وصف الله تعالى نفسه بالرحمة، وكتبها على نفسه تفضلا، ولهذه الرحمة مظاهر، وللإيمان بها آثار في قلب المؤمن وشعوره وخُلقه، كما يجب التعبد لله تعالى بمقتضاها.
مقدمة
لقد كان العرب في جاهليتهم ـ على كل ما في هذه الجاهلية من ضلال في التصور ينشأ عنه انحطاط في الحياة ـ أرقى من الجاهلية «العلمية» الحديثة، التي لا تعرف هذه الحقيقة، والتي تغلق فطرتها وتعطلها دون رؤية هذه الحقيقة!
كانوا يعرفون ويقررون أن لله ما في السموات والأرض، ولكنهم ما كانوا يرتبون على هذه الحقيقة نتائجها المنطقية… ونعود إلى الآية لنجد السياق يلحق بهذا التقرير لملكية الله سبحانه لما في السموات وما في الأرض، أنه سبحانه ﴿كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾. (الأنعام: 12)
فهو سبحانه المالك، لا ينازعه منازع، ولكنه ـ فضلًا منْه ومنّة ـ كتب على نفسه الرحمة؛ كتبها بإرادته ومشيئته؛ لا يوجبها عليه موجب، ولا يقترحها عليه مقترح، ولا يقتضيها منه مقتضٍ ـ إلا إرادته الطليقة وإلا ربوبيته الكريمة ـ وهي الرحمة ـ قاعدة قضائه في خلقه، وقاعدة معاملته لهم في الدنيا والآخرة..
والاعتقاد إذن بهذه القاعدة يدخل في مقومات التصور الإسلامي، فرحمة الله بعباده هي الأصل، حتى في ابتلائه لهم أحيانًا بالضراء، فهو يبتليهم ليعِدّ طائفة منهم ـ بهذا الابتلاء ـ لحمل أمانته، بعد الخُلُوص والتجرد والمعرفة والوعي والاستعداد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء، وليميز الخبيث من الطيب في الصف، وليعلم مَن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة.
والرحمة في هذا كله ظاهرة.
على أن تلمُّس مواضع رحمة الله ومظاهرها يستغرق الأعمار والأجيال؛ فما من لحظة إلا وتغمر العباد فيها الرحمة.. إنما ذكرنا الرحمة في الابتلاء بالضراء؛ لأن هذه هي التي قد تزيغ فيها القلوب والأبصار!
ولن نحاول نحن أن نتقصَّى مواضع الرحمة الإلهية أو مظاهرها ـ وإن كنا سنشير إشارة مجملة إلى شيء من ذلك فيما يلي ـ ولكننا سنحاول أن نقف قليلًا أمام هذا النص القرآني العجيب: ﴿كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾. (الأنعام: 12)
وقد تكرر وروده في السورة في موضع آخر: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾. (الأنعام: 54).
تفضل الخالق
إن الذي يستوقف النظر في هذا النص هو ذلك التفضُّل الذي أشرنا من قبل إليه.. تفضُّل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده.. تفضُّلُه ـ سبحانه ـ بأن يجعل رحمته بعباده في هذه الصورة.. مكتوبة عليه؛ كتبها هو على نفسه، وجعلها عهدًا منه لعباده، بمحض إرادته ومطلق مشيئته.
وهي حقيقة هائلة لا يثبت الكيان البشري لتملِّيها وتأملها وتذوق وَقْعها، حين يقف لتدبرها في هذه الصورة العجيبة.
“إن تدبر هذه الحقيقة على هذا النحو ليدع القلب في عجب وفي دَهَش؛ كما يدعه في أُنْس وفي رَوْح، لا تبلغ الكلمات أن تصور جوانبه وحواشيه!”
“ومثل هذه الحقائق، وما تثيره في القلب من مشاعر؛ ليس موكولًا إلى التعبير البشري ليبلغ شيئًا في تصويره، وإن كان القلب البشري مهيأً لتذوقه لا لتعريفه!”
“وتمثّل هذه الحقيقة في التصور الإسلامي يكون جانبًا أساسيًّا من تصور حقيقة الألوهية، وعلاقة العباد بها.. وهو تصوُّر جميل مُطَمْئِن ودود لطيف، يعجب الإنسان معه لمناكيد الخلق، الذين يتقولون على التصور الإسلامي في هذا الجانب، لأنه لا يقول ببنوة أحد من عباد الله لله! ـ على نحو ما تقول التصورات الكنسية المحرفة..!
فالتصور الإسلامي إذ يرتفع على هذه التصورات الصبيانية الطفولية، يبلغ في الوقت ذاته من تصوير العلاقة الرحيمة بين الله وعباده هذا المستوى، الذي يعجز التعبير البشري عن وصفه، والذي يَتْرَعُ القلب بحلاوة مذاقه، كما يروعه بجلال إيقاعه.
ورحمة الله تفيض على عباده جميعًا، وتسعهم جميعًا، وبها يقوم وجودهم، وتقوم حياتهم، وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات.
مظاهر رحمة الله في حياة “الإنسان”
فأما في حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها، ولكننا نذكر منها لمحات في مجالاتها الكبيرة.
تفضلٌ بالوجود
إنها تتجلى ابتداءً في وجود البشر ذاته، في نشأتهم من حيث لا يعلمون، وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم، بكل ما فيه من خصائص يفضل بها الإنسان على كثير من العالمين.
تفضلٌ بالتسخير
وتتجلى في تسخير ما قدّر الله أن يسخره للإنسان، من قوىً الكون وطاقاته.
وهذا هو الرزق في مضمونه الواسع الشامل، الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته.
تفضلٌ بالتعليم
وتتجلى في تعليم الله للإنسان، بإعطائه ابتداء “الاستعداد للمعرفة”، وتقدير “التوافق” بين استعداداته هذه وإيحاءات الكون ومعطياته.
هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله، وهو الذي علّمهم إياه! وهو من رزق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك.
تفضلٌ بالرعاية
وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض، بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى، كلما نسي وضل، وأخذه بالحلم كلما لجَّ في الضلال، ولم يسمع صوت النذير، ولم يُصْغ للتحذير، وهو على الله هيِّن، ولكن رحمة الله وحدها هي التي تمهله، وحلم الله وحده هو الذي يسعه.
تفضلٌ بالمغفرة
وتتجلى في تجاوز الله سبحانه عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب، وبكتابة الرحمة على نفسه، ممثَّلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب.
تفضلٌ بالجود
وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها، والمُضاعفة بعد ذلك لمن يشاء، ومحو السيئة بالحسنة.
وكله من فضل الله؛ فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عن نفسه، في معرفة كاملة بعجز البشر وفضل الله.
إعلان قصور المتابعة
والإقصار منا عن متابعة رحمة الله في مظاهرها، وإعلان القصور والعيِّ عنها، هو أجدر وأولى، وإلا فما نحن ببالغين من ذلك شيئًا..!
وإن لحظة واحدة يفتح الله فيها أبواب رحمته لقلب العبد المؤمن، فيتصل به، ويعرفه، ويطمئن إليه ـ سبحانه ـ ويأمن في كنفه، ويستروح في ظله.. إن لحظة واحدة من هذه اللحظات لتعجز الطاقة البشرية عن تملِّيها واستجلائها، فضلًا عن وصفها والتعبير عنها.
الوصف النبوي للرحمة
فلننظر كيف مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الرحمة بما يقرِّبها للقلوب شيئًا ما أخرج الشيخان ـ بإسنادهما عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لما قضى الله الخلق»، وعند مسلم: «لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي».
وعند البخاري في رواية أخرى: «إن رحمتي غلبت غضبي».
وأخرج الشيخان ـ بإسنادهما عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه».
وله في أخرى: «إن الله تعالى خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة واحدة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها الله تعالى بهذه الرحمة».
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يني يعلمُ أصحابه ويذكِّرهم بهذه الرحمة الكبرى..
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قُدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى قد تحلب ثديها، إذ وجدت صبيًّا من السبي، فأخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، فقال صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟» قلنا: لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه، قال: «فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها».
وكيف لا، وهذه المرأة إنما ترحم ولدها، من فيض رحمة واحدة من رحمات الله الواسعة؟
التخلق بهذا الخلُق الكريم
ومن تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه هذه الحقيقة القرآنية، بهذا الأسلوب الموحي، كان ينتقل بهم خطوة أخرى، ليتخلقوا بخلق الله هذا في رحمته، ليتراحموا فيما بينهم، وليرحموا الأحياء جميعًا؛ ولتذوق قلوبهم مذاق الرحمة وهم يتعاملون بها، كما تذوقتها في معاملة الله لهم بها من قبل.
عن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الراحمون يرحمهم الله تعالى، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء».
اتساع مجال التخلق به
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يقف في تعليمه لأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ عند حد الرحمة بالناس.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر، فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله تعالى له فغفر له» قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرًا؟ قال: «في كل كبد رطبة أجر».
وفي أخرى: إن امرأة بغيًّا رأت كلبًا في يوم حار يَطِيف ببئر، قد أدلع (أي أخرج) لسانه من العطش فنزعت له موقها (أي خفها) فغفر لها به».
وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: كنا مع رسول صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأينا حُمَّرَةً (طائر) معها فرخان لها، فأخذناهما، فجاءت الحمرة تعرِّش (أو تفرش) ـ (أي ترخي جناحيها، وتدنو من الأرض) ـ فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها».
وهكذا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه هدي القرآن، ليتذوقوا رحمة الله من خلال مزاولتهم للرحمة.. أليس أنهم إنما يتراحمون برحمة واحدة من رحمات الله الكثيرة؟!..
آثار الإيمان برحمة الله في شعور المسلم
وبعدُ فإن استقرار هذه الحقيقة في تصور المسلم لَينشئ في حسِّه وفي حياته وفي خُلقه آثارًا عميقة؛ يصعب كذلك تَقصّيها؛ ولابد من الاكتفاء بالإشارة السريعة إليها، كي لا نخرج من نطاق الظلال القرآنية، إلى قضية مستقلة!
الشعور بالطمأنينة
إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليسكب في قلب المؤمن الطمأنينة إلى ربه ـ حتى وهو يمرّ بفترات الابتلاء بالضراء، التي تزيغ فيها القلوب والأبصار.
فهو يستيقن أن الرحمة وراء كل لمحة، وكل حالة، وكل وضع؛ وأن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه، أو طرده من رحمته، فإن الله لا يطرد من رحمته أحدًا يرجوها، إنما يطرد الناسُ أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله، ويرفضون رحمته، ويبعدون عنها!
وهذه الطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات والصبر، وبالرخاء والأمل، وبالهدوء والراحة.. فهو في كنفٍ ودُودٍ، يسترْوح ظلاله، ما دام لا يُبعد عنه في الشرود!
الشعور بالحياء
والشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يستجيش في حس المؤمن الحياء من الله، فإن الطمع في المغفرة والرحمة لا يجرّئ على المعصية ـ كما يتوهم البعض ـ إنما يستجيش الحياء من الله الغفور الرحيم.
والقلب الذي تجرّئه الرحمة على المعصية هو قلب لم يتذوق حلاوة الإيمان الحقيقية!
لذلك لا أستطيع أن أفهم أو أسلّم لما يجري على ألسنة بعض المتصوفة من أنهم يلجّون في الذنب ليتذوقوا حلاوة الحلم، أو المغفرة، أو الرحمة.. إن هذا ليس منطق الفطرة السوية في مقابلة الرحمة الإلهية!..
التأثير في خُلق المسلم
كذلك فإن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يؤثر تأثيرًا قويًّا في خُلق المؤمن، وهو يعلم أنه مأمور أن يتخلق بأخلاق الله سبحانه، وهو يرى نفسه مغمورًا برحمة الله مع تقصيره وذنبه وخطئه؛ فيعلمه ذلك كله كيف يرحم، وكيف يعفو، وكيف يغفر.. كما رأينا في تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ مستمدًّا تعليمه لهم من هذه الحقيقة الكبيرة.
خاتمة
لم يقم هذا الخلق ويبقى إلا برحمة الله تعالى، ولم نُمهل للتوبة والمراجعة إلا برحمته تعالى.
ولا يصل اليه أحد إلا برحمته. فهي السبب العظيم الواصل بين الله وعباده. حيث يأمل المؤمنون أن يدخلوا في رحمته يوم لقائه فيكون نعيمهم الأبدي في جنته.
فاللهم لا تحرمنا من فضلك، وأدخلنا في رحمتك.
……………………………
المصدر:
- «في ظلال القرآن» (2/1048-1053) باختصار يسير.