الناظر في الدليل بشهوة أو شبهة افتقد الوصول الى الحق، فقام بإخفائه أو تأويله أو صرف الأدلة عن مرادها؛ فأنتج صرف الناس عن الطريق.

مقدمة

من يقوم بتلبيس الحق بالباطل له طرق ووسائل، تجمعها فتنة الشهوات والزيغ وفتنة الشبهة والنظر المنحرف للأدلة بافتقاد التجرد في النظر في الدليل أو افتقاد الجمع بين الأدلة أو ودخول الجهل. وهم يتراوحون بين كتمان الحق أو تأويله أو تحريف الأدلة عن مواضعها؛ ليتوصلوا الى مرادهم السيئ ونواتجهم المفسدة.

أسباب الانحراف عن الحق

إن الانحراف عن الحق والوقوع في الخطأ لا تعدوا أسبابه الفتن التالية:

  1. فتنة الشبهات.
  2. فتنة الشهوات.
  3. فتنة الجمع بين الشبهة والشهوة.

لبس الحق بالباطل وكل انحراف أو ضلال أو خطأ سواء أكان صغيراً أو كبيراً لا يخرج في دوافعه عن الأسباب الثلاثة السابقة..

فإذا وقع العبد في مخالفة شرعية، فإما أن يكون السبب في هذه المخالفة هو الجهل بها وعدم العلم بحرمتها، أو اشتبه الأمر عليه فحسِبها مكروهة فقط، فهذا الخطأ سبب الشبهة الناتجة من قِلة العلم وضعف البصيرة.

وأما إذا كان لدى من وقع في المخالفة علم وبصيرة في دين الله بأنها محرمة ومخالفة للشرع ومع ذلك وقع فيها عمداً؛ فإن الدافع لهذه المخالفة إنما هو الشهوة، وضعْف النفس، ومِثل هذا يقرّ ويعترف بمخالفته ومجانبته للصواب كما يعترف بذنبه وتقصيره.

أما إذا وقع في المخالفة عن شهوة وضعف ثم لم يعترف بذنبه وتقصيره، وإنما راح يبحث عن شبهة شرعية أو تفسير خاطئ أو تأويل متعسف للأدلة ليبرر بها خطأه ويبرر بها ضعفه وشهوته مع علمه بخطأ تصرفه هذا في قرارة نفسه؛ فهذا هو الهوى وهذه هي المغالطة وهذا هو لبس الحق بالباطل، وهو أشنع أنواع الانحراف لأنه مكر وتحايل على شرع الله وخداع للناس.

إن أشد وأشر هذه الفتن من جمع بين الشبهة والشهوة وتحايل على شرع الله بأن غطى مخالفته وانحرافه بشبهة شرعية، وهو يعلم أنه متحايل ومخادع. ومثل هؤلاء الملبسين عقوبتهم عند الله عز وجل أشد من الذين يقعون في المخالفات الشرعية ولكنهم يعترفون بتقصيرهم وذنوبهم، ولا يكابرون، ولا يبررون؛ ولهذا حذر النبي، صلى الله عليه وسلم، أمته من ارتكاب الحيل فقال: «ولا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل». (1تفسير ابن كثير، طبعة الشعب ج3 ص492)

وهذه هي حقيقة لبس الحق بالباطل وحقيقة المغالطة، إذ أن الدافع الحقيقي للانحراف هو الهوى والشهوة وحب الدنيا، ولكن عوضاً عن أن يعترف بضعفه هذا وشهوته، ويعترف بذنوبه في مخالفته للشريعة فإنه يستدل لشهوته هذه بشبهة شرعية يعلم هو في قرارة نفسه أنها لا تصلح للاستدلال، لكن لا بد من غطاء يغطى به هذا الضعف والهوى.

طرق التلبيس ووسائله

وإذا ذهبنا لنتعرف على وسائل التلبيس والطرق التي ينطلق منها الملبِّس في أغلوطاته نجدها لا تخرج في الغالب عن الأمور التالية:

  1. التأويل الفاسد واتباع المتشابه.
  2. كتمان الحق وإخفاؤه.
  3. تحريف الأدلة عن مواضعها، وعدم إنزالها في مناطاتها.

وتفصيل ذلك فيما يلي:

التأويل واتباع المتشابه

التأويل الفاسد الذي لم يدل عليه دليل يصرفه عن المعنى الظاهر الذي هو أشبه بتحريف الكلِم، والغالب أن الذي يدفع إليه هو الجهل والهوى. وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:

“فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو التأويل الذي لم يُرِدْه الله ورسوله بكلامه، ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائها إلا بالتأويل، وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل..؟ فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل؟ (2إعلام الموقعين 4/ 353)

وعند قول الله عز وجل في اليهود: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [ال عمران: 78] يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذه الآية:

“وآفة رجال الدين حين يَفسَدون أن يصبحوا أداة طيّعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين. وهذه الحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب نعرفها نحن جيداً في زماننا هذا فهم كانوا يؤوّلون نصوص كتابهم، ويلوونها ليّاً، ليصلوا منها إلى مقرَرات معينة، يزعمون أنها مدلول هذه النصوص، وأنها تمثل ما أراده الله منها؛ بينما هذه المقرَرات تصادِم حقيقة دين الله في أساسها، معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يُلجئون إليها النصوص إلجاء”. (3في ظلال القرآن، ج1/ 418-419)

كتمان الحق وإخفاؤه

وهو تحريف الأدلة عن مواضعها وتغطية الحق بالباطل، وقد ورد في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، من النصوص المحذِرة من كتمان الحق وإخفائه والمتوعِدة لفاعليه بالوعيد الشديد.

من ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [البقرة: 159] وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: 174].

يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيرها:

“هذه الآية جارية على الرؤساء الذين يحرمون على الناس ما لم يحرمه الله، ويشرعون لهم ما لم يشرعه من حيث يكتمون ما شرعه بالتأويل أو الترك، فيَدخل فيه اليهودُ والنصارى ومن حذا حذوهم في شرع ما لم يأذن به الله وإظهارخلافه؛ سواء أكان ذلك في أمر العقائد ككتمان اليهود أوصاف النبي، صلى الله عليه وسلم، أو الأكل والتقشف وغير ذلك من الأحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك، كما قال تعالى: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الانعام: 91] وفي حكمهم كلُ من يُبدي بعض العلم، ويكتم بعضه لمنفعة لا لإظهار الحق وتأييده”. (4تفسير المنار 2/ 101)

وبقيت كلمة أخيرة في موضوع كتمان الحق، ألا وهي أن بعض الطيبين قد يقول: ألا يجوز كتمان العلم بل قد يجب أحياناً عند خوف الفتنة من الجهر به سواء أكان على النفس أو على الناس؟

والجواب أن حديثنا ليس عن كتمان العلم وإنما هو عن كتمان الحق الذي يجب أن يقال.

تحريف الأدلة عن مواضعها

وهذه الطريقة من طرق التلبيس هي ثمرة من ثمرات الطريقتين السابقتين، إذ لا بد لمحرف الأدلة من كتمان الحق، ولا بد لمتبع المتشابه من تأويل كلام الله سبحانه وكلام رسوله، صلى الله عليه وسلم، من التأويل الفاسد الذي يؤدي إلى صرف الأدلة عن ما أراد الله بها وأراده رسوله، صلى الله عليه وسلم، ومن ثم وضْعها في غير موضعها، وهذا هو نوع من أنواع التحريف للأدلة عن مواضعها، إذ لا يلزم من التحريف أن يكون “لفظياً” كما فعلت اليهود في التوراة بل إن تحريف “المعنى المراد” إلى “غير المراد” هو تحريف للنصوص عن مواضعها أيضاً. وهذا ما أشار إليه الشاطبي رحمه الله تعالى، وهو يستعرض مآخذ أهل البدع في الاستدلال:

“ومنها تحريف الأدلة عن مواضعها بأن يرِدَ الدليل على مناط فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهماً أن المناطين واحد. وهو من خفيّات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله، ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام وبأنه يذم تحريف الكلم عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحاً، إلا مع “اشتباه” يعرض له، أو “جهل” يصده عن الحق مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه، فيكون بذلك السبب مبتدعاً”. (5الاعتصام ج1 ص318)

خاتمة

هذا بيان لأسباب ودوافع جريمة “لبس الحق بالباطل” وهي جريمة نكراء، ومخوفة؛ فمجال إفسادها هو “الطريق الى الله”، وهي شديدة الحساسية لأنها مجال عملها هو “ما أنزل الله”، وهي جريمة عظيمة الثقل لأن ما يقوله الملبس “ينسبه الى الله”؛ فما أجرأ من يفعل وما أعظم الحمل يوم القيامة. اللهم عافنا فيمن عافيت.

…………………………..

الهوامش:

  1. تفسير ابن كثير، طبعة الشعب ج3 ص492.
  2. إعلام الموقعين 4/ 353.
  3. في ظلال القرآن، ج1/ 418-419.
  4. تفسير المنار 2/ 101.
  5. الاعتصام ج1 ص318.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة