الشرك هو أظلم المظالم؛ فهو تنقّص لرب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدول به بالمخلوق الضعيف، كما أنه مناقض لمقصود الخلق؛ فحقيقته الاستكبار عن طاعته والذل له والانقياد لأمره، وتشبيه للمخلوق بالخالق في خصائص الألوهية.

ظلم النفس بالظلم الأعظم

وهو الكفر بالله تعالى والإشراك به سبحانه: قال الله تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 254] ، وقال عز وجل: ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13] ، وهذا النوع من الظلم لا يغفره الله عز وجل لو مات صاحبه بلا توبة، وهو مخلد في النار. وكونه أعظم الظلم؛ لأنه وضعٌ للعبادة في غير موضعها، وصرفها عن الله عز وجل الخالق الرازق رب العالمين إلى مخلوق ضعيف لا يملك نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

يقول الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: (لما كان الشرك أعظم ذنب عُصِيَ الله به، ولهذا رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، من إباحة دماء أهله وأموالهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه، نبه المصنف بهذه الترجمة على أنه ينبغي للمؤمن أن يخاف منه ويحذره ويعرف أسبابه ومبادئه وأنواعه لئلا يقع فيه، …… وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من هذا الذنب الذي هذا شأنه عند الله، وإنما كان كذلك؟:

1-لأنه أقبح القبح وأظلم الظلم إذ مضمونه تنقيص رب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: 1].

2-ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر منافٍ له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته والذل له، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك. فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله».

3- ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق ـ تعالى وتقدس ـ في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع، والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده. فمن علق ذلك لمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا … موتًا ولا حياة ولا نشورًا فضلاً عن غيره ـ شبيهًا بمن ﴿لَهُ الْخَلْقُ﴾ كله، ﴿وَلَهُ الْمُلْكُ﴾ كله وبيده الخير كله، ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ . فَأَزِمَّة الأمور كلها بيديه سبحانه، ومرجعها إليه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس ﴿رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ . فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات القادر الغني بالذات، ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والتوبة والاستعانة وغاية الحب مع غاية الذل، كل ذلك يجب عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون لغيره، فمن فعل شيئًا من ذلك لغيره، فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثل له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه أنه لا يغفره مع أنه ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ ، فهذا معنى كلام ابن القيم)11- تيسير العزيز الحميد، ص78-79. .

من صور  الظلم العظيم

الشرك في الربوبية

أ – الشرك في الربوبية: وهو اعتقاد أن غير الله عز وجل يخلق أو يرزق أو يدبر شيئاً في هذا الكون من دون الله عز وجل أو مع الله عز وجل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً كشرك أهل التعطيل والفلاسفة ومن يقولون بقدم العالم، وكشرك النصارى الذين يقولون: إن الله سبحانه ثالث ثلاثة، وكشرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة … إلخ.

الشرك في الألوهية

ب – الشرك في الألوهية: وهو اعتقاد شريك لله تعالى في الإلهية والطاعة والعبادة، وهو شرك الجاهليين في القديم والحديث، وهذا النوع من الشرك له صور كثيرة لا تخرج في مجملها عن الأنواع الآتية:

– شرك النسك

* الشرك في العبادة والنسك: ومنها الخوف والرجاء والنذر والذبح والركوع والسجود والدعاء، وغير ذلك مما يصرفه المشركون إلى أوليائهم من الأحياء والأموات، يقول تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162-163].

– شرك الحكم والطاعة

* الشرك في الطاعة والاتباع: قال الله تعالى: ﴿وَإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121] وقال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 31] وقد جاء في تفسير الآية أنهم أطاعوهم في تحليل ما حرم الله تعالى، وتحريم ما أحل الله تعالى فكانوا بذلك متخذين أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله تعالى، يقول شيخ الإسلام: (وفي حديث عدي بن حاتم – وهو حديث حسن طويل رواه أحمد والترمذي وغيرهما – وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نصراني فسمعه يقرأ هذه الآية قال: فقلت له إنا لسنا نعبدهم ، قال: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه» قال: فقلت: بلى . قال: «فتلك عبادتهم» .

وكذلك قال أبو البختري: أما إنهم لم يصلوا لهم ، ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرامه حلاله ، فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية .
وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية:  كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به ونهوا عنه فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء ، فما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا لقولهم فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال لا أنهم صلوا لهم وصاموا لهم ودعوهم من دون الله فهذه عبادة للرجال وتلك عبادة للأموال وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الله أن ذلك شرك بقوله :﴿لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31]  فهذا من الظلم الذي يدخل في قوله: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات:22-23] . فإن هؤلاء والذين أمروهم بهذا هم جميعا معذبون)22- مجموع الفتاوى، 7/67-68..

ويقول الشنقيطي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10]  ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده ، لا إلى غيره – جاء موضحا في آيات كثيرة.

فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته ، قال في حكمه: ﴿وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 26] وفي قراءة ابن عامر من السبعة ﴿وَلَا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ بصيغة النهي .
وقال في الإشراك به في عبادته: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110] ، فالأمران سواء كما ترى إيضاحه – إن شاء الله – .
وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله ، والحرام هو ما حرمه الله ، والدين هو ما شرعه الله ، فكل تشريع من غيره باطل ، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه – كفر بواح لا نزاع فيه .
وقد دل القرآن في آيات كثيرة على أنه لا حكم لغير الله ، وأن اتباع تشريع غيره كفر به)33- أضواء البيان، 7/162..

وأوضح مثال لذلك في زماننا، ما يقوم به الطواغيت المشرعون من دون الله تعالى من وضع دساتير يظلمون بها عباد الله ويحكمون بها في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وفيها ما يضاد شرع الله عز وجل فمن رضي بها وأطاعهم فيها بعلم فقد أشرك، واتخذهم أرباباً من دون الله عز وجل.

– شرك الولاء

ج – الشرك في الولاية والمحبة: وذلك بعدم البراءة من الشرك وأهله، أو محبتهم محبة قلبية لدينهم، أو نصرتهم على المسلمين، كل ذلك مما يوقع في الشرك الأكبر والظلم الأعظم، قال الله تعالى: ﴿قُلْ أََغَيْرَ اللَّهِ أََتَّخِذُ وَلِياً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأََرْضِ﴾ [الأنعام: 14] ، وقال تعالى عن اليهود والنصارى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: 51] .

يقول الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: (ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله». وهذا من أعظم ما يبين معنى “لا إله إلا الله “، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله؛ فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه. فيالها من مسألة ما أعظمها وأجلها! وياله من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع!)44- كتاب التوحيد، ص115..

الهوامش

1- تيسير العزيز الحميد، ص78-79.

2- مجموع الفتاوى، 7/67-68.

3- أضواء البيان، 7/162.

4- كتاب التوحيد، ص115.

اقرأ أيضا

الظلم: حقيقته، والتحذير منه

الظلم يوم القيامة .. دواوين ثلاثة

الظلم .. آثاره وعواقبه في الدنيا

 

التعليقات غير متاحة