرآن، فكانوا إذا سمعوا تالياً للقرآن ابتدرتهم دموعهم يراها الناظر تتلامع في محاجرهم كما صوَّرها القرآن في قوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾ [المائدة: 82-83]

وتأمّل كيف انبهرت “الملائكة الكرام” بسكينة القرآن، فصارت تتهادى من السماء مقتربةً إلى الأرض حين سمعَت أحد قراء الصحابة يتغنى بالقرآن في جوف الليل، كما في صحيح البخاري عن “أسيد بن حضير” قال:

«بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، فرفعْت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظُلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: رسول الله “وتدري ما ذاك؟” قال لا، قال رسول الله: “تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم”». (3[البخاري:5018])

تأثر قلوب الأنبياء

وتأمل كيف انبهر “الأنبياء” عليهم أزكى الصلاة والسلام بسكينة الوحي، كما يصوّر القرآن تأثرهم بكلام الله، وخرورهم إلى الأرض، وبكاءهم؛ كما في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم: 58].

وأخيراً .. تأمل كيف انبهر أشرف الخلق على الإطلاق، وسيد ولد آدم “محمد” صلى الله عليه وسلم؛ بسكينة القرآن، ففي البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قال:

«قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اقرأ علي”، فقلت أقرأ عليك يارسول الله وعليك أنزل؟ فقال رسول الله: “إني أشتهي أن أسمعه من غيري”، فقرأْتُ النساء حتى إذا بلغت “فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا”، قال لي رسول الله “كُفّ، أو أمْسِك”، فرأيت عينيه تذرفان». (4[البخاري، 5055])

يا لأسرار القرآن .. ويا لعجائب هذه الهيبة القرآنية التي تتطامن على النفوس فتخبت لكلام الله، وتتسلل الدمعات والمرء يداريها ويتنحنح، ويشعر المسلم فعلاً أن نفسه ترفرف من بعد ما كانت تتثاقل إلى الأرض.

هكذا إذن .. الجمادات الرواسي تتصدع، ونساء المشركين وأطفالهم يتهافتون سراً لسماع القرآن، وصنديد جاء يفاوض في حالة حرب ومع ذلك “كاد قلبه يطير” مع سورة الطور، والجِن استنصتوا بعضهم وتعجّبوا وولّوا إلى قومهم منذرين، والمؤمنون الذين يخشون ربهم ظهر الاقشعرار في جلودهم، والقساوسة الصادقون فاضت عيونهم بالدمع، والملائكة الكرام دنَت من السماء تتلألأ تقترب من قارئ في حرّات الحجاز يتغنى في جوف الليل بالبقرة، والأنبياء من لدن آدم إذا سمعوا كلام الله خرّوا إلى الأرض ساجدين باكين، ورسول الله حين سمع الآية تصوّر عرصات القيامة ولحظة الشهادة على الناس؛ استوقف صاحبه ابن مسعود من شدة ما غلبه من البكاء.

رباه .. ما أعظم كلامك .. وما أحسن كتابك.

مقارنة مخجلة

كتابٌ هذه منزلته، وهذا أثره؛ هل يليق بنا يا أخي الكريم أن نهمله؟

وهل يليق بنا أن نتصفح يومياً عشرات التعليقات والأخبار والإيميلات والمقالات، ومع ذلك ليس لـ “كتاب الله” نصيبٌ من يومنا؟ فهل كُتب الناس أعظم من كتاب الله؟ وهل كلام المخلوقين أعظم من كلام الخالق؟!

لقد اشتكى رسول الله من كفار قومه حين وقعوا في صفةٍ بشعة، فواحسرتاه إن شابهْنا هؤلاء الكفار في هذه الصفة التي تذمر منها رسول الله، وجأر بالشكوى إلى الله منها، يقول رسول الله في شكواه: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: 30].

أي خسارة.. وأي حرمان.. أن يتجارى الكسل والخمول بالمرء حتى يتدهور في منحدرات (هجر القرآن).. إذا كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو حبيبنا الذي نفديه بأنفسنا وأهلينا وما نملك ـ يشتكي إلى ربه الكفار بسبب (هجر القرآن)؛ فهل نرضى لأنفسنا أن نخالف مراد حبيبنا رسول الله؟ هل نرضى لأنفسنا أن ننزل في المنزل الذي يؤذي رسول الله؟ فأين توقير نبينا صلى الله عليه وسلم..؟!

خاتمة

أخي الذي أحب له ما أحب لنفسي ..

القضية لن تكلفنا الكثير، إنما هي دقائق معدودة من يومنا نجعلها حقاً حصرياً لكتاب الله .. نتقلب بين مَواعظِه وأحكامه وأخبارِه؛ فنتزكى بما يسيل في آياته العظيمة من نبض إيماني، ومعدن أخلاقي، والتزامات حقوقية، ورسالة عالمية إلى الناس كافة..

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. (5ومما ينبغي التنبه له أن الشيخ الى هذه اللحظة رمضان 1440 هـ، وهو مغيَّب في السجون من أجل تمسكه بدينه ورفضه أن يبيعه في مزادات قامت على الناس تخيرهم بين الأمن والمال والشهرة من جانب بثمن بيع الدين، وبين الاعتقال أو الموت إن تمسكوا بدينهم؛ فله درهم واللهم ارزقهم الثبات وعجل لهم بفرَجك الكريم)

……………………………………..

الهوامش:

  1. [البخاري، 2297].
  2. [البخاري، 4854].
  3. [البخاري:5018].
  4. [البخاري، 5055].

المصدر:

  • الشيخ إبراهيم السكران
    ومما ينبغي التنبه له أن الشيخ الى هذه اللحظة رمضان 1440 هـ، وهو مغيَّب في السجون من أجل تمسكه بدينه ورفضه أن يبيعه في مزادات قامت على الناس تخيرهم بين الأمن والمال والشهرة من جانب بثمن بيع الدين، وبين الاعتقال أو الموت إن تمسكوا بدينهم؛ فله درهم واللهم ارزقهم الثبات وعجل لهم بفرَجك الكريم.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة