شرف العلم يتبع شرف المعلوم. فالعلم بالله أشرف العلوم، ويتحدد عليه أشرف العمل من تجريد التوحيد وحسن الظن بالله ودعائه والتوكل عليه.

مقدمة

إن أجلّ المقاصد وأنفع العلوم العلم بمعاني أسماء الله عز وجلّ الحسنى وصفاته العلا. فإن التعرّف على الله تعالى من خلال أسمائه وصفاته يحقق العلم الصحيح بفاطر الأرض والسماوات، والعلم بأسماء الله وصفاته يستلزم عبادة الله تعالى ومحبته وخشيته، ويوجب تعظيمه وإجلاله.

ومع أهمية هذا الجانب وجلالة قدره، إلا أن ثمة غفلة عنه، فنلحظر التقصير في فقه أسماء الله وصفاته، وإهمال التعبّد والدعاء بها، وضعف الالتفات إلى ما تقتضيه هذه الأسماء الحسنى من الآثار والثمرات.

وسأتحدث ـ مستعيناً بالله تعالى ـ عن هذا الموضوع من خلال ما يلي:

أهمية الموضوع

تظهر أهمية هذا الموضوع عبر الآيات القرآنية المتعددة التي تحض على تدبر القرآن الكريم؛ كما قال سبحانه: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، وذمّ القرآن من لا يفهمه، فقال تعالى: ﴿فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ [النساء: 78]، ولا شك أن فقه أسماء الله تعالى وصفاته يدخل في ذلك دخولاً أوليّاً.

كما أن عبادة الله تعالى ومعرفته آكد الفرائض، ولا يتحقق هذا إلا بمعرفة أسماء الله وصفاته.

يقول قوام السنة الأصفهاني (ت 535 هـ):

“قال بعض العلماء: أول فرض فرضه الله على خلقه معرفته. فإذا عرفه الناس عبدوه، قال الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ﴾ [محمد: 19]، فينبغي للمسلمين أن يعرفوا أسماء الله وتفسيرها؛ فيعظموا الله حق عظمته، ولو أراد رجل أن يعامل رجلاً طلب أن يعرف اسمه وكنيته، واسم أبيه وجده، وسأل عن صغير أمره وكبيره، فالله الذي خلقنا ورزقنا، ونحن نرجو رحمته ونخاف من سخطه أولى أن نعرف أسماءه ونعرف تفسيرها”. (1الحجة في بيان المحجة، ج 1، ص 122)

وفقْه أسماء الله تعالى وصفاته يوجب تحقيق الإيمان والعبادة لله وحده، وإفراده سبحانه بالقصد والحبّ والتوكل وسائر العبادات، كما بيّن ذلك أهل العلم.

ولذا يقول العز بن عبد السلام:

“فهْم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من الخوف، والرجاء، والمهابة، والمحبة، والتوكل، وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات”. (2شجرة المعارف والأحوال، ص 1)

ويقول أيضاً:

“ذكرُ الله بأوصاف الجمال موجب للرحمة، وبأوصاف الكمال موجب للمهابة، وبالتوحد بالأفعال موجب للتوكل، وبسعة الرحمة موجب للرجاء، وبشدة النقمة موجب للخوف، وبالتفرّد بالإنعام موجب للشكر، ولذلك قال سبحانه: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾”.

ويقول ابن القيم في هذا الصدد:

“لا يستقر للعبد قدم في المعرفة بل ولا في الإيمان حتى يؤمن بصفات الرّب جلّ جلاله ويعرفها معرفة تخرج عن حدّ الجهل بربه، فالإيمان بالصفات وتعرّفها هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، وثمرة شجرة الإحسان، فضلاً عن أن يكون من أهل العرفان..”. (3مدارج السالكين، ج 3، ص 347)

ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:

“إن معرفة الله تعالى تدعو إلى محبته وخشيته ورجائه وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته، والتفقه في فهم معانيها..

بل حقيقة الإيمان أن يعرف الربّ الذي يؤمن به، ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته، حتى يبلغ درجة اليقين.

وبحسب معرفته بربه، يكون إيمانه؛ فكلما ازداد معرفة بربه، ازداد إيمانه. وكلما نقص نقص. وأقرب طريق يوصله إلى ذلك: تدبر صفاته وأسمائه من القرآن..”. (4تفسير السعدي، ج 1، ص 24)

المقصود بالتعبد بأسماء الله تعالى وصفاته

المقصود بذلك هو:

“تحقيق العلم بها ابتداءً، وفقه معاني أسمائه وصفاته، وأن يعمل بها، فيتصف بالصفات التي يحبها الله تعالى: كالعلم، والعدل، والصبر، والرحمة.. ونحو ذلك، وينتهي عن الصفات التي يكرهها له تعالى من عبيده مما ينافي عبوديتهم لله تعالى، كالصفات التي لا يصح للمخلوق أن يتصف بها كالكبر والعظمة والجبروت.. فيجب على العبد إزاءها الإقرار بها والخضوع لها”.

ومن العمل بها أن يدعو الله تعالى بها؛ كما قال سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180]، كما أن من العمل بها تعظيمها وإجلالها، وتحقيق ما تقتضيه من فِعْل المأمورات وترك المحظورات.

يقول ابن تيمية:

“إن من أسماء الله تعالى وصفاته ما يُحمد العبد على الاتصاف به كالعلم والرحمة والحكمة وغير ذلك. ومنها ما يُذم العبد على الاتصاف به كالإلهية والتجبر والتكبر. وللعبد من الصفات التي يُحمد عليها ويؤمر بها ما يمنع اتصاف الربّ به كالعبودية والافتقار والحاجة والذل والسؤال ونحو ذلك..”. (5الصفدية، ج 2، ص 338)

وقال ابن القيم:

“لما كان سبحانه يحبّ أسماءه وصفاته كان أحبّ الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبها، وأبغضهم إليه من اتصف بالصفات التي يكرهها.

فإنما أبغض من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت؛ لأن اتصافه بها ظلم، إذ لا تليق به هذه الصفات ولا تحسن منه؛ لمنافاتها لصفات العبيد، وخروج من اتصف بها من ربقة العبودية، ومفارقته لمنصبه ومرتبته، وتعديه طوره وحدّه. وهذا خلاف ما تقدم من الصفات كالعلم والعدل والرحمة والإحسان والصبر والشكر، فإنها لا تنافي العبودية، بل اتصاف العبد بها من كمال عبوديته، إذ المتصف بها من العبيد لم يتَعدَّ طوره، ولم يخرج بها من دائرة العبودية”. (6طريق الهجرتين، ص 129)

وقال الحافظ ابن حجر أثناء شرحه لحديث:

«إن لله تسعة وتسعون اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة». (7أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب 12، وكتاب الشروط، باب 18، وكتاب الدعوات، باب 68) وقد جاء في تفسيره:

“وقيل: معنى أحصاها: عمل بها، فإذا قال: (الحكيم)، مثلاً، سلّم جميع أوامره، لأن جميعها على مقتضى الحكمة، وإذا قال: (القدوس)، استحضر كونه منزهاً عن جميع النقائص”. (8فتح الباري، ج 11، ص 229)

التلازم بين إثبات أسماء الله وصفاته وتوجه العباد اليه

ومما يستحق تقريره ها هنا أن تلازماً وثيقاً بين إثبات الأسماء والصفات لله تعالى وتوحيد الله تعالى بأفعال العباد، فكلما حقّقَ العبد أسماء الله وصفاته علماً وعملاً، كلما كان أعظم وأكمل توحيداً، وفي المقابل: فإن هناك تلازماً وطيداً بين إنكار الأسماء أو الصفات وبين الشرك.

يقول ابن القيم في تقرير هذا التلازم:

“كل شِرك في العالم فأصله التعطيل. فإنه لولا تعطيل كماله أو بعضه وظن السوء به، لما أشرك به، كما قال إمام الحنفاء وأهل التوحيد لقومه: ﴿أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ﴾ [الصافات: 86-87] أي: فما ظنكم به أن يجازيكم وقد عبدتم معه غيره..؟ وما الذي ظننتم به حتى جعلتم معه شركاء..؟ أظننتم أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان..؟ أم ظننتم أنه يخفى عليه شيء من أحوال عباده حتى يحتاج إلى شركاء تعرفه بها كالملوك..؟ أم ظننتم أنه لا يقدر وحده على استقلاله بتدبيرهم وقضاء حوائجهم..؟ أم هو قاسٍ فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده..؟

والمقصود: أن التعطيل مبدأ الشرك وأساسه، فلا تجد معطِلاً إلا وشِرْكه على حسب تعطيله، فمستقلٌّ ومستكثرٌ”. (9مدارج السالكين، ج 3، ص 347، باختصار)

أمثلة من العبادات توضح العلم بالأسماء والصفات

ونورد أمثلة في توضيح هذا التلازم والصلة بين توحيد العبادة وتوحيد الأسماء والصفات.

مثال الدعاء

فالدعاء مثلاً هو آكد العبادات وأعظمها؛ فالدعاء هو العبادة كما أخبر المصطفى، وهو لا ينفكّ عن إثبات وفقه أسماء الله تعالى وصفاته.

ويشير ابن عقيل إلى هذه الصلة بقوله:

“قد ندب الله تعالى إلى الدعاء، وفي ذلك معانٍ:

أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يُدعى.

الثاني: الغِنى، فإن الفقير لا يُدعى.

الثالث: السمع، فإن الأصم لا يُدعى.

الرابع: الكرَم، فإن البخيل لا يُدعى.

الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يُدعى.

السادس: القدرة، فإن العاجز لا يُدعى”. (10شرح الطحاوية، ج 2، ص 678)

مثال التوكل

والتوكل على الله تعالى وحده شرط في الإيمان، وأجلّ العبادات القلبية، ولا يتحقق التوكل إلا بمعرفة أسماء الله تعالى وصفاته. وقد وضح ذلك ابن القيم بقوله:

“ولا يتم التوكل إلا بمعرفة الربّ وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته، قال شيخنا ابن تيمية رحمه الله: ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف، ولا من القدرية النفاة القائلين بأن يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يستقيم أيضاً من الجهمية النفاة لصفات الربّ جلّ جلاله، ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات.

فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم سفليه وعلويه، ولا هو فاعل باختياره، ولا له إرادة ومشيئة، ولا يقوم به صفة..؟

فكل مَن كان بالله وصفاته أعلم وأعرف، كان توكله أصح وأقوى، والله سبحانه وتعالى أعلم”. (11مدارج السالكين، ج 2، ص 117)

حسن الظن بالله

وحسن الظن بالله والثقة به تعالى عبادة جليلة تقوم على فقه أسماء الله وصفاته، كالحكمة والقدرة..، كما أن سوء الظن بالله من آثار إنكار أسماء الله تعالى وصفاته.

يقول ابن القيم:

“وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله، وأسماءه وصفاته، وعرف موجب حكمته وحمْده. ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تَعَتّباً على القدَر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقلٌّ ومستكثر، وفتِش نفسك هل أنت سالم من ذلك؟”. (12زاد المعاد، ج 3، ص229-235، بتصرف، وانظر: كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، باب قوله تعالى : [يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ])

خاتمة

وهكذا تجد الأمر جاريا؛ فإرادات القلوب تابعة لمعارفه. ولهذا من يتوجه الى ربه تعالى كان محتاجا أن يعرفه. والمعرفة طريقُها ما رُكز في الفطرة وما جاء به الوحي (نور على نور﴾، والله تعالى ينوّر قلب من شاء من عباده كما ينوّر له دربه وطريقه اليه. ولا فلاح إلا بهما، والله الموفق.

……………………………

الهوامش:

  1. الحجة في بيان المحجة، ج 1، ص 122.
  2. شجرة المعارف والأحوال، ص 1.
  3. مدارج السالكين، ج 3، ص 347.
  4. تفسير السعدي، ج 1، ص 24.
  5. الصفدية، ج 2، ص 338.
  6. طريق الهجرتين، ص 129.
  7. أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب 12، وكتاب الشروط، باب 18، وكتاب الدعوات، باب 68.
  8. فتح الباري، ج 11، ص 229.
  9. مدارج السالكين، ج 3، ص 347، باختصار.
  10. شرح الطحاوية، ج 2، ص 678.
  11. مدارج السالكين، ج 2، ص 117.
  12. زاد المعاد، ج 3، ص229-235، بتصرف، وانظر: كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، باب قوله تعالى: [يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ].

المصدر:

  • د. عبد العزيز آل عبد اللطيف، مجلة البيان، العدد 99.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة