بين يدي رمضان هذا أزمات كثيرة، وترتفع الأسعار ويشتد قلق كبير من الناس وكأن الشياطين تبادر قبل تسلسلها في رمضان فتجلب على الناس فتنا تصرفهم عن عبادة الله في هذا الشهر المبارك، وأهمها الصيام..

مكانة الصوم في الإسلام

والصيام شعيرة ربانية عظيمة المكانة، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحد المباني التي بني عليها الإسلام، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان»(1).

ولابد لكل مسلم من استحضار فضيلة الصيام واستشعار هذه العبادة، وقد ثبت عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»(2). قال النووي :.. معنى  إيمانا: تصديقا بأنه حق معتقد فضيلته، ومعنى احتسابا : أن يريد الله تعالى وحده لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص(3).

وقال الحافظ ابن حجر: … المراد بالإيمان: الاعتقاد بحق فرضية صومه، وبالاحتساب: طلب الثواب من الله تعالى(4).

وهذا يعني أنه حتى يصل للصائم غفران ما تقدم من ذنوبه لابد أن يستحضر إيمانه بتلك الفريضة وأن يطلب الثواب من الله تعالى مخلصا له وحده وأن باعثه على الصوم ليس مجرد التعود ولا الاستحياء من الناس أو طلب مدحهم ونحو ذلك..

والله عز وجل لا يضيع أجر عامل مصلح يعمل لوجهه تبارك وتعالى طالبا الأجر والثواب، قال تعالى:

(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف:170].

قال الطبري: ويعني بذلك: والذين يعملون بما في كتاب الله، (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) بحدودها، ولم يضيعوا أوقاتها: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ). يقول تعالى ذكره: فمن فعل ذلك من خلقي فإني لا أضيع أجر عمله الصالح(5).

والمقصود بالتمسك هنا هو: الاستسلام لله تعالى بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، فلا يعبد إلا الله تعالى وحده لا شريك له، ولا يرجو سواه ولا يخاف إلا منه، فلا نافع ولا ضار إلا هو عز وجل، فلا يتعلق قلبه بكائن من كان، لجلب نفع أو دفع ضر..

ومن التمسك بالقرآن الكريم: التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بكل ما جاءت به من أحكام وأخلاق وآداب ، قال الله عز وجل:

(وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)[الحشر:7].

وقال تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم -: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3-4].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» (6).

وأعلى درجات التمسك تتحقق بالوصول إلى درجة الإحسان، أي: مراقبة الله تعالى وحده والإحسان هو: أن تعبد الله تعالى كأنك تراه؛ فعن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس فأتاه جبريل فقال: ما الإيمان؟ قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث». قال: ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان». قال: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك… »(7) الحديث.

فمرتبة الإحسان تدعو صاحبها إلى كمال المراقبة، وعمل كل خير، والابتعاد عن كل شر، أملا في وعد الله تعالى، وخوفا منه ومن وعيده عز وجل..

ومن علامات التمسك بالقرآن الكريم والسنة المطهرة:

عمارة المساجد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإخبات إلى الله تعالى رب العالمين ، قال الله تعالى:

(إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة:18].

ومن يتخلف عن الجماعات فقد عرض نفسه للضلال ، فعن عبد الله بن مسعود قال:

عَنْ عبدِ اللهِ، قالَ: مَن سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا، فَلْيُحَافِظْ علَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بهِنَّ، فإنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ سُنَنَ الهُدَى، وإنَّهُنَّ مَن سُنَنَ الهُدَى، ولو أنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ في بُيُوتِكُمْ كما يُصَلِّي هذا المُتَخَلِّفُ في بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، ولو تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَما مِن رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إلى مَسْجِدٍ مِن هذِه المَسَاجِدِ، إلَّا كَتَبَ اللَّهُ له بكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عنْه بهَا سَيِّئَةً، وَلقَدْ رَأَيْتُنَا وَما يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلقَدْ كانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى به يُهَادَى بيْنَ الرَّجُلَيْنِ حتَّى يُقَامَ في الصَّفِّ.(8).

وهكذا بقية فرائض الإسلام، قال تعالى:

(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة:5].

وإنما نص على الصلاة لأنها أهم العبادات البدنية، ونص على الزكاة لأنها أهم العبادات المالية، والتنصيص عليهما نبه على بقية فرائض الإسلام، لأن تلك الفرائض داخلة في عبادة الله.

وخلاصة الأمر أن الملتزم المتمسك يؤدي عبادة الصوم وهو حاضر القلب، حريص على مرتبتي الإيمان والإحسان فيها وفي كل أحواله، ويحرص على صلاته وعامة فرائض الإسلام، وهو مع ذلك له جملة من النوافل والتلاوات والأذكار والصدقات، والحرص على الأخذ بنصيب من كل خير، مع هجر كافة الشرور.

قال صلى الله عليه وسلم: «اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب»(9).

وأما الصيام الصوري الأجوف فهو أداء هذه العبادة بصورة آلية خالية من حضور القلب ولا استحضار طلب الأجر مع مراقبة الله عز وجل.

ثم هو لا يتورع عن كثير من المحرمات لا سیما الاعتداء على حقوق الآخرين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضی ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار»(10).

قال النووي: معناه أن هذا حقيقة المفلس، وأما من ليس له مال ومن قل ماله فالناس يسمونه مفلسا، وليس هو حقيقة المفلس، لأن هذا أمر يزول وينقطع بموته، وربما ينقطع بیسار يحصل له بعد ذلك في حياته، وإنما حقيقة المفلس هذا المذكور في الحديث، فهو الهالك الهلاك التام والمعدوم الإعدام المقطع فتؤخذ حسناته لغرمائه فإذا فرغت حسنانه أخذ من سيئاتهم فوضع عليه ثم ألقي في النار فتمت خسارته وهلاكه وإفلاسه.(11)

أداء الحقوق من لوازم العبادة

وحقوق الناس هي التي تبرز حقيقة العبادة والتمسك بدين الله عز وجل، فظاهرة استغلال موسم الصيام في الإضرار بالناس ظلم كبير، خصوصا في حق الفقراء، وخاصة في أزمنة الحروب والأزمات وقد تكاثرت النصوص لتوجيه عامة المسلمين للتراحم وترك الظلم، فمن ذلك ما ثبت عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» (12).

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء»(13).

وأدلة الشريعة مستفيضة في ذلك..

ومما يعين على الصيام: صلاة الليل، وقد ورد في قيام رمضان الفضل نفسه الوارد في الصيام، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»(14).

ومثله التماس ليلة القدر؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»(15).

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدارس القرآن في كل ليلة من رمضان ويجود بالخير على المسلمين، فعن ابن عباس قال:

«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة»(16).

ومن العبادات التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان: عبادة الجهاد في سبيل الله، فقد كانت غزوة بدر في رمضان في السنة الثانية للهجرة، وكذلك فتح مكة كان في رمضان في السنة الثامنة للهجرة.

ومنها: الاعتکاف، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان»(17).

وتأمل هذا وقارنه بما يفعله كثير من الناس بالانشغال بالأفلام والمسلسلات ونحوها مما صنعه الفسقة والفجرة خصيصا لليالي رمضان ليستبدل الناس القيام والتراويح ومدارسة القرآن بذلك اللهو المحرم .

وفقنا الله وعموم المسلمين للصيام والعبادة كما يحب ربنا ويرضى..

الهوامش

(1) [متفق عليه].

(2) [ متفق عليه].

(3) (شرح النووي على مسلم (6/39)).

(4) [فتح الباري (4 /115)].

(5) [جامع البیان (13/216)].

(6) [أخرجه أحمد (1/356) وأبو داود (2/505) وإسناده صحيح] .

(7) [رواه البخاري (50) ومسلم (9)].

(8) [رواه مسلم (654)].

(9) [رواه الترمذي (2305) حسنه الألباني].

(10) [رواه مسلم (2581)].

(11) [شرح مسلم (16/135-136)] .

(12)  [رواه مسلم (2578)].

(13) [رواه مسلم (2582)].

(14) [ متفق عليه].

(15) [متفق عليه].

(16) [متفق عليه].

(17) [رواه البخاري (2025) ومسلم (1171)].

اقرأ أيضا

التعليقات غير متاحة