ثمة تغيرات عالمية مهمة لا بد أن تكون تحت أنظار المسلمين، وهي تغيرات تحتوي العِبرة والسخرية والمفارقة، والسؤال الكبير عن دور الإسلام والمسلمين؛ مع الحاجة الماسة إليهم.

مقدمة

لله تعالى أقداره التي نرقبها، ونرى يده تعالى وهي تعمل. إننا اليوم نشهد أحداثا مفصلية وبدايات تصدُّع للقوة الأمريكية ونرى جريان وعوده تعالى وسننه في خلقه؛ لكن وضع الإسلام وأهله هو الشغل الشاغل للمسلمين.

أولا) الجنوح الى الاستبداد!

منذ مدة، وتحديدا منذ بداية عهد “الترامبية” في أمريكا، ثم جائحة “كورونا” ونجاح الصين في التعامل معها؛ أصبح هناك ميل عالمي غربي “أوروبي وأمريكي” الى الاستبداد الصريح، والتخلي عن الحريات والديمقراطية الغربية، ويميل نحو السلطوية الصريحة. وأقول “الصريحة” لأن للديمقراطية الغربية أدواتها للتحكم الحاسم والناعم والتوجيهي للشعوب بحيث تُشعر الشعوب أنها حرة، وهو شعور جزء منه حقيقي ـ وهو قليل، وأكثره مزيف، خاضع لمراكز المال والإعلام والثقافة الصهيوصليبية. وفي هذا كتب الكثير منهم؛ خاصة وأنهم يمتلكون الأدوات التكنولوجية والمؤسسية لهذا. والبعض يشيد بنجاح النموذج الصيني المستبد اقتصاديا وفي الأزمات..! فهو انهيار معنوي غربي داخلي أمام استبداد مقيت!! فهي حالة فراغ كبيرة قيمية وحضارية.

ثانيا) تدمير منظم للمنظومة الأمريكية

في الانتخابات الأمريكية الأخيرة ظهر تدمير منظم للقيم الأمريكية التي تقف على رأس الغرب حاليا، ومن ثم على رأس العالم ـ للأسف ـ حيث تهاوت أمور كثيرة؛ أهمها:

1) الهوية الأمريكية؛ حيث هناك تنازع على “أمريكا” نفسها، فالجمهوريون يصرحون بأنه لو خسر “ترامب” فلن يتولى رئيس جمهوري بعده. وتنامت نزعة امتلاك العرق الأبيض المسيحي لأمريكا، ورؤيته أن بقية المكونات تسرق منهم البلاد..!

وبالتالي بدأ شرخ سياسي رأسي عميق، من المؤسسات الى الجذور الشعبية التي وصلت الى فوق السبعين مليون شخص في كل جانب، الديمقراطي والجمهوري.

2) هذا الخطاب يذكّرك بما فعلوه في بلادنا. ففي بلادنا منذ بدأ هذا الخطاب “التقسيمي”، بتوجيه أمريكي، قسّم بلادنا ورأى كل فريق أنه بديل لا يحتمل وجود غيره، وأن البلاد لو ذهبت للآخر فقد سُرقت؛ كان هذا إيذانا باحتراق داخلي عميق وفساد واستبداد وضياع، وفقدان البوصلة وخفة الوزن وضياع الآمال والطموحات والهبوط الى دوامة كبيرة وحدوث تجريف هائل في النفوس والأخلاق والواقع.

3) ومن هنا فقد كانت الدعابة السخيفة، والنكتة السمجة؛ أن الصديد الذي زرعوه في المنطقة العربية، أصابهم..! فبعدما كانوا يعالجون به أوضاعنا ويُمرضون به شعوبنا دبَّ اليهم فأصيبوا به.. حتى صار المحللون والسياسيون يقولون:

“لا نعلم عن أمريكا نتحدث أم عن جمهوريات الموز..!”.

وهذه الكلمة تسمعها كثيرا في التحليلات الجارية في المشهد الأمريكي.

4) الى هذه اللحظة يمكن لـ “ترامب” أن يفوز ويمكن لـ “بايدن”؛ لكنك يمكن أن تؤرخ من هذا التاريخ للإنشقاق غير القابل للعلاج، كما تقول أحد الصحف السويدية؛ فالمهمة مستحيلة؛ أن يلتئم هذا الشعب ولو تولى بايدن.

5) منذ عقدين صرح “بيل كلينتون” بقوة بلاده بجملة كانت ترجمتها الحرفية:

“مَن أشد من أمريكا قوة..؟!”

وهي كلمة قوم “عاد” قبل أن يهلكهم الله تعالى. ولا بد أن تهلك أمريكا، إما تدميرا أو تنذوي وتضعُف قواها كما تراجعت بريطانيا وفرنسا، ومن قبلها أسبانيا والنمسا وألمانيا. ولا  بد أن تصعد قوى أخرى. فتلك سنة الله الجارية، ولا بد للأمم أن ترى عاقبة أدوائها العقدية والخلقية، ونتيجة مظالمها ، ونتيجة ترهّلها الإمبراطوري ونفقاتها العسكرية لسرقة الأمم وقهر الشعوب وضياع الحقوق. وفوق كل شيء لا بد من كلمة الله العدل وقدَره النافذ.

ثالثا) لكن هذا لا يمثل لدينا شماتة بل ولا فرحا..! نحن نعلم سنن الله ونوقن بخبره ووعده، فإذا رأيناه قلنا ﴿هذا ما وعدَنا الله ورسولُه، وصدق الله ورسولُه﴾. لكن الألم ليس هنا؛ إنما الألم أنه عند سقوط قوى امبراطورية ونشوء أخرى واقتراب قوى جديدة للسيطرة؛ تكون هذه فرصة للمستضعفين أن يمتلكوا أمرهم، ويفوزا بأنفسهم وبلادهم ويخرجوا من قبضة عدوهم القديم ويستعيدوا التموضع قبل أن يأتي “الآخر” ويمتنعوا من تسلطه. وكل هذا لا يحدث إلا بالعودة للهوية والعقيدة والمنهج.

وهذا كان الدور “المأمول” من الثورات العربية التي حدثت ثم راحت..! فالذي حدث هو الانتكاسة الكبرى والتراجع والسعي لتدمير الذات ومعاداة الهوية واستهداف العقائد والأخلاق والثوابت وتدمير الوضع المدني وتفريغ قوة المجتمعات العربية.

ما يؤلم هو عدم جاهزية المسلمين للخروج، ولو جاءت لهم الفرص. للأسف “الإيرانيون” بجرائمهم جاهزون لامتلاك الفرصة ويتأهبون لها. “الأتراك” في موقف أصعب لكنهم أفضل من العرب حالا. لكن “العرب” في ذيل القافلة وآخرهم استعدادا، وكأنهم ينتظرون من يرتّب لهم الأوراق ويتلطف معهم للعودة ويلحّ عليهم لاستعادة الحياة!! إذ إنهم ينتحرون ذاتيا الآن بلا ضغط خارجي..!!

رابعا) أين المسلمون؟

نماذج علمية تختفي، ونماذج جديدة للحكم تتحضر. وكان أوْلى بها كثيرا المسلمون الذين تلقوا مقررات “روسو” و”مونتيسكو” و”الديمقراطية الغربية” وغيرها أسسا كأنها آيات تنزلت، وتلقوا مفهوم “الوطن” و”العلَم” و”النشيد”، وكأنها مقدسات وأصنام، وسابقا كانت “القومية” مقدسات لا تمس، واليوم تُركل وتُصفع..! مع ملاحظة أن واضعي هذه الشعارات يخونون بها شعوبهم..! لكن وصل العار الى أن تكون راية الإسلام وهويته وشرعته ومنهجه خيانة للوطنية السعودية، وللهوية المصرية، وللوطنية السودانية، بل للدول القزمة..!

المسلمون لا يزالون هم البديل الجاهز، الجاهز لأنفسهم على الأقل، فعندهم من الأصول النظرية والعملية أضعاف أضعاف ما تمتلك أوروبا، وتاريخ النظام والمنهج الاسلامي الذي غاب من مائة عام فقط، أقرب بكثير من تاريخ أوروبا الذي استحضرته من الرومان واليونان من ثلاثة آلاف عام.

للمسلمين القدرة على تقديم نموذجهم هم، العقدي والحضاري، وهو نظام شامل يقيم “الحضارة” و”الأمة”، ويستوعب المكونات العقدية المختلفة للديانات، بنصوص صريحة وممارسات راقية وعادلة وتجربة تاريخية رائدة مع غير المسلمين. وهي حضارة تستوعب المكونات العرقية والقومية وقد تداول على قيادتها عرب وأكراد وفرس وأتراك وبربر وأفارقة بلا تفريق إلا بالتقوى.

وهذا بخلاف ما نشهده اليوم من تفتيت وتمزع بمختلف نوازع التفكيك والتفتيت.

تجربة ثرية وفريدة، ونصوص عزيزة وسامية، ومنهج متصل بالسماء، ونظام متكامل، وقوانين شاملة لجميع أرجاء الحياة؛ ثم نعجز عن إقامة هذا وتطبيقه في منهجه المتفرد ونئد كل محاولة دونه، ويحارب الكافرون بحرقة موتورة..! ويصرخ المنافقون هلعا..! بينما يرتاحون لأطروحات الشواذ والفساق والمجاذيب..!!

خاتمة

السنوات القليلة القادمة بطبيعتها تفرض على العالم تغييرات كبيرة وموجات هائلة.. ويبقى نداء واحد؛ أين المسلمون؟ وأين منهجهم؟ ولماذا تتأخر الأمة؟!!

…………………………

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة