التوكل على الله تعالى عبودية للقلب، وهو عمل القلب، وثمة أنواع للتوكل بين توكل الصادقين الى التوكل الشركي بالتعلق بغير الله، وبين توكل الأنبياء الى من دونهم.

مقدمة

يمكن القول بأن “التوكل” نصف الدين، ونصفه الثاني “العبادة”؛ لأن الدين “استعانة” و”عبادة”، كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.. [الفاتحة: 5].

وقد ورد التوكل في كثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]، وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3].

وقال تعالى عن أوليائه: ﴿رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ﴾ [الممتحنة: 4]، وقال تعالى لرسوله: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ﴾ [النمل: 79]، وكذلك: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ﴾ [الفرقان: 58].

وأما الأحاديث فكثيرة أيضاً، منها:

1- في الصحيحين: حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب «هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يَكْتَوون، وعلى ربهم يتوكلون». (1البخاري، ح/5705، ك/ الطب، من حديث عمران بن حصين، ومسلم، ح/218، ك/ الإيمان)

2- وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «”حسبنا الله ونعم الوكيل” قالها إبراهيم، حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا له: ﴿إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ﴾». (2البخاري ح/4563، ك/ التفسير سورة آل عمران)

3- وفي الترمذي عن عمر رضي الله عنه مرفوعاً: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصاً، وتروح بطاناً». (3الترمذي في الزهد، ح/2345، وابن ماجة، ح/4164، وأحمد، 1/ 52، وصححه الشيخ أحمد شاكر، 1/ 206، وهو في صحيح سنن الترمذي، ح/ 1911)

تعريف التوكل بمعناه الصحيح

التوكل عملٌ قلبيٌّ من أعمال القلوب، وقد وردت له تعريفات كثيرة يكمل بعضها بعضاً لتنتهي مجتمعة إلى حقيقة التوكل ومعناه:

أ – فمن ذلك: ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله عن التوكل:

“هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله، وتفرده بالخلق والتدبير، والضر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان، وإن لم يشأ الناس. وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس. فيوجب له هذا اعتماداً عليه، وتفويضاً إليه، وطمأنينة به، وثقة به، ويقيناً بكفايته لما توكل عليه فيه”. (4مدارج السالكين، 1/ 82)

ب- ومن ذلك: ما نقله الشيخ محمد العثيمين رحمه الله في شرحه لكتاب التوحيد، حيث قال:

“التوكل: هو الاعتماد على الله سبحانه وتعالى في جلب المطلوب وزوال المكروه، مع فعل الأسباب المأذون فيها”. (5شرح كتاب التوحيد للشيخ ابن عثيمين، 2/ 185)

تباين الخلق في توكلهم على الله سبحانه وأفضلهم في ذلك؛ وقد ضّح الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى هذه المسألة أتم توضيح بقوله:

“فأهل السموات والأرض المكلَفون وغيرهم في مقام التوكل، وإن تباين متعلق توكلهم:

فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان، ونصرة دينه وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابِّه وتنفيذ أوامره.

ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله، فارغاً عن الناس.

ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في معلومٍ يناله منه؛ من رزق، أو عافية، أو نصر على عدو، أو زوجة، أو ولد.. ونحو ذلك.

ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش؛ فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالباً إلا باستعانتهم بالله وتوكلهم عليه.

فأفضل التوكل: التوكل في الواجب أعني واجب الحق، وواجب الخلق، وواجب النفس.

وأوسعه وأنفعه: التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية؛ وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم.

ثم الناس بعدُ في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمِنْ متوكلٍ على الله في حصول الملك، ومن متوكل في حصول رغيف”. (6مدارج السالكين، 2/ 113، 114)

التوكل وأنواعه

توكل الموحدين الصادقين

وحقيقته: الاعتماد على الله عز وجل وحده، والثقة بكفايته ،مع فعل الأسباب المأذون فيها من غير اعتماد عليها ولا ركون إليها؛ فخالق الأسباب ومسببها هو الله وحده.

التوكل الشركي، وهو نوعان

أ – أكبر، وهو:

“الاعتماد الكلي على الأسباب، واعتقاد أنها تؤثر استقلالاً في جلب المنفعة أو دفع المضرة، وهذا من الشرك الأكبر”. (7انظر: شرح كتاب التوحيد للشيخ ابن عثيمين (رحمه الله) ، 2/ 190، 191)

ب – الشرك الأصغر، وهو:

“الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه.. وغير ذلك، من غير اعتقاد استقلاليته في التأثير، لكن التعلق به فوق اعتقاد أنه مجرد سبب، مثل اعتماد كثير من الناس على المالية في الراتب، ولهذا تجد أحدهم يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا الراتب أو من يقرر الراتب اعتماد افتقار، فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر”. (8انظر: المصدر السابق، 2/ 190، 191)

التوكل الجائز

“وهو أن يُوكِّلَ الإنسان في فعل يقدر عليه، فيحصل للموكِّل بذلك بعض مطلوبه، فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله وحده”. (9انظر: جامع الرسائل لابن تيمية، 1/ 89)

“كمن وكّل شخصاً في شراء شيء أو بيعه، فهذا لا شيء فيه، لأنه اعتمد عليه، وكأنه يشعر أن المنزلة العليا له فوقه، لأنه جعله نائباً عنه، وقد وكّل النبي علي بن أبي طالب أن يذبح ما بقي من هَدْيه، ووكّل أبا هريرة على الصدقة، ووكّل عروة بن الجعد أن يشتري له أضحية”. (10انظر: شرح كتاب التوحيد، للشيخ ابن عثيمين (رحمه الله) ، 2/ 190، 191)

ولكن توكيل المخلوق غايته أن يفعل بعض المأمور، وهو لا يفعل ذلك إلا بإعانة الله له، فرجع الأمر كله لله وحده.

ضوابط الأخذ بالأسباب

الأخذ بالأسباب لا بد له من ضوابط تقي من الوقوع في الشرك الناشئ من التعلق بها والاعتماد عليها، ومن أهم هذه الضوابط ما يلي:

1 – الضابط الأول:

“الاعتقاد بأنها لا تستقل بالمطلوب، بل تُتعاطى من غير ركون إليها، ومع هذا فلها موانع، فإن لم يكمل الله الأسباب، ويدفع الموانع: لم يحصل المقصود، وهو سبحانه ما شاء كان وإن لم يشأ الخلق، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الخلق”. (11انظر: توحيد الخلاق، للشيخ سليمان بن عبد الله، ص 169 – 172)

2 – الضابط الثاني:

“ألا يعتقد في الشيء أنه سبب إلا بعلم وتحقق، فمن أثبت سبباً بلا علم، أو بما يخالف الشريعة كان مبطلاً في إثباته، آثماً في اعتقاده”. (12انظر: توحيد الخلاق، للشيخ سليمان بن عبد الله، ص 169 – 172)

3 – الضابط الثالث:

“أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يُتخذ شيء منها سبباً، إلا أن يكون مشروعاً، فإن العبادات مبناها على التوقيف، فلا يتقرب إلى الله عز وجل بالأعمال الشركية أو البدعية أو نحوها”. (13المرجع السابق)

4 – الضابط الرابع:

“إذا لم يوجد من الأسباب في تحصيل المطلوب إلا سبباً محرماً: فلا يجوز مباشرته ولا الأخذ به، وتوحَّدَ السبب في حقه في التوكل على الله عز وجل، فلم يبق سبب سواه، فإنه من أقوى الأسباب في حصول المراد، ودفع المكروه، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق”. (14انظر: الفوائد، لابن القيم، ص 86، 87)

5 – الضابط الخامس:

“إن كان السبب مباحاً، نُظر؛ هل يُضعف القيامُ به التوكلَ أو لا يضعفه، فإن أضعفه، وفرَّق على العبد قلبه، وشتت هَمَّه: فترْكه أولى، وإن لم يُضعفه: فمباشرته أولى؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به، فلا تُعطَّل حكمته مهما أمكن القيام بها، لا سيما إذا كان الأخذ بالسبب عبودية لله عز وجل؛ فيكون العبد قد أتى بعبودية القلب بالتوكل، وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة”. (15المرجع السابق)

خاتمة

إن القيام بالأسباب على نحو ما سبق هو الذي يحقق التوكل..

“فمن عطّل الأسباب المأمور بها لم يصح توكله، كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقق رجاءه؛ فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنياً، كما أن من عطَّلها يكون توكله عجزاً أو عجزه توكلاً”. (16المرجع السابق)

“وسِرُّ التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خُلوّ القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله (توكلتُ على الله) مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء”. (17المرجع السابق)

……………………………..

الهوامش:

  1. البخاري، ح/5705، ك/ الطب، من حديث عمران بن حصين، ومسلم، ح/218، ك/ الإيمان.
  2. البخاري ح/4563، ك/ التفسير سورة آل عمران.
  3. الترمذي في الزهد، ح/2345، وابن ماجة، ح/4164، وأحمد، 1/ 52، وصححه الشيخ أحمد شاكر، 1/ 206، وهو في صحيح سنن الترمذي، ح/ 1911.
  4. مدارج السالكين، 1/ 82.
  5. شرح كتاب التوحيد للشيخ ابن عثيمين، 2/185.
  6. مدارج السالكين، 2/ 113، 114.
  7. انظر: شرح كتاب التوحيد للشيخ ابن عثيمين (رحمه الله) ، 2/ 190، 191.
  8. انظر: المصدر السابق، 2/ 190، 191.
  9. انظر: جامع الرسائل لابن تيمية، 1/ 89.
  10. انظر: شرح كتاب التوحيد، للشيخ ابن عثيمين (رحمه الله) ، 2/ 190، 191.
  11. انظر: توحيد الخلاق، للشيخ سليمان بن عبد الله، ص 169 – 172.
  12. انظر: توحيد الخلاق، للشيخ سليمان بن عبد الله، ص 169 – 172.
  13. المرجع السابق.
  14. انظر: الفوائد، لابن القيم، ص 86، 87.
  15. المرجع السابق.
  16. المرجع السابق.
  17. المرجع السابق.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة