في الجزء الأول تم إيضاح سبب الاهتمام بتفصيل ودقائق سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياته الكريمة، وذكرنا ثلاث طبقات من رواة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهنا توضيح كيفية الإفادة من منج أهل الحديث والجمع بينه وبين رواة السيرة..

الإفادة من منهج أهل الحديث

في توثيق كتب السيرة

لا يمكن إنكار الجهود الكبيرة التي بذلها علماء السيرة لتدوينها وإخراجها للناس متسلسلة الأحداث منظمة الأبواب، فأصبحت سهلة الحفظ والتلقين للتلاميذ المبتدئين ولعامة المسلمين الذين لا يهمهم الإسناد.

وحتى العلماء فإنهم اشتغلوا بها تهذيبا وشرحا واختصارا ونظما.

لكن أخبار السيرة منها ما وصلنا في هذا السياق موصولا، ومنها المنقطع والمعضل، ومنها ما جاء بدون إسناد لا يعرف ما صحته.

كما عاب النُقّاد على بعض كتاب السيرة منهجهم في دمج الروايات وجمع الأسانيد وسياقها مساقا واحدا دون أن يميزوا ألفاظ الرواة كما هو الشأن عند علماء الحديث.

ولأجل ذلك لقيت السيرة في كتب الحديث العناية الكثيرة من النقد والتحقيق، لأنها نقلت بالأسانيد وخضعت لموازين الجرح والتعديل وعرّفت بأحوال الرجال الذين رووها. ففي مصنفات الصحاح والسنن والمسانيد كتبا وأبوابا مستقلة للمغازي والسير والشمائل ودلائل النبوة شملت كافة جوانب حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.

إمكان الإفادة من كتب الحديث لدراسة السيرة

ويمكن للعلماء والباحثين الإفادة بصورة واسعة من كتب الحديث في دراسة عصر السيرة النبوية؛ لأن كتب الحديث خدمت أكثر من كتب السيرة من قِبل النقاد.

فكبار العلماء أمثال ابن سيد الناس في كتابه “عيون الأثر في المغازي والشمائل والسير”، والذهبي في كتابه “تاريخ الإسلام” عندما كتبا السيرة النبوية اعتمدا على الكتب الستة (البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة).

لكنهما لم يتمكنا من الاستغناء عن كتب السيرة المختصة، لأن كتب الحديث تحوي قدرا من أخبار السيرة ولا تغطي كل أحداثها(1).

فهي بحكم عدم تخصصها لا تورد تفاصيل المغازي وأحداث السيرة كاملة، بل تقتصر على بعض ذلك، مما ينضوي تحت شرط المؤلف أو وقعت له روايته. ومن ثم فإنها لا تعطي صورة كاملة لما حدث.

ولذلك ينبغي إكمال الصورة من كتب السيرة المختصة، وإلا فقد يؤدي ذلك إلى لبس وفراغ كبير في أحداث السيرة.

ولكن هذا لا يعني أن كل ما أوردته كتب السيرة له نفس القيمة من حيث الصحة، بل فيها الصحيح والضعيف. وينبغي عند دراسة السيرة من خلال هذه الكتب الاعتماد على الصحيح أولا بالرجوع إلى كتب الحديث، ثم استكمال الصورة بما هو حسن أو مقارب للحسن بدارسة الأسانيد والمتون وفق ضوابط الرواية وقواعدها المعتبرة عند العلماء.

ولا يُلجأ إلى الضعيف فيما له أثر في العقائد أو التشريع. ولا بأس من الأخذ به فيما سوى ذلك من أخبار تتعلق بالحث على مكارم الأخلاق أو وصف العمران والحرف والزروع أو ما شابه ذلك.

ولابد هاهنا من إيضاح حقيقة هامة، وهي أن كتب الحديث تدعم ما أوردته كتب السيرة في معظم الجوانب المتعلقة بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة سيرتي محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة.

الفرق بين كتب الحديث وكتب السيرة

على أن الفرق بين كتب الحديث وكتب السيرة يتمثل في كون كتب السيرة تسوق كثيرا من الروايات بأسانيد مرسلة ومنقطعة، وتوجد هذه الروايات في كتب الحديث متصلة مسندة، مما يوثق معلومات كتب السيرة ولله المنة(2).

كما أننا حين نجمع بين كتب السيرة والحديث أثناء دراسة السيرة، نستفيد من التفصيلات التي تقدمها كتب السيرة في المغازي خاصة، ونستفيد من الإضافات التي تقدمها كتب الحديث في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والإدارية، فنحصل بذلك على معلومات صحيحة تكمل جوانب حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الشاملة لأمور الدين والدنيا.

وهكذا، فإن الدراسة المقارنة بين كتب السيرة وكتب الحديث تكشف عن التطابق في كثير من الأسس والتفاصيل معا. وهذا من حفظ الله تعالى لسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم لتبقى منارا يُقتدى به في كل عصر ومصر.

شروط الرواية المقبولة

من العسير تطبيق منهج النقد عند المحدّثين بكل خطواته على جميع أخبار السيرة، وإن اشترط العلماء في راوي السيرة أو المؤرخ ما اشترطوه في راوي الحديث من أربعة أمور: العقل والضبط والإسلام والعدالة(3).

لأن بعض أخبار السيرة لا تصل في ثبوتها وعدالة رواتها واتصال أسانيدها إلى درجة الأحاديث النبوية إلا فيما يتعلق بالمورويات التي تأكدت صحتها عن طريق مصنفات السنة.

ولهذا فرق العلماء بين ما يُتشدد فيه من الأخبار وبين ما يُتساهل فيه تبعا لطبيعة ما يُروى، على أن تطبيق قواعد نقد الحديث في السيرة أمر تحدده طبيعة الروايات.

فإذا كان الأمر يتعلق بقضية في العقيدة أو موضوع شرعي كتحليل وتحريم، فإنه لا بد من التثبت من حال رواته ومعرفة نقلته، ولا يؤخذ في هذا الباب إلا من الثقات الضابطين.

أما إذا كان الخبر المروي لا يتعلق بشيء من الأحكام الشرعية ـ وإن كان الواجب التثبت في الكل ـ فإنه يُتساهل فيه قياسا على ما اصطلح عليه علماء الحديث في “باب التشدد في أحاديث الأحكام والتساهل في فضائل الأعمال”.

وفي هذا السياق، روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: “إذا روينا عن رسول الله صلى لله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشدّدنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى لله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكما أو يرفعه تساهلنا في الأسانيد”(4).

معنى التساهل الذي قصده الأئمة

ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا التساهل لا يعني الرواية عن المعروفين بالكذب وساقطي العدالة، لأن ساقط العدالة لا يحمل عنه أصلا، وإنما قصد العلماء بالتساهل إمرار أو قبول رواية من ضعف ضبطه بسبب الغفلة أو كثرة الغلط أو التغير والاختلاط ونحو ذلك، أو عدم اتصال السند كالرواية المرسلة أو المنقطعة.

ووفق هذه القاعدة جوّز بعض الفقهاء العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال والترغيب والترهيب.

يقول الكافيجي في هذا الصدد: “يجوز للمؤرخ أن يروي في تاريخه قولا ضعيفا في باب الترغيب والترهيب والاعتبار مع التنبيه على ضعفه، ولكن لا يجوز له ذلك في ذات البارئ عز وجل وفي صفاته ولا في الأحكام، وهكذا جواز رواية الحديث الضعيف على ما ذكر من التفصيل المذكور”(5).

فيقبل في هذا الباب من الروايات الضعيفة ما يستشهد بها؛ لأنها قد تشترك مع الرواية الصحيحة في أصل الحادثة، وربما يستدل بها على بعض التفصيلات ويحاول الجمع بينها وبين الروايات الأخرى التي هي أوثق سندا.

وهذا التفريق بين ما يتشدد فيه من الأخبار ويتساهل فيه نلحظه بوضوح في تصرف الحافظ ابن حجر العسقلاني في جمعه بين روايات السيرة في كتابه: “الفتح”.

ففي الوقت الذي يقرر فيه رفض رواية محمد بن إسحاق إذا عنعن ولم يصرح بالتحديث، ورفض رواية الواقدي، لأنه متروك عند علماء الجرح والتعديل فضلا عن غيرهما من الإخباريين الذين ليس لهم رواية في كتب السنة من أمثال عوانة والمدائني، فإنه يستشهد برواياتهم ويستدل بها على بعض التفصيلات، ويحاول الجمع بينها وبين الروايات الأخرى التي هي أوثق إسنادا.

وهذا يدل على قبوله لأخبارهم فيما تخصصوا فيه من العناية بالسير والأخبار.

وهو منهج معتبر عند العلماء المحققين وإن لم يقبلوا رواياتهم في الأحكام الشرعية. فنجد ابن حجر يقول في محمد بن إسحاق: “إمام في المغازي صدوق يدلّس”(6) ويقول في الواقدي: “متروك مع سعة عمله”(7). ويقول في سيف بن عمر ضعيف في الحديث عمدة في التاريخ”(8).

نماذج من اعتبار ابن حجر لروايات الإخباريين

وفيما يلي بعض النماذج من تصرف ابن حجر واعتباره لروايات الإخباريين:

1- في (كتاب المغازي، باب غزوة العشيرة)

ذكر عدد غزوات الرسول صلى لله عليه وسلم وعدد بعوثه وسراياه، وعدد الغزوات التي وقع فيها القتال، فاستشهد بأقوال أهل السير مثل ابن إسحاق والواقدي وابن سعد وذكر خلافهم، وجمع بين أقوالهم وأقوال من هم أوثق منهم من رواة الصحيح.(9)

2- في (كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل)

جعل رواية ابن إسحاق جامعة بين الروايات رغم مخالفتها لما في الصحيح، وذلك في قصة مقتل أبي جهل يوم بدر في قوله: “فهذا الذي رواه ابن إسحاق يجمع بين الأحاديث، لكنه يخالف ما في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف رض الله عنه أنه رأى معاذا ومعوذا، رضي الله عنهما، شدّا عليه جميعا حتى طرحاه ـ يعني أبا جهل”(10).

3- في (كتاب المغازي، باب حديث بني النضير)

في قصة بني النضير ومتى كان حصارهم، ذكر ابن إسحاق أنها كانت بعد أحُد، وبعد استشهاد القرّاء في بئر معونة. والذي في البخاري عن عروة أنها كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، أي قبل أحد.

وقد مال ابن حجر إلى ترجيح رواية ابن إسحاق رغم إيراده سببا للغزوة غير الذي ذكره ابن إسحاق وصححه، بقوله: “فهذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق من أن سبب غزوة بني النضير طلبه صلى لله عليه وسلم أن يعينوه في دية الرجلين، لكن وافق ابن إسحاق جل أهل المغازي”(11).

خلاصات خاتمة

جمع المعارف في صدر الاسلام

لقد كان النزوع إلى جمع المعارف وتدوينها وحفظها من الضياع متعدد الجوانب في صدر الإسلام، وبدأ في فترة كان فيها عدد كثير من الصحابة وكبار التابعين على قيد الحياة.

الحس التاريخي للأجيال المتقدمة

يتضح من التدوين أن جيل التابعين وتابعي التابعين كان لديهم حسّ تاريخي؛ فكانت معارف عصر النبوة تدون من الذاكرة على الورق حتى تبقى بعد وفاة مدونيها، وهذه ميزة للمسلمين لم تكن معروفة عند غيرهم من الأمم.

بداية التأليف في السيرة المختصة

بدأ تأليف كتب السيرة المختصة على وجه التحديد في جيل التابعين، حيث كان عدد من الصحابة موجودين، فلم ينكروا على كُتاب السيرة، مما يدل على إقرارهم لِما دونوه. وكانت محبة المسلمين للرسول صلى لله عليه وسلم وتعلقهم به ورغبتهم في اتباعه وأخذهم بسنته سببا في ذيوع أخبار السيرة ومذاكرتهم فيها وحفظهم لها؛ فهي التطبيق العملي لتعاليم الإسلام.

التأثر برأي أهل المدينة

تأثر كتاب السيرة برأي أهل المدينة الذي يغلب عليه طابع الحديث.

فمن الأمور الطبيعية نشأة علم السيرة في المدينة؛ إذ كان المكان الذي نصر الإسلام وحاطه، فاكتسبت السيرة بذلك ثوبا مدنيا، وطبعت بالطابع الذي تميز به أهل الحجاز، وهو ميلهم إلى الحديث والرواية والتوثيق والتدقيق وبعدهم عن المبالغة والحشو والخيال.

وهذا أعطى كتاباتهم في السيرة قيمة علمية كبيرة.

تواطؤ المعلومات واليقين بصحة السيرة

عند القيام بدراسة مقارنة لما ورد في كتب السيرة والحديث، سنزداد يقينا بصحة معلوماتنا عن سيرة النبي صلى لله عليه وسلم..

فكتب السيرة أفاضت في الحديث عن المغازي النبوية.

وكتب الحديث بينت النواحي العبادية والتشريعية من صوم وصلاة وحج وزكاة ونظم سياسية ومالية وإدارية، ولكل الجوانب التي تناولتها الأحاديث صلة بالحياة الإدارية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في عصر النبي صلى لله عليه وسلم، فتكتمل بهذا جوانب حياة الرسول صلى لله عليه وسلم الشاملة لأمور الدين والدنيا.

اكتمال الصورة بكتب التاريخ المختصة

كتب الحديث لم تورد تفاصيل المغازي وأحداث السيرة، بل اقتصرت على بعض ذلك. ومن ثم فإنها لا تعطي صورة كاملة لما حدث، والتي ينبغي إكمالها من كتب السيرة المختصة.

درجة دقة كتب السيرة المختصة

كتب السيرة المختصة تلي من حيث الدقة القرآن الكريم والحديث الشريف. ولكن هذا لا يعني أن كل ما أوردته له نفس القيمة من حيث الصحة، ففيها الصحيح والحسن والضعيف. ولأجل ذلك ينبغي عند دراسة السيرة النبوية الاعتماد على الصحيح أولا، ويستخرج من كتب الحديث، ثم استكمال الصورة من كتب السيرة بما هو صحيح وحسن أو مقارب للحسن (الحسن لغيره)، بدراسة الأسانيد والمتون وفق مقاييس الرواية وضوابطها التي وضعها علماء الجرح والتعديل.

الموقف من ضعيف أخبار السيرة

أما الضعيف في أخبار السيرة، فلا يلجأ إليه في العقائد والأحكام. ولابأس به في الروايات المتعلقة بالعمران، كالخطط، ووصف الصناعات والحرف وما شاكل ذلك، أو المتعلقة بتعيين الولاة وعمال الصدقات، أو المتعلقة بوصف ميادين القتال والطرق المسلوكة في الغزوات والرايات ونحو ذلك.

وهذا المنهج اتبعه علماء الحديث، حيث روي عن الإمام أحمد قوله، “إذا روينا عن رسول الله صلى لله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى لله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكما أو يرفعه تساهلنا في الأحاديث”.

………………………………………

هوامش:

  1. المجتمع المدني في عهد النبوة لأكرم ضياء العمري، ص 26.
  2. المرجع السابق، ص 27.
  3. الكافيجي، المختصر في علم التاريخ، ص 336.
  4. – الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية، ص 212.
  5. الكافيجي، المختصر في علم التاريخ، ص 326.
  6. ابن حجر: طبقات المدلسين، ص 51.
  7. – ابن حجر: التقريب، ج2، ص 194.
  8. – المصدر نفسه، ج1، ص 344.
  9. – ابن حجر، فتح الباري، شرح صحيح البخاري، ج 7، ص 279-280.
  10. – المصدر السابق نفسه، ج 7، ص 292.
  11. المصدر نفسه، ج 7، ص 329-332.

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

اقرأ أيضا:

  1. الجزء الأول من المقال
  2. الإرث التاريخي وأثره في تشويه العلاقة بين آل البيت والأصحاب (1-2) مصطلح الشيعة، والرافضة
  3. الإرث التاريخي وأثره في تشويه العلاقة بين آل البيت والأصحاب (2-2) سبل المعالجة وقواعد حاكمة

التعليقات غير متاحة