تصدى الإمام القدوة ابن النابلسي لكفر وطغيان الدولة العبيدية حتى لقى الشهادة سلخاً في سبيل كلمة الحق.

تعريف بالشهيدابن النابلسي

الإمام القدوة الشهيد، أبو بكر مُحَّمد بن أحمد بن سهل الرملي، ويعرف بابن النابلسي.

حدَّث عن سعيد بن هاشم الطبراني، ومُحَّمد بن الحسن بن قتيبة، و مُحَّمد بن أحمد بن شيبان الرملي.

روى عنه تمام الرازي، وعبد الوهاب الميداني، وعلي بن عمر الحلبي.

كان إماماً في الحديث والفقه، صائم الدهر، كبير الصولة عند العامة والخاصة.

قال أبو ذر الحافظ: سجنه بنو عبيد وصلبوه على السُّنَّة، سمعت الدارقطني يذكره ويبكي ويقول : كان يقول وهو يُسلخ: (كًانً ذًلِكً فيِ الكِتًابِ مًسْطُوراً). 1(انظر سير أعلام النبلاء).

تعذيب وقتل أبي بكر النابلسي بعد صدعه بكلمة الحق

قال أبو الفرج ابن الجوزي: أقام جوهر القائد لأبي تميم صاحب مصر، أبا بكر النابلسي، وكان ينزل الأكواخ، فقال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم وجب أن يرمي في الروم سهما، وفينا تسعة. قال: ما قلت هذا، بل قلت: إذا كان معه عشرة أسهم وجب أن يرميكم بتسعة، وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً، فإنكم غيَّرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادَّعيتم نور الإلهية، فشهره ثم ضربه، ثم أمر يهوديَّا

فسلخه.

قال الذهبي: لا يوصف ما قَلب هؤلاء العبيدية الدين ظهراً لبطن، واستولوا على المغرب، ثم على مصر والشام، وسبوا الصحابة.

سُلِخ هذا الإمام من مفرق رأسه حتى بلغ الوجه، فكان يذكر الله ويصبر، حتى بلغ الصدر، فرحمه السَّلاخ، فوكزه بالسكين موضع قلبه، فقضى عليه.

الدولة العبيدية  (297-567ه)

الدولة العبيدية التي عارضها العلماء، ومنهم هذا الإمام، كان قد أسسها عبيد الله المهدي (ت۳۲۲ه)، ثمُّ كان بعد ذلك ما كان من ظهور دعوتهم بالمغرب وإفريقية ثم باليمن ثمُّ بالإسكندريَّة ثمَّ بمصر والشَّام والحجاز وقاسموا بني العبَّاس في ممالك الإسلام

شق الأبلمة -هي: الخوصة، أي ورقة الدوم وهي شجرة تشبه النخلة – وكادوا يلجون عليهم مواطنهم ویزایلون من أمرهم. 2[ديوان المبتدأ والخبر(1/28)

ومن حكامهم: المستنصر: معد، ومات سنة 4۸۷ه، فأقام في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر .

قال الذهبي: ولا أعلم أحداً في الإسلام – لا خليفة ولا سلطاناً – أقام هذه المدة.

ومنهم المستعلي بالله: أحمد، ومات سنة 495 ه.

ومنهم الآمر بأحكام الله: منصور، طفل له خمس سنين، وقتل في سنة 5۲4ه عن غير عقب .

ومنهم العاضد لدين الله : عبد الله بن يوسف بن الحافظ لدين الله، وخلع سنة 567 ه.

وبعد ذلك أقيمت الدعوة العباسية بمصر، وانقرضت الدولة العبيدية.

قال الذهبي: فكانوا أربعة عشر متخلفاُ، لا مستخلفاً. 3[انظر: تاریخ الخلفاء (1/367) للسيوطي[

جرائم الدولة العبيدية

1- لما وصل عبيد الله إلى رقادة، طلب من القيروان ابن البردون، وابن هذيل، فأتياه وهو على السرير، وعن يمينه أبو عبد الله الشيعي، وأخوه أبو العباس عن يساره، فقال: أتشهدان أنَّ هذا رسول الله؟ فقالا بلفظ واحد: والله لو جاءنا هذا والشمس عن يمينه والقمر عن يساره يقولان: إنَّه رسول الله، ما قلنا ذلك. فأمر بذبحهما. 4[سير أعلام النبلاء (11/132)[

2- قطع صَلَاة التَّراويح فيِ شهر رَمْضَان، وأمر بصيام يَوْمَين قبله، وقنت في صَلَاة الجُمُعة قبل الرُّكُوع.. وأسْقط من أَذَان صَلَاة الصُّبح: الصَّلاة خيرٌ من النَّوم، وَزَاد: حَيّ على خير العَمَل مُحَمَّد وعلى خير. 5[أخبار ملوك بني عبيد وسيرتهم (1/51)[

٣- وفي أيَّام بني عبيد في سنة ۳۱۷ه بَطل الْحَج وأخذ الحجر الأسود وذَلِكَ أن أبَا طَاهِر سُلَيْمَان بن الحسن القرمطي دخل مَكَّة حرسها الله تَعالَى يَوْم التَّروية فَقتل الحجَّاج قتلاً ذريعاً وَرمي القَتْلَى في زَمْزَم وَأخذ الحجر الأسود من الكَعْبَة وَقلع بَابهَا وبقي الْحجر عِندهم اثْنَتَيْنِ وْعشْرين سنة إلَّا شهراً ثمَّ ردُّوهُ لخمس خلون من ذِي القعدة سنة ۳۳۹ه. 6(أخبار ملوك بني عبيد وسيرتهم (1/51)[

4- ذكر ابن كثير عن الحاكم بْن المُعِزّ الفَاطِمِي صَاحِبُ مِصْرَ: كان كثير التلون في أفعاله وأحكامه وأقواله، جائراً، وقد كَانَ يَرُومُ أنْ يَدَّعِيَ الْأُلُوهِيَّةَ كما ادَّعَاهَا فرعون، فكان قد أمر الرعية إذا ذَگر الخطيب على المنبر اسمه أنَّ يَقُومَ النَّاسُ عَلَى أَقْدَامِهِمْ صُفُوفاً، إِعْظَامَاً لِذْكره واحتراماً لِاسمه، فعل ذلك في سَائِرِ مَمَالِكِهِ حَتَّى فْيِ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيِفَيْنِ، وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره خروا سجداً له، حَتَّى إنَّهُ لَيَسْجُدُ بِسُجُودِهِمْ من في الأسواق من الرعاع وغيرهم، ممن كان لا يُصلي الجمعة، وكانوا يتركون السجود لله في يوم الجمعة وغيره ويسجدون للحاكم، وأمر في وقت لأهل الكتابين بالدخول في دين الإسلام كُرْهَاً، ثْمَّ أُذِنَ لَهُمْ فيِ الْعَوْدِ إلى دينهم، وخرب كنائسهم ثم عمرها، وخرب القمامة ثم أعَادَهَا، وابْتَنَى الْمَدَارِس، وجَعَلَ فِيها الفُقَهَاءَ والمشايخ، ثم قتلهم وأخربها. 7[البداية والنهاية (12/11)[

5- وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة: أعياد ومواسم، وهي: موسم رأس السنة، وموسم أوَّل العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرَّة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة

الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النوروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد.]8المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (2/436) للمقريزي[

مواقف العلماء من الدولة العبيدية

قال الإمام أبو طاهر الباقلاني :

“اتخذ الخليفة القادر بالله – من أجل مواجهة العبيديين ودعوتهم – محضرا يتضمن الطعن في أنسابهم، ويكشف حقيقة مذهبهم، وأنهم زنادقة كفَّار.

وكتب هذا المحضر، وأقرَّه جمع من الأشراف والقضاة والمحدثين والفقهاء والعدول، وخلاصة هذا المحضر: أن الفاطميين ملوك مصر، منسوبون إلى ديصان بن سعيد الخرَّمي، فليسوا من أهل البيت، ولا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب..

وأن هذا الحاكم بمصر هو وسلفه كفار فساق فجار، ملحدون زنادقة، معطلون، وللإسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون، قد عطَّلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمور، وسفكوا الدماء، وسبُّوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادَّعوا الربوبية”. 9[الاعتقاد القادري ص(۲4۱) للباقلاني[.

وقال -أيضا-: “كان المهدي عبيد الله باطنيَّا خبيثَّا حريصا على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء؛ ليتمكن من إغواء الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه: أباحوا الخمر والفروج، وأشاعوا الرفض”. 10العواصم من القواصم ص(۲۷۲)]

۲. قال أبو شامة رحمه الله :

“كان منهم ثلاثة بإفريقية: المهدي، والقائم، والمنصور، وأحد عشر بمصر آخرهم العاضد، ثم قال : يدعون الشرف ونسبتهم إلى مجوسي أو يهودي، حتى اشتهر لهم ذلك. وقيل: الدولة العلوية، والدولة الفاطمية، وإنما هي الدولة اليهودية أو المجوسية الملحدة الباطنية.. قال: وكان زندیقا خبيثا، ونشأت ذريته على ذلك، وبقي هذا البلاء على الإسلام من أول دولتهم إلى آخرها”. 11[سير أعلام النبلاء(11/454)[

٣. وقال الذهبي: “كان القائم بن مهدي شرَّا من أبيه، زنديقاً، ملعوناً، أظهر سب الأنبياء. وقال: وكان العبيديون على ملة الإسلام شرَّا من التتر”. 12[تاریخ الخلفاء(1/9-12)[.

  1. وقال أبو الحسن القابسي: “إن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه من العلماء والعبَّاد أربعة آلاف رجل، ليردوهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت، فياحبذا لو كان رافضيَّا فقط، ولكنه زنديق”. 13[تاریخ الخلفاء (۹/۱-۱۲)]

أسباب عدم صحة امامة الخلفاء العبيديين

5- وقال السيوطي رحمه الله:

“ولم أورد أحداً من الخلفاء العبيديين؛ لأن إمامتهم غير صحيحة، لأمور :

منها: أنَّ أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام، ومنهم من أظهر سبَّ الأنبياء، ومنهم من أباح الخمر، ومنهم من أمر بالسجود له، والْخَيّرُ منهم رافضي خبيث لئيم يأمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، ومثل هؤلاء لا تنعقد لهم بيعة، ولا تصح لهم إمامة”. 14[تاریخ الخلفاء (1/9-12)[

 

العبيديين من ذرية المجوس ومذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصارى

  1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

“قد علم أنَّ جمهور الأمة تطعن في نسبهم ويذكرون أنهم من أولاد المجوس أو اليهود. هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف: من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث وأهل الكلام وعلماء النسب والعامة وغيرهم.. كما صنف القاضي أبو بكر الباقلاني كتابه المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم وذكر أنهم من ذرية المجوس وذكر من مذاهبهم ما بيَّن فيه أنَّ مذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصارى؛ بل ومن مذاهب الغالية الذين يدَّعون إلهية علي أو نبوته فهم أكفر من هؤلاء”. 15(مجموع الفتاوی(35/128-129)[.

  1. وقال أبو حامد الغزالي : “ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض”.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : “وهذا الذي قاله أبو حامد فيهم هو متفق عليه بين علماء المسلمين، وكانوا يأمرون عامَّتهم بالعبادات وهم على درجات مرتبة عندهم كلما ارتفع درجة عبروا الشريعة عنده فإذا انتهى اسقطوا عنه الشرع”.16 [الرد على المنطقيين (1/280)[.

 

دروس وعبر

  1. عظمة الإمام القدوة ابن النابلسي، حيث صدع بالحق في وجه الدولة العبيدية وهو يعلم بطشهم، فسلخوه وهو حي حتى استشهد صابراً على هذا البلاء العظيم. وقد سئل صلى الله عليه وسلم: أي الجهاد أفضل؟ قال: «كلمة حق عند سلطان جائر». 17[رواه النسائي (4209) وصححه الألباني].

٢. كان لعلمائنا الأوائل موقف واضح من الحكام المبدلين للدين ودولهم، سواء في جانبه العقدي أو التشريعي، ولم تنطل عليهم اللافتة الإسلامية التي كانت ترفعها الدولة العبيدية وحگامها؛ فقد اعتبروا الدولة العبيدية خارجة عن الإسلام ومستحقة للجهاد. قال شيخ الإسلام: “ولأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدة دولتهم نحو مائتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان حتى قالت فيها العلماء: إنها كانت دار ردة ونفاق کدار مسيلمة الكذاب”. 18[مجموع الفتاوی (35/139)[.ومستندهم في ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة على قتال المرتدين زمن الصديق رضي الله عنهم، سواء الذين اتبعوا الكذابين أو الذين منعوا الزكاة وأرادوا تبديل الدين، قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام : “والمصدق لهذا جهاد أبي بكر الصديق -رحمة الله عليه بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة، كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء، لا فرق بينها في سفك الدماء، وسبي الذرية، واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها”. 19[الإيمان ص(۱۷)].

  1. إن المنافقين المنتسبين للإسلام هم أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، وخصوصاً إذا كانوا

متنفذين؛ لأنهم باسم الإسلام يهدمون الدين، وهذا ما لا تقدر على مباشرته اليهود والنصارى، والتاريخ القديم والحديث شاهد على ذلك، وقد قال تعالى عن المنافقين: (هُم العدو فاحذرهم ).

  1. علماء الأمة هم صمام الأمان، وخصوصا الناطقين بالحق في الظروف الصعبة، قال صلى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين». 20[رواه البيهقي (۲۰۹۱۱) وصححه الإمام أحمد كما نقله عنه الخطيب، انظر : کنز العمال (۲۸۹۱۸) وصححه الألباني في المشكاة (248)]
  2. امتدت الدولة العبيدية نحو ۲۷۰ سنة، ثم انهارت، وبقيت الأمة وبقي دينها مصداقا لقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) . وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك». 21[رواه مسلم (۱۹۲۰)]

اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعزُّ فيه أهل طاعتك ويذلُّ فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء..

الهوامش:

  1. انظر سير أعلام النبلاء.
  2. ديوان المبتدأ والخبر(1/28).
  3. انظر: تاریخ الخلفاء (1/367) للسيوطي.
  4. سير أعلام النبلاء (11/132).
  5. أخبار ملوك بني عبيد وسيرتهم (1/51).
  6. أخبار ملوك بني عبيد وسيرتهم (1/51).
  7. البداية والنهاية (12/11).
  8. المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (2/436) للمقريزي.
  9. الاعتقاد القادري ص(۲4۱) للباقلاني.
  10. العواصم من القواصم ص(۲۷۲).
  11. سير أعلام النبلاء(11/454).
  12. تاریخ الخلفاء(1/9-12).
  13. تاریخ الخلفاء (۹/۱-۱۲).
  14. تاریخ الخلفاء (1/9-12).
  15. مجموع الفتاوی(35/128-129).
  16. الرد على المنطقيين (1/280).
  17. رواه النسائي (4209) وصححه الألباني.
  18. مجموع الفتاوی (35/139).
  19. الإيمان ص(۱۷).
  20. رواه البيهقي (۲۰۹۱۱) وصححه الإمام أحمد كما نقله عنه الخطيب، انظر : کنز العمال (۲۸۹۱۸) وصححه الألباني في المشكاة (248).
  21. راواه مسلم (۱۹۲۰).

اقرأ أيضاً:

 

التعليقات غير متاحة