القلب ملك الأعضاء، ومنه تسري أعمال الجوارح، والمواقف، والأقوال. وهو محل نظر الرب، وأول الواجبات بالتعاهد والرعاية؛ وإلا سرى خلله الى باقي الجسد بل والحياة..!

مقدمة

يقصد بالمخالفة في أعمال القلوب الإخلال بالواجبات القلبية، أو الوقوع في المحرمات القلبية. والوقوع في المخالفات القلبية يعد أشد أنواع المخالفات، وذلك لخفائها عن الناس، وغفلة صاحبها عنها؛ ولأنها كذلك تعد أصل المخالفات الظاهرة؛ حيث إن القلب سيد الأعضاء؛ فبصلاحه أو فساده تصلح أو تفسد بقية الأعضاء؛ لذا وجب على العبد الاعتناء بقلبه، وما عليه من الواجبات فيؤديها، وما عليه من المحرمات فيجتنبها.

أهم المخالفات القلبية الشائعة

ومن أهم المخالفات القلبية الشائعة ما يلي:

ضعف التوكل على الله عز وجل

التوكل على الله عز وجل من أعظم أعمال القلوب وعبودياتها، وحقيقته:

“كمال الاعتماد على الله عز وجل ، مع كمال الثقة به”

ويتفرع عن التوكل عبوديات كثيرة منها الخوف والرجاء والرغبة والرهبة وغيرها. ولا يعني التوكل ترك الأسباب والركون إلى العجز والتواكل؛ وإنما حقيقته مباشرة الأسباب التي أمر الله عز وجل بالأخذ بها، دون الاعتماد عليها أو الثقة بها وإنما الاعتماد والثقة على الله وبالله عز وجل الذي هو خالق الأسباب ومسبباتها، وهو الذي وضع في الأسباب آثارها ولو شاء لنزعها منها فلم تؤد أثرها.

ولـذلك؛ فـإن من مظاهر ضعف التوكل على الله عز وجل الاعتماد على ما خلقه الله سبحانه من الأسباب، والركون إليها، والهلع والخوف من فواتها، وكأن السبب ينفع أو يضر استقلالًا، ولأجل ذلك قد يقع الراكن إلى الأسباب في محرمات أو ترْك واجبات، وقد يصرف خوفه ورجاءه  ـ اللذَيْن لا يجوز صرفهما إلا لله عز وجل ـ لمخلوق ضعيف لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا فضلًا عن أن يملكهما لغيره.

والتوكل لا يتحقق في القلب بمجرد العلم به وبحقيقته، فهذا لون والتعبد لله عز وجل به لون آخر.

إرادة الدنيا بعمل الآخرة

وهذا عمل قلبي لا يعلمه إلا الله عز وجل ، وصاحب العمل، وقد يكون من الخفاء والدقة بحيث قد يخفى حتى على الإنسان نفسه؛ ولذا وجب الحذر واليقظة ومحاسبة النفس على ما أرادتْ بهذا القول أو هذا العمل، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم الشرك الحفي وذلك في قوله: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «الشرك الخفي؟ يقوم الرجل فيصلي فيزين من صلاته لما يرى من نظر رجل». (1رواه الإمام أحمد وغيره، وحسنه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» (27) (ص89))

وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بشِّرْ هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض؛ فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب». (2«صحيح الترغيب والترهيب» (21) (ص87، 88))

ينبغي أن يستعرض الواحد منا أعماله الأخروية، وينظر إلى مقصده، ودافعه في أدائه لأعمال البر من إمامة وأذان، وحج ودعوة، وطلب علم، وجهاد… إلخ، فهؤلاء هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؛ قال الله عز وجل فيهم يوم أحد: ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران: 152]؛ فكيف بمن بعدهم؟

الحسد وكراهية الخير للناس

وهذا الداء من أكثر الأدواء انتشارًا في قلوب العباد، ولا يَسلَم منه إلا من رحم الله تعالى.

والحسد داء عضال إن لم يتداركه صاحبه بالمجاهدة والمحاسبة؛ فإنه يُهلك القلب بما يحمله من غش للمسلمين وحقد وبغضاء.

والحسد يُعرّف بـ:

“تمني زوال النعمة عن الغير سواء وصلت الى الحاسد أم لم تصل”.

ومما يلحق بذلك الفرح بوصول الضرر والشر للمسلمين والغم والحزن بوصول الخير لهم نعوذ بالله من الخذلان.

والناس يتفاوتون في شدة الحسد وتمكُّنه من القلوب؛ فبعضهم يضمر الشر لأخيه المسلم، ويسعى بجهده لإيصاله إليه، أو قطْع الخير عنه، وبعضهم لا يسعى بعمله في ذلك، ولكن يَهَشّ ويُسَرُّ بوقوع الضرر بالمحسود كما يسعد بزوال النعمة والخير عنه. وكلا الفريقين من الحاسدين، وإن كان الأول أشد وأخبث.

وبعضهم يكون عنده هذا الشعور لكنه يكره ذلك من قلبه، ويسعى لإبطاله بإيصال الخير لأخيه المسلم، وقطع الضرر عنه؛ أي: يسعى في مضادة ما يشعر به في قلبه من الحسد، وهذا على خير في مجاهدة نفسه للتخلص من هذا المرض.

وبعضهم وهم الكُمَّل من الناس أصحاب القلوب السليمة، الذين لا يُضمرون شرًّا لأحد من المسلمين، ويفرحون بالخير لكل مسلم، ويسوؤهم الشر الذي يحل بالمسلمين، وما أقل هؤلاء في الناس.

والحاصل أن الحسد داء خطير يجب على المسلم أن يتفقد قلبه، ويجاهد نفسه في إزالته والتخلص منه.

الكِبْر والتعالي على الناس والعجب بالنفس

عرف الرسول صلى الله عليه وسلم الكِبْر بقوله:

“«الكبر بطر الحق وغمص الناس». (3رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب: تحرم الكبر وبيانه (91))

وهو داء خبيث، وعاقبته وخيمة، ويكفي في سوء عاقبته قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر». (4رواه مسلم (7031))

ولما كان “الكِبْر” هو رد الحق وعدم قبوله، أو غمط الناس حقوقهم والتعالي عليهم ـ لما كان كذلك ـ وجب الحذر منه، والخوف من أن يكون القلب متلبسًا به، وصاحبه قد يشعر به وقد لا يشعر، وقد يُظهر المتكبر كِبره هذا في قالب علوّ الهمة، وعزة النفس وصيانتها ومهابتها.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

“والفرق بين “المهابة” و”الكِبْر” أن «المهابة» أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الله ومحبته وإجلاله له؛ فإذا امتلأ القلب بذلك حل فيه النور ونزلت عليه السكينة وأُلبس رداء الهيبة، فاكتسى وجهه الحلاوة والمهابة، فأخذ بمجامع القلوب محبةً ومهابةً، وحنَّت إليه الأفئدة وقرَّت به العيون.

وأما «الكِبْر»: فأثر من آثار العُجب والبغي من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم، وترحّلت منه العبودية ونزل عليه المقت؛ فنظره إلى الناس شزرٌ، ومشيه بينهم تبختُر، ومعاملته لهم معاملة الاستئثار، لا الإيثار ولا الإنصاف، ذاهب بنفسه تيهًا، لا يبدأ من لقيه بالسلام وإن رد عليه رأى أنه قد بالغ في الإنعام، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعُهم خُلقه، ولا يرى لأحد عليه حقًّا، ويرى حقوقه على الناس، ولا يرى فضلهم عليه، ويرى فضله عليهم، ولا يزداد من الله إلا بعدًا، ومن الناس إلا صغارًا أو بغضًا». (5«الروح» (ص499، 500) (باختصار))

حب الدنيا وركون القلب إليها

قال صلى الله عليه وسلم: «والله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم». (6البخاري (3158) في كتاب الجزية، باب: الجزية والموادعة، ومسلم (3274))

هكذا حذَّرَنا الله عز وجل ورسولُه صلى الله عليه وسلم من الدنيا وزخرفها المتمثل في الأموال والأولاد والمناصب والجاه.

وعلامة ذلك أنه لو وازَن أحدنا بين هَمّ الدنيا والحيز الذي تشغله من قلبه وتفكيره، وبين هَمّ الآخرة وهَمّ هذا الدين لوجد أن البون شاسع والفرق كبير، ولَوَجَد أن الدعوة وأمر هذا الدين ظهر على اللسان والأعمال الظاهرة. أما القلوب؛ فلم يشغل منها إلا القليل، وأما الهم الأكبر فهو لهذه الدنيا ومتاعها الزائل؛ كلٌ حسب اهتمامه وواديه الذي ذهب فيه من وديانها وشعابها التي ذكر الله عز وجل.

أما أن يُسهم في دفع الغالي والنفيس في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل ومرضاته، والجهاد في سبيله، فأحسب أن هذا الصنف من الدعاة قليل في هذا العصر، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة». (7البخاري في الرقائق (6498)، ومسلم في فضائل الصحابة (2547))

قسوة القلب وعدم رقته وخشوعه

يكاد هذ المرض أن يعم كثيرًا منا في هذه الأزمة المتأخرة، ويندر أن يوجد شخص لا يشكو من هذه الآفة، وأسباب قسوة القلوب معلومة لا تحتاج إلى تفصيل، دائمًا نحن بحاجة إلى العزيمة في ترك هذه الأسباب، ويكفي من هذه الأسباب ما أشرت إليه في الفقرة السابقة من “حب الدنيا وامتلاء القلب بشهواتها”، فكيف يمكن لقلبٍ هذه حاله قد تفرق في شعاب الدنيا وأوديتها أن يخشع أو يرق أو يتدبر، فإذا أضيف إلى ذلك الذنوب والمعاصي استحكم تحجر القلب، ولم يُر إلا خشوعًا ظاهرًا في الجوارح أثناء الصلاة، أو قراءة القرآن، أو في سماع خطبة أوموعظة، وكان بعض السلف يسمون مثل هذا الخشوع خشوع النفاق.

“وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق، قيل له: وما خشوع النفاق: قال: أن يرى الجسد خاشعًا، والقلب غير خاشع”. (8«الروح» لابن القيم (ص493-494))

ضعف محبة الله عز وجل والحب فيه

عن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان». (9أخرجه أبو داود (4681)، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (380))

وما أقل أهل هذه البضاعة اليوم؛ حيث صار حب أكثر الناس وبغضهم قائمًا على الدنيا ومصالحها، وأصبحنا نجد من يحِب لأجلها، ويعادِي لأجلها، ويعطِي ويمنع لأجلها، وهذا خلل عظيم في محبة الله عز وجل التي هي أصل العبادة ولبُّها.

وقد سرى هذا الداء حتى وصل إلى بعض المنتسبين للدعوة والذين جعلوا حبهم وبغضهم طائفيًّا حزبيًّا، بحيث يحبون مَن كان معهم في طائفتهم، وينقص هذا الحب أو ينعدم لمن ليس منهم.

خاتمة

ومما يقدح في صدق محبة الله عز وجل والمحبة فيه ما نراه اليوم من نعرات جاهليه يتعصب أهلها لبني قومهم أو وطنهم أو قبيلتهم على حساب الدين والأخلاق؛ حيث نرى من الناس من يفضّل أبناء وطنه أو قبيلته على غيرهم ولو كان غيرهم أتقى وأعبد لله تعالى من بني جنسه، وهذا قدْح في صدق محبة الله تعالى والحب فيه.

………………………………..

الهوامش:

  1. رواه الإمام أحمد وغيره، وحسنه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» (27) (ص89).
  2. «صحيح الترغيب والترهيب» (21) (ص87، 88).
  3. رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب: تحرم الكبر وبيانه (91).
  4. رواه مسلم (7031).
  5. «الروح» (ص499، 500) (باختصار).
  6. البخاري (3158) في كتاب الجزية، باب: الجزية والموادعة، ومسلم (3274).
  7. البخاري في الرقائق (6498)، ومسلم في فضائل الصحابة (2547).
  8. «الروح» لابن القيم (ص493-494).
  9. أخرجه أبو داود (4681)، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (380).

 اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة