إن أخطر موقع لسهام الغزو الثقافي هو ثقة الأمة بنفسها، ونحن أمة مسلمة، قوتنا في هويتنا الإسلامية. لأجل ذلك كان الإسلام مستهدَفاً في نفْس كل مسلم، بالتشكيك في الأصول والاستخفاف بالفروع.

مقدمة

بعدما انجلت الفتنة عن المسلمين، واستقرت الخلافة بأيدي الأمويين بدأت الحركة العلمية في الازدهار وعكف كل فريق من العلماء على استنباط الأحكام وتأصيل القواعد وتأليف الكتب في مختلف الفنون، ومما استرعى انتباه علماء الحديث موجة الأخبار التي وضعت لتأييد هذا الاتجاه أو ذاك.

وقد لعبت هذه الأكاذيب دورها الدموي في حوادث الفتنة الكبرى مما حدا بعلماء الحديث النبوي الشريف إلى الاهتمام بهذه الظاهرة، فوضعوا أسساً لتمييز الحديث الثابت من غيره، وبدأت بواكير علم جديد تنقدح في أذهان العلماء، فظهر علم الإسناد الذي يعد مفخرة الحضارة الإسلامية ومن فوائدها الرائعة، وهو العلم الذي قهر الشائعات الخبيثة ورد كيد مختلقيها في نحورهم، فقد اشترطوا في راوي الخبر شروطاً حالت دون ورود الكذب إلى الحديث النبوي أو غيره من كلام الصحابة الكرام. لقد كان علم الإسناد الحصن الحصين الذي حمى نصوص الشريعة السمحة، وبالتالي المجتمع الإسلامي؛ من كل ما يمس مقدساته أو يخلّ بأمنه واستقراره العقائدي.

أما اليوم فقد تغيرت الأحوال وأصبح علم الإسناد من العلوم التراثية التي لم توظف بعد في الذَّبّ عن بيضه الإسلام والمسلمين.

إذ أن كل صيحة مهما كان مصدرها تحدث أصداء داخل مجتمعاتنا الإسلامية ويكون ضحيتها خلق كثير.

إن الأمم منذ أقدم الأزمنة تنفق النفْس والنفيس من أجل توحيد صفوفها ومحاربة دخلاء السوء عليها، وتحقيق التوازن الاجتماعي فيها، وما علينا نحن اليوم إلا شد المآزر للعمل الدؤوب حتى نحقق هذه الغاية السامية.

خطورة الغزو الثقافي

إن أخطر موقع يكون عرضة لسهام الغزو الثقافي هو ثقة الأمة بنفسها وبإمكانياتها الذاتية، والأمم الإسلامية تستمد هذه الثقة من كتاب ربها وسنة نبيه ودينه الذي ارتضاه لعباده. لأجل ذلك كان الإسلام مستهدَفاً في نفْس كل مسلم عن طريق ضرب عناصر القوة في هذه العقيدة بالتشكيك في الأصول والاستخفاف بالفروع، فانجرّ على أثر ذلك سيلٌ عرِمٌ من الشباب الذي رفع لواء العداء نحو قوميته وأصالته، ووقف معارضاً لعقائد مجتمعه بالسخرية والاستكبار. وأخطرهم أولئك الذين يتدثرون بجلباب البحث العلمي، وما هم في الحقيقة إلا جسوراً اعتلاها المد الاستشراقي والفلسفة الاستعمارية للوصول إلى قلب الأمة النابض.

إن عبث المستشرقين وأصحاب المدرسة الاستغرابية بالتراث الإسلامي باعَد الشقة بين أبناء العالم الإسلامي وحقيقة دينهم، وعمَّقَ ثَلْم الاستلاب الحضاري في نفوسهم، ولا نعلل ذلك التأثير السلبي إلا بغياب الحركة النقدية الواعية التي تكشف كل بدعة دخيلة في الدين أو مقولة هدامة للعقيدة.

لقد كان سلفنا الصالح يقف بالمرصاد لغزو الثقافات الوثنية الوافدة من الهند وفارس واليونان. وفي عصرنا هذا سرى المفهوم الغربي للدين في نفوس المثقفين فهجروه وتركوا بذلك الأبواب مفتوحة لكل فكرة ضالة أو شائعة محبوكة، فظهرت بدعة إنكار حجية السنة بعدما بعثها المستشرقون من قبور الفكر الاعتزالي الذي لقي حتفه آنذاك على أيدي علماء أهل السنة والجماعة، لا جرَم أن هذه ضربة قوية إذ أن معتنقيها ليسوا من عوام الناس بل من الأساتذة الكبار الذين يعتلون منابر التعليم وتوجيه الأجيال..!

صناعة وترتيب الإهتمامات المزورة

لقد تمكن مهندسو الاستغراب والعلمانيون من توجيه اهتماماتنا وفق إرادتهم ومشاريعهم وهم يحاولون بلا ملل أن يختلقوا لنا مشاكل لا تمُتّ إلى واقعنا بصِلة، وقد نجحوا إلى حد كبير في مهمتهم فنسينا في الواقع مشاكلنا باعتبار أننا كتلة تدين بالإسلام وتنتمي إلى حضارته العريقة.

إن مشكلتنا ليست في إحياء “الفولكلور” أو بعث فنون “التهريج” وأساليب التبرج والسفور والعادات والتقاليد الشركية الأخرى، فالإسلام نسخ كل جاهلية أذابَها في تياره، وعبثاً يحاول أولئك الذين يبحثون عن أصولٍ في مزابل التاريخ الجاهلي، فنحن قوم أعزّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلّنا الله، وقائمتنا لا تقوم إلا بالدين الإسلامي، وإلا فمن جعل قبائل العرب والبربر والزنوج تجتمع تحت لواء واحد..؟ ومن وضع لهذه القوميات جنسية موحَّدة ولغةً مشتركة بعدما كانت في قهر وذل من العيش تحت سياط الجلادين من الأكاسرة والقياصرة وعملائهم اليوم الذي يتألبون حول الذكريات الغابرة والأساطير المنصرمة، والرغبة الملحة في الإثم والعدوان والمعصية.

لا بد إذن من الاعتراف بالمرض، وأننا أُصبنا في الصميم ونتج عن ذلك جرح عميق لا نعالجه إلا بالإرادة الخيّرة والرغبة الصادقة في ذلك بعدما أصبح لكل ساقطةٍ من هناك لاقطةً عندنا، وبعدما أصبحنا لا نميّز بين الغث والسمين كما كان سلفنا الصالح الذين أبدعوا علم الإسناد وتفردوا به.

الاحتماء بشعور الانتماء

إن الشعور بالانتماء لحضارة الإسلام العظيمة عنصر قوي يحمي الأفراد والمجتمعات، ويحول دون انحلالها في حضارة المستعمر وفلسفته. وهذا الهدف الغالي إنما يكون بالتربية الإسلامية في البيت وفي المؤسسات الاجتماعية كافة وخاصة المسجد الذي هو منتدى المسلمين، يتذكّرون فيه شؤونهم مثلما يؤدون فيه فرائضهم.

إن تعميق عقيدة الإسلام في نفوسنا المبعثرة الأفكار، وترسيخ مفاهيمه الأساسية فيها متمثلة في معرفة الله، عز وجل، وتوحيده في ذاته وفي صفاته وتوحيد القصد إليه، وعدم النظر إلى غيره من حيث النفع والضر، واتباع سنه نبيه، صلى الله عليه وسلم، في كل ما يتصل بأمور الشريعة والعقيدة، كل ذلك يمهد السبيل الذي يحقق هذا الشعور النبيل الذي يحافظ على شخصية الفرد وهوية المجتمع وتماسكه ووحدته.

إن وسائل الغزو الثقافي تطورت تطوراً مذهلاً. ولكن مهما تطورت هذه الوسائل فإن إمكانيات المواجهة تصحبها في ذلك التطور، والحضارة التي اخترعت الطائرة المقاتلة هي التي اخترعت كذلك الصاروخ الرهيب الذي يسقطها من عليائها، وبالتالي فما علينا إلا رد كيد الاعداء في نحورهم بشرط توفر الإرادة الخيرة والرغبة الصادقة في ذلك ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد 11].

دور المعرفة في الانقاذ

إن المعرفة هي التي توسع مجال الاختيار؛ وبالتالي تقودُنا إلى فعلٍ أكثر تحرراً من آسار القيود، فبالعلم استنار السلف وبالعلم يستنير الخلف، وبالعلم ازدهرت بطاح نجد، وبالعلم أورقت حواضر الأندلس، وليس لغاية العلم للإنسان من بُدٍّ. فهو شمعة الحضارة، وسراج المدنية، وكم من أزمنه ودهور سادها الظلام لما جهلت وغابت عنها جذوة المعرفة، والإنسان العالم سيدُ نفسه وأميرٌ على نوازعه وشهواته، بينما يظل الجاهل يرسف في أغلال الهوى والطيش.

ونحن في زمنٍ الراشد فيه من حظي بزاد وافر من العلم والمعرفة، ونحن المسلمين لنا عراقة وأصول في هذا الميدان، وحري بنا نحن اليوم أن ننهج مسلك أجدادنا الخالدين على صفحات التاريخ العالمي.

إننا إذن مكلفون بحمل هذا الإرث العظيم وبعث أنواره لتعم أرجاءَ حياتنا التي تلفّها الظلمات وتعبث بها أيدي الفساد والإلحاد.

لقد ظل النبي، صلى الله عليه وسلم، مدة الرسالة عاكفاً على تعليم أصحابه ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ولما استأثر الله بنبيه كان العلم الذي تركه فيهم كنزاً من كنوز الوحي الذي أودعه الله سنة محمد، صلى الله عليه وسلم.

لقد حافظ الصحابة ومن تبعهم بإحسان على هذا الكنز فاستحقوا الفضل والشهادة لهم بالخيرية على لسان محمد، صلى الله عليه وسلم. إنهم خير القرون، فهي خيرية العلم والعمل والاعتقاد.

خاتمة

إن أول مدارج العلم يقود إلى تقوية الآصرة بين العبد وخالقه. والعبودية هي تلك الآصرة، وأعبَدُ الناس أعلمُهم، كما قال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ..﴾ وقال جل شأنه: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ .

والعبادة المنشودة هي ما توّجها الإخلاص وفضيلة المتابعة، وهي التي وعد الله أصحابها بوعدٍ غالٍ هو الجنة.

إن أول الطريق مهما كان طويلاً خطوة، ولعل هذه الكلمات تثمر وتكشف عن عزيمة صادقة ونزعة إلى تجديد ما عطله المبطلون، ونفض الغبار عن صفحات تاريخنا المجيد.

…………………………………………….

المصدر:

  • خميس بن عاشور، مجلة البيان ربيع الآخر ـ 1411هـ،نوفمبر ـ 1990م، (السنة: 5).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة