محكمات الإسلام وأصوله يجب تميزها ووضوحها، وعدم التلاعب بها، ويجب الدفاع عنها والنظر الى فروع الدين من خلالها؛ فبحفظها يحفظ الدين وتنضبط الاجتهادات.

مقدمة

جعل الله تعالى لهذا الدين محكمات ثوابت، تمثل ملامح هذا الدين وملامح شريعة الله تعالى واصولها التي لا يجوز التنازل عنها أو تأويلها بما يوافق هوى أو ضغطا أو ضعفا أو ثقافة واردة. وبحفظ هذه المحكمات حُفظ الدين ومنع المسلمون أحدا من تبديله وتحويره؛ ليبقى رغم تشعب الأهواء وتوارد التأويلات، ليبقى وتبقى صورته النقية محفوظة لمن أرادها. وهذا واجب العلماء وواجب الحركات الإسلامية فكرية وعملية ودعوية.

تعريف المحكمات الواضحات

قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (الجاثية: 18).

﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ (المائدة: 49).

﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ﴾ (المؤمنون: 71).

المُحكمات هي البيناتُ الواضحاتُ والأسس التي جاءت بها الشريعة الإسلامية. وهي أصل يُردُّ إليه ويُبنى عليه. ومنها ما أجمعت عليه الشرائع الإسلامية من وجوب عبادة الله وحده وتحريم الكفر والشرك والنفاق، والظلم، والربا، والفواحش، وإبطال أحكام الجاهلية ووجوب الحكم بالشريعة الإسلامية، واعتبارها المصدر الوحيد للتشريع في جميع القوانين الأصلية منها والفرعية.

وقد دلت على ذلك الآيات السابقة كما دلت السنةُ المُطهَّرةُ، وعلى ذلك إجماع الأمة المسلمة في جميع العصور من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا، ومن ذلك الإجماع على إبطال أهواء الكفار والمشركين والمنافقين والمبتدعة، وتحريم اتباع أحكامهم وقوانينهم وشرائعهم وهديهم.

مقاصد الشريعة من المحكمات

وقصدَت الشريعة الإسلامية من وراء ذلك إلى تحقيق مقاصد عملية في الدنيا والآخرة نذكر منها مقصدين عظيمين:

المقصد الأول: المحافظة على الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والنجاة من النار ودخول الجنة.

المقصد الثاني: المحافظة على الأنفس والدماء والعقول والأعراض والأموال، وإبعاد الناس مسلمهم وكافرهم عن جميع أسباب الظلم والبغي، والإباحية والفساد.

والمقصد الأول لا يحصّله إلا من أسْلَمَ وكان من عداد المسلمين. والمقصد الثاني يشمل المسلمين، والكفار الخاضعين لسلطان الشريعة الإسلامية.

وعلى هذا تدور مقاصد الدعوة، والجهاد في الإسلام، وهو يشمل ثلاث خصال.

مقاصد الدعوة والجهاد

تشمل مقاصد الدعوة والجهاد ثلاث خصال

الخصلة الأولى: الدعوة إلى الإسلام؛ فمن أسلم تحقق له المقصدان السابقان.

والثانية: إخضاع الكفار لسلطان الإسلام، فإذا رغب أهل الذمة الخضوع لسلطان الإسلام حُرم قتالهم وإكراههم على تغيير معتقدهم، وأن يدفعوا الجزية، ويتحقق لهم المقصد الثاني.

والثالثة: إذا رفضوا الدخول تحت سلطان الإسلام وبقي الكفارُ متسلطين يفسدون في الأرض بالظلم والبغي والإباحية والفساد، فلا بد من العمل بالوسائل الشرعية لكف شرهم وفتنتهم، وليكون الدين كله لله.

وبهذا المنهج المتميز في العقيدة والشريعة حقق المسلمون على طول التاريخ الإسلامي مقاصد الإسلام في الأرض.

وقد يقول قائل: إذا كانت الشريعة الإسلامية تُقر أهلَ الذمة على كفرهم ولا تكرههم على تغيير معتقدهم، ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: 256)؛ فأوْلى أن تقرهم على إباحيتهم، وظلمهم، وتتركهم ينشرون الشرك والخرافة والربا والرأسمالية؛ لأن هذه آراؤهم وحقوقهم، والعالم المعاصر الكافر أقر «حقوق الآخر» وأتاح له عن طريق الحريات أن يُعبّر عن رأيه.

فالجواب: أن الشريعة الإسلامية أقرت «الذميّ» على كفره؛ لأنه مُعتقَدٌ خاص به، وأوجبت كَفَّه عن الإباحية كالزنا واللواط ووسائلهما، وعن الرأسمالية الاقتصادية كالربا وعن الظلم والبغي، وجعلته والمسلمين سواءً في هذه الأحكام، وهذه مُحكمات يجب المحافظة عليها أمام الرأي المخالف لها سواء كانت المخالفة من الكفار أم من المسلمين.

وهذه المُحكمات كما نرى تتصف بأنها بيّنة واضحة، وهي أساس تُبنى عليه فروع كثيرة، وعليها دين الرسل عليهم السلام، وهي عاصم للمجتمع والعامة من الانحراف والفساد والاختلاف والفرقة بسبب الآراء المنحرفة عند «الآخر» ـ الكافر ـ كما أن هذه المحكمات تتصف بأنها حجة على الخصوم.

فإذن إقرار أهل الذمة على كفرهم لا مانع منه بشرطه، والسماح «للآخر» ـ الكافر ـ بنشر الكفر والزندقة، والإباحية، والانحراف والفساد ومخالفة الشريعة الإسلامية ممنوع منه أشد المنع، وتبقى حرية «الآخر» ـ الكافرـ فيما سوى ذلك.

«المحكمات» أصول العلم

وهي من أولويات وقواعد الدعوة الإسلامية، وهي حجةٌ على الخصوم من «العلمانيين» والمنافقين والمشركين، ولا يجوز التنازل عنها من أجل «الآخر» ـ الكافرـ ؛ لأن ذلك مؤدٍ إلى إفساد الدين والدنيا، ولا يجوز للعلماء والدعاة التنازل عنها، أو تأخير منزلتها في البيان والدعوة. وكل دعوة إسلامية تضعُف أمام «الآخر» ـ الكافرـ وتعطلُ شيئاً من هذه المحكمات، أو تؤُخرها في البيان هي دعوة مخالفة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد ثبت في السيرة النبوية أن هذه الدعوة لم تتمكن إلا بسبب المحافظة على تلك المُحكمات، سواء أمام الكفار أم بين المسلمين، وسواء في حالة الضعف أم في حالة التمكن، وسواء في حالة الحرب أم في حالة السلم.

أمثلة تطبيقية على موقف المسلمين من «الآخر» «الكافر»

وإليك الأدلة والأمثلة التطبيقية على موقف المسلمين من «الآخر» «الكافر»:

المثال الأول: موقف كفار قريش من الدعوة الإسلامية؛ حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تعبدُ معبودنا سنة ونعبد معبودك سنة.

المثال الثاني: موقف الفرق الضالة من الإسلام؛ حيث أرادت أن تغيِّر بعض معتقداته وشرائعه.

المثال الثالث: موقف التتار من الشريعة الإسلامية؛ حيث غيّروا مفهوم تحكيم الشريعة الإسلامية وخلطوها بغيرها من الشرائع البشرية.

وقد نشأت الفرق الضالة كالمعتزلة والخوارج على حين تَفَرُّقِ جماعةِ المسلمين مع قتالٍ فيما بينهم أضعفَ شوكتهم، وكذلك التتار قاموا على حين ضعف من المسلمين؛ فجميع هذه الشواهد تدل على أن المسلمين لم يتنازلوا من أجل «الآخر» ـ الكافرـ عن محكمات دينهم وشريعتهم، بل قاوم الرسولُ صلى الله عليه وسلم الكفار، وقاوم أهل السنة الفِرَق الضالة، وقاوم المسلمون التتار، كلٌ حسب قدرته، وحافظوا في جميع الأحوال على المحكَمات وحققوا البراءة من العمل الذي يعمله «الآخر» سواء من المشركين أو أهل الأهواء، أو المرتدين من التتار.

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة الكافرون:

وهي مكية وآياتها ست: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون: 1-6).

“هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ يعني من الأصنام والأنداد، ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ (الكافرون: 3) وهو الله وحده لا شريك له؛ فـ «ما» ها هنا بمعنى «من».

ثم قال: ﴿وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ ؛ أي ولا أعبد عبادتكم؛ أي لا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه؛ ولهذا قال: ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ (الكافرون: 5) أي لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئاً من تلقاء أنفسكم كما قال: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى﴾ (النجم: 23)، فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه؛ فإن العابد لا بد له من معبود يعبده وعبادة يسلكها إليه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه يعبدون الله بما شرعه؛ ولهذا كان كلمة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ أي لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله؛ ولهذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون: 6).

كما قال تعالى: ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (يونس:41)، وقال: ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ (البقرة: 139)“.انتهى كلام ابن كثير.

ومن جنس ذلك ما صنعته الجهمية وغلاة المبتدعة لما غيّروا العقيدة الإسلامية، وقالوا لعلماء السنة نحن وأنتم سواء في محاربة «الزندقة»، فأنكر عليهم أهل السنة ما غيّروه من صفات الله سبحانه، كما أنكروا ما غيّرته المعتزلة والخوارج والشيعة وعُبّاد القبور والزنادقة من عقائد المسلمين وشرائعهم، ولم يستطع هذ «الآخر» المنحرف أن ينشر أفكاره المنحرفة ويحقق لها شرعية بين المسلمين.

وكذلك التتار لما دخلوا في الإسلام كما صنع ملكهم «جينكيز خان»، وحاول تغيير مفهوم تحكيم الشريعة؛ حيث أراد هذا «الآخر» ـ الكافرـ أن يخلط بالشريعة الإسلامية غيرها من القوانين الوضعية كما يصنع العلمانيون اليوم وقف علماء السنة ليبيّنوا للناس أن الحكم بالشريعة واجب، ولا يجوز أن يشاركها منهج آخر مهما أصر ذلك «الآخر»، وأن إفرادها بالحكم والتحاكم والشرعية هو دين الإسلام، وأن ضد ذلك هو الكفر والفساد في الأرض.

وهكذا أعلن الصادقون من أهل الإسلام في هذه المراحل على طول التاريخ الإسلامي، أنه لا مجال ولا مساومة على محكمات هذا الدين، وأنّ «الآخر» ـ الكافر أو صاحب الهوى ـ الذي يريد الخروج عليها لا مجال لقبول شركه وكفره وبدعه وقوانينه، ولم يَفُتّ في عضد هؤلاء الدعاة الصادقين ضعفُ الأمة ولا تكالب الأعداء عليها.

وقد اخترت هذه الشواهد التطبيقية حتى لا يعتذر بعض الدعاة بحال الضعف والهوان الذي تمر به الأمة؛ فإنه لا طريق لتثبيت العامة من المسلمين وجمعهم على الشريعة إلا إذا ثبت الدعاة والعلماء على الحق، وبيّنوا المحكمات للناس، كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المثال الأول، وكما صنع أهل السنة في المثال الثاني، وكما صنع العلماء الربانيون في المثال الثالث، ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ (الأنعام: 153).

خاتمة

إنّ الدعوة اليوم على مفترق طرق، فإما أن يثبت الدعاة على المحكمات ليكونوا دعاة مخلصين لله الدين، وإما أن يشتروا بها ثمناً قليلاً، أو يهنوا ويضعفوا أمام «الآخر» ـ الكافر أو المبتدع صاحب الهوى ـ ولن يُغني عنهم شيئاً كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ﴾ (الجاثية: 18-19).

وهذا توجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حالة الضعف وهم في مكة لا يملكون من أمرهم شيئاً، وقد ثبتوا ونصروا هذا الدين فنصرهم الله وأغناهم عن «الآخر» ـ الكافرـ ؛ وإذا لم يثبت الدعاةُ اليوم كما ثبَت مَن سبقهم، فإنهم سينحسرون، ونسأل الله العافية من الفضيحة في الدنيا والإخفاق والبوار في الآخرة ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد: 38).

………………………………….

المصدر

  • أ. د. عابد السفياني، مجلة اليبان، العدد:174.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة