اللطيف: الذي من لطفه بعباده المؤمنين، أنه يتولاهم بلطفه، فيخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن ظلمات الجهل، والكفر، والبدع، والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطاعة.

ذكر اسمه سبحانه (اللطيف) في القرآن الكريم

ورد هذا الاسم الكريم في القرآن سبع مرات اقترن في بعضها باسمه سبحانه (الخبير) وهو الغالب، وبعضها جاء مفردًا.

قال الله – عز وجل -: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103].

وقال سبحانه: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 16].

وقال سبحانه: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].

وقال – عز وجل -: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) [الأحزاب: 34].

وقال تبارك وتعالى: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [الشورى: 19].

وقال سبحانه: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف: 100].

المعنى اللغوي لاسمه سبحانه (اللطيف)

قال في تهذيب اللغة: ” (اللطيف): اسم من أسماء الله العظيم، ومعناه والله أعلم: الرفيق بعباده. وعن عمر عن أبيه أنه قال: اللطيف: الذي يوصل إليك أربك في رفق.

وعن ابن الإعرابي يقال: لطف فلان لفلان يلطُف: إذا رفق لطفًا. ويقال: لطف الله لك. أي: أوصل إليك ما تحب برفق.

قال: “ولَطُف الشيء يلطف: إذا صغر … واللطيف من الكلام: ما غمض معناه وخفي”1(1) تهذيب اللغة 13/ 347..

ومن هذا التعريف يمكن القول بأن جذر (لطف) يدور حول معنين:

الأول: بفتح الطاء (لطَف) ومعناه: البر، والحفاوة، والإكرام، والترفق في تحقيق المراد، وهو هنا متعدي أي: لطف بغيره؛ كقوله تعالى: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ) [الشورى:19].

الثاني: بضم الطاء (لطُف) في نفسه، ومعناه: الغموض، والخفاء، وهو هنا غير متعدي. وهذا المعنى لا يضاف إلى الله تعالى إلا باعتبار متعلقه؛ فهو اللطيف الذي لطُف في علمه لشمول علمه للأشياء الدقيقة؛ كما قال سبحانه: (إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان:16]. وكذلك يقال في إيصال رحمته بالطرق الخفية.

المعنى في حق الله تعالى

يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: “اللطيف: الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا، وأدرك الخبايا والبواطن والأمور الدقيقة. اللطيف بعباده المؤمنين، الموصل إليهم مصالحهم بلطفه وإحسانه من طرق لا يشعرون بها. فهو بمعنى الخبير، وبمعنى الرؤوف”2(2) تفسير السعدي 5/ 489..

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – عند قوله تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14]: “وهو بيان ما في المخلوقات من لطف الحكمة التي تتضمن إيصال الأمور إلى غاياتها بألطف الوجوه كما قال يوسف عليه السلام: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ) [يوسف: 100]، وهذا يستلزم العلم بالغاية المقصودة، والعلم بالطريق الموصل وكذلك الخبرة”3(3) مجموع الفتاوى 16/ 354..

اقتران اسمه سبحانه (اللطيف) باسمه – عز وجل – (الخبير)

ورد اسمه سبحانه (اللطيف) مقترنًا باسمه (الخبير) في خمس آيات منها قوله تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: 103]. أي: الذي أحاط علمه بالخفايا والسرائر، وإدراك الخبايا والبواطن، ودقائق الأمور.

ولله – عز وجل – صفة كمال من كل من الاسمين الجليلين. وصفة كمال ثالثة من اجتماعهما؛ فكونه – عز وجل – (اللطيف الخبير) يعني: أن أفعاله التي لطفت عن أن تدركها العقول والأفهام قد أحاطت بما تعبت في إدراكه العقول والأفهام، وأن لطفه وصنائعه وبره وإحسانه، إنما دقت على العقول والأفهام؛ لأنها جارية على مقتضى خبرته التي هي فوق إدراك العقول والأفهام، فلطفه – عز وجل – وهو رفقه وإحسانه إنما هو لطف الخبير 4(4) انظر (مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام) د. نجلاء كردي ص 614 (بتصرف يسير)..

وأنى يكون اللطف لعادم الخبرة أو ضعيفها، الفاقد الحكمة، فالله (اللطيف) ينفذ إلى ما تحقق به لطفه في عباده وخلقه، ورزقه، وهدايته وغير ذلك بعلمه وخبرته وحكمته وقوته وعزته5(5) انظر أسماء الله الحسنى، عمر الأشقر ص 136..

ذكر بعض ألطافه – سبحانه وتعالى- والتي هي من آثار اسمه سبحانه (اللطيف)

أكتفي بما ذكره الشيخ السعدي – رحمه الله تعالى – في بعض كتبه، حيث يقول رحمه الله تعالى: “واعلم أن اللطف الذي يطلبه العباد من الله بلسان المقال، ولسان الحال هو من الرحمة، بل هو رحمة خاصة، فالرحمة التي تصل العبد من حيث لا يشعر بها أو لا يشعر بأسبابها هي اللطف فإذا قال العبد: يا لطيف الطف بي، أو لي وأسألك لطفك فمعناه: تولني ولاية خاصة بها تصلح أحوالي الظاهرة، والباطنة، وبها تندفع عني جميع المكروهات من الأمور الداخلية والأمور الخارجية، … فإذا يسر الله عبده وسهل طريق الخير وأعانه عليه، فقد لطف به، وإذا قيض الله له أسبابًا خارجية غير داخلة تحت قدرة العبد فيها صلاحه، فقد لطف له، ولهذا لما تنقلت بيوسف – عليه السلام – تلك الأحوال، وتطورت به الأطوار من رؤياه وحسد إخوته له، وسعيهم في إبعاده جدًا، واختصامهم بأبيهم ثم محنته بالنسوة ثم بالسجن ثم بالخروج منه بسبب رؤيا الملك العظيمة، وانفراده بتعبيرها، وتبوؤه من الأرض حيث يشاء، وحصول ما حصل على أبيه من الابتلاء، والامتحان ثم حصل بعد ذلك الاجتماع السار، وإزالة الأكدار وصلاح حالة الجميع والاجتباء العظيم ليوسف عرف – عليه السلام – أن هذه الأشياء وغيرها لطف الله لهم به فاعترف بهذه النعمة فقال: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف: 100]، أي: لطفه تعالى خاص لمن يشاء من عباده ممن يعلمه تعالى محلاً لذلك وأهلاً له، فلا يضعه إلا في محله. الله أعلم حيث يضع فضله فإذا رأيت الله تعالى قد يسر العبد لليسرى، وسهل له طريق الخير، وذلل له صعابه، وفتح له أبوابه، ونهج له طرقه، ومهد له أسبابه، وجنبه العسرى فقد لطف به.

ومن لطفه بعباده المؤمنين، أنه يتولاهم بلطفه، فيخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن ظلمات الجهل، والكفر، والبدع، والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطاعة.

ومن لطفه: أنه يرحمهم من طاعة أنفسهم الأمارة بالسوء التي هذا طبعها وديدنها، فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى ويصرف عنهم السوء والفحشاء فتوجد أسباب الفتنة، وجوانب المعاصي وشهوات الغي، فيرسل الله عليها برهان لطفه ونور إيمانهم الذي منَّ به عليهم فيدعونها مطمئنين لذلك منشرحة لتركها صدورهم.

ومن لطفه بعباده: أنه يقدر أرزاقهم بحسب علمه بمصلحتهم لا بحسب مراداتهم، فقد يريدون شيئًا وغيره أصلح فيقدر لهم الأصلح وإن كرهوه لطفًا بهم وبرًا وإحسانًا: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [الشورى: 19]، (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى: 27].

ومن لطفه بهم: أنه يقدر عليهم أنواع المصائب، وضروب المحن، والابتلاء بالأمر والنهي الشاق رحمة بهم، ولطفًا، وسوقًا إلى كمالهم، وكمال نعيمهم: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].

ومن لطف الله بعبده: إذ أهله للمراتب العالية، والمنازل السامية التي لا تدرك بالأسباب العظام التي لا يدركها إلا أرباب الهمم العالية، والعزائم السامية: أن يقدر له في ابتداء أمره بعض الأسباب المحتملة المناسبة للأسباب التي أهل لها ليتدرج من الأدنى إلى الأعلى، ولتتمرن نفسه ويصير له ملكة من جنس ذلك الأمر، وهذا كما قدر لموسى، ومحمد وغيرهما من الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم – في ابتداء أمرهم رعاية الغنم، ليتدرجوا من رعاية الحيوان البهيم وإصلاحه، إلى رعاية بني آدم ودعوتهم وإصلاحهم. وكذلك يذيق عبده حلاوة بعض الطاعات فينجذب ويرغب ويصير له ملكة قوية بعد ذلك على طاعات أجل منها وأعلى، ولم تكن تحصل بتلك الإرادة السابقة حتى وصل إلى هذه الإرادة والرغبة التامة.

ومن لطف الله بعبده: أن يقدر له أن يتربى في ولاية أهل الصلاح، والعلم، والإيمان، وبين أهل الخير ليكتسب من أدبهم، وتأديبهم ولينشأ على صلاحهم وإصلاحهم كما امتن الله على مريم في قوله تعالى: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا) [آل عمران: 37] إلى آخر قصتها، ومن ذلك إذا نشأ بين أبوين صالحين وأقارب أتقياء، أو في بلد صلاح، أو وفقه الله لمقارنة أهل الخير وصحبتهم، أو لتربية العلماء الربانيين، فإن هذا من أعظم لطفه بعبده، فإن صلاح العبد موقوف على أسباب كثيرة منها، بل من أكثرها وأعظمها نفعًا هذه الحالة. ومن ذلك: إذا نشأ العبد في بلد أهله على مذهب أهل السُّنة والجماعة، فإن هذا لطف له، وكذلك إذا قدر الله أن يكون مشايخه الذين يستفيد منهم الأحياء منهم والأموات أهل سُّنة وتقى، فإن هذا من اللطف الرباني ولا يخفى لطف الباري في وجود شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في أثناء قرون هذه الأمة وتبيين الله به وبتلامذته من الخير الكثير والعلم الغزيز، وجهاد أهل البدع والتعطيل والكفر ثم انتشار كتبه في هذه الأوقات، فلا شك أن هذا من لطف الله لمن انتفع بها، وأنه يتوقف خير كثير على وجودها فلله الحمد والمنة والفضل.

ومن لطف الله بعبده: أن يجعل رزقه حلالاً في راحة وقناعة يحصل به المقصود، ولا يشغله عما خلق له من العبادة والعلم والعمل، بل يعينه على ذلك ويفرغه ويريح خاطره وأعضاءه، ولهذا من لطف الله تعالى لعبده أنه ربما طمحت نفسه لسبب من الأسباب الدنيوية التي يظن فيها إدراك بغيته، فيعلم الله تعالى أنها تضره وتصده عما ينفعه فيحول بينه وبينها فيظل العبد كارهًا، ولم يدر أن ربه قد لطف به حيث أبقى له الأمر النافع، وصرف عنه الأمر الضار، ولهذا كان الرضى بالقضاء في مثل هذه الأشياء من أعلى المنازل.

ومن لطف الله بعبده: إذا قدر له طاعة جليلة لا تنال إلا بأعوان أن يقدر له أعوانًا عليها ومساعدين على حملها؛ قال موسى عليه السلام: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا) [طه: 29 – 34].

وكذلك امتن على عيسى – عليه السلام – بقوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) [المائدة: 111]، وامتن على سيد الخلق في قوله: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 62]، وهذا لطف لعبده خارج عن قدرته ومن هذا لطف الله بالهادين إذا قيض الله من يهتدي بهداهم ويقبل إرشادهم فتتضاعف بذلك الخيرات والأجور التي لا يدركها العبد بمجرد فعله، بل هي مشروطة بأمر خارجي.

ومن لطف الله بعبده: أن يعطي عبده من الأولاد، والأموال، والأزواج ما به تقر عينه في الدنيا، ويحصل له السرور، ثم يبتليه ببعض ذلك ويأخذه، ويعوضه عليه الأجر العظيم إذا صبر واحتسب، فنعمة الله عليه بأخذه على هذا الوجه أعظم من نعمته عليه في وجوده وقضاء مجرد وطره الدنيوي منه، وهذا أيضًا خير وأجر خارج عن أحوال العبد بنفسه، بل هو لطف من الله له أن قيض له أسبابًا أعاضه عليها الثواب الجزيل، والأجر الجميل.

ومن لطف الله بعبده: أن يبتليه ببعض المصائب فيوفقه للقيام بوظيفة الصبر فيها فينيله درجات عالية لا يدركها بعمله، وقد يشدد عليه الابتلاء بذلك كما فعل بأيوب – عليه السلام – ويوجد في قلبه حلاوة روح الرجاء وتأميل الرحمة، وكشف الضر فيخف ألمه وتنشط نفسه، ولهذا من لطف الله بالمؤمنين أن جعل في قلوبهم احتساب الأجر فخفت مصائبهم، وهان ما يلقون من المشاق في حصول مرضاته.

– ومن لطف الله بعبده المؤمن الضعيف: أن يعافيه من أسباب الابتلاء التي تضعف إيمانه وتنقص إيقانه، كما أن من لطفه بالمؤمن القوي: تهيئة أسباب الابتلاء والامتحان، ويعينه عليها ويحملها عنه، ويزداد بذلك إيمانه ويعظم أجره فسبحان اللطيف في ابتلائه، وعافيته، وعطائه، ومنعه.

ومن لطف الله بعبده: أن يسعى لكمال نفسه مع أقرب طريق يوصله إلى ذلك مع وجود غيرها من الطرق التي تبعد عليه فييسر عليه التعلم من كتاب أو معلم، يكون حصول المقصود به أقرب وأسهل، وكذلك ييسره لعبادة يفعلها بحالة اليسر والسهولة، وعدم التعويق عن غيرها مما ينفعه فهذا من اللطف.

ومن لطف الله بعبده: قدر الواردات الكثيرة، والأشغال المتنوعة، والتدبيرات، والمتعلقات الداخلة والخارجة التي لو قسمت على أمة من الناس لعجزت قواهم عنها أن يمن عليه بخلق واسع، وصدر متسع، وقلب منشرح؛ بحيث يعطي كل فرد من أفرادها نظرًا ثاقبًا وتدبيرًا تامًا وهو غير مكترث ولا منزعج لكثرتها وتفاوتها، بل قد أعانه الله تعالى عليها ولطف به فيها، ولطف له في تسهيل أسبابها وطرقها، وإذا أردت أن تعرف هذا الأمر فانظر إلى حالة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله بصلاح الدارين وحصول السعادتين، وبعثه مكملاً لنفسه ومكملاً لأمة عظيمة هي خير الأمم ومع هذا مكنه الله ببعض عمره الشريف في نحو ثلث عمره أن يقوم بأمر الله كله على كثرته وتنوعه، وأن يقيم لأمته جميع دينهم، ويعلمهم جميع أصوله وفروعه، ويخرج الله به أمة كبيرة من الظلمات إلى النور، ويحصل به من المصالح والمنافع والخير والسعادة للخاص والعام ما لا تقوم به أمة من الخلق.

– ومن لطف الله تعالى بعبده: أن يجعل ما يبتليه به من المعاصي سببًا لرحمته، فيفتح له عند وقوع ذلك باب التوبة والتضرع، والابتهال إلى ربه وازدراء نفسه واحتقارها، وزوال العجب والكبر من قلبه ما هو خير له من كثير من الطاعات.

– ومن لطفه بعبده الحبيب عنده: إذا مالت نفسه مع شهوات النفس الضارة، واسترسلت في ذلك أن ينغصها عليه ويكدرها، فلا يكاد يتناول منها شيئًا إلا مقرونًا بالمكدرات، محشوًا بالغصص لئلا يميل معها كل الميل، كما أن من لطفه به أن يلذذ له التقربات، ويحلي له الطاعات ليميل إليها كل الميل.

– ومن لطيف لطف الله بعبده: أن يأجره على أعمال لم يعملها، بل عزم عليها فيعزم على قربة من القرب ثم تنحل عزيمته لسبب من الأسباب فلا يفعلها فيحصل له أجرها. فانظر كيف لطف الله به فأوقعها في قلبه وأدارها في ضميره وقد علم تعالى أنه لا يفعلها سوقًا لبره لعبده وإحسانه بكل طريق.

– وألطف من ذلك أن يقيض لعبده طاعة أخرى غير التي عزم عليها هي أنفع له منها، فيدع العبد الطاعة التي ترضي ربه لطاعة أخرى هي أرضى لله منها فتحصل له المفعولة بالفعل، والمعزوم عليها بالنية وإذا كان من يهاجر إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت قبل حصول مقصوده قد وقع أجره على الله مع أن قطع الموت بغير اختياره، فكيف بمن قطعت عليه نيته الفاضلة طاعة قد عزم على فعلها وربما أدار الله في ضمير عبده عدة طاعات كل طاعة لو انفردت لفعلها العبد لكمال رغبته، ولا يمكن فعل شيء منها إلا بتفويت الأخرى، فيوفقه للموازنة بينها وإيثار أفضلها فعلاً مع رجاء حصولها جميعها عزمًا ونية.

– وألطف من هذا أن يقدر تعالى لعبده ويبتليه بوجود أسباب المعصية ويوفر له دواعيها وهو تعالى علم أنه لا يفعلها، ليكون تركه لتلك المعصية التي توفرت أسباب فعلها من أكبر الطاعات.

كما لطف بيوسف – عليه السلام – في مراودة المرأة. وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين.

– ومن لطف الله بعبده: أن يقدر خيرًا وإحسانًا من عبده، ويجزيه على يد عبده الآخر، ويجعله طريقًا إلى وصوله إلى المستحق، فيثيب الله الأول والآخر. ومن لطف الله بعبده أن يجري بشيء من ماله شيئًا من النفع وخيرًا لغيره فيثيبه من حيث لا يحتسب، فمن غرس غرسًا أو زرع زرعًا فأصابت منه روح من الأرواح المحترمة شيئًا آجر الله صاحبه وهو لا يدري خصوصًا إذا كانت عنده نية حسنة وعقد مع ربه عقدًا في أنه مهما ترتب على ما له شيء من النفع فأسألك يارب أن تأجرني، وتجعله قربة لي عندك، وكذلك لو كان له بهائم انتفع بدرها، وركوبها، والحمل عليها، أو مساكن انتفع بسكناها ولو شيئًا قليلاً، أو ماعون ونحوه انتفع به، أو عين شرب منها، وغير ذلك ككتاب انتفع به في تعلم شيء منه، أو مصحف قرئ فيه، والله ذو الفضل العظيم.

– ومن لطف الله بعبده: أن يفتح له بابًا من أبواب الخير لم يكن له على بال، وليس ذلك لقلة رغبته فيه، وإنما هو غفلة منه وذهول عن ذلك الطريق فلم يشعر إلا وقد وجد في قلبه الداعي إليه والملفت إليه، ففرح بذلك وعرف أنها من ألطاف سيده، وطرقه التي قيض وصولها إليه فصرف لها ضميره ووجه إليها فكره وأدرك منها ما شاء الله” 6(6) المذاهب الربانية من الآيات القرآنية ص 71 – 76..

من آثار الإيمان باسمه سبحانه (اللطيف)

1 – محبة الله – عز وجل – والأنس به حيث إنه يلطف بعباده المؤمنين، ويحسن إليهم ويرفق بهم ولا يعجل عليهم بالعقوبة ويسوق لهم الخير من حيث يحتسبون، ومن حيث لا يحتسبون، بل يسوق لهم الخير من حيث يكرهون. وهذه المحبة تثمر التقرب إليه سبحانه بأنواع العبوديات، كما تثمر الحياء والإجلال له سبحانه، وهذا الحياء يدفع العبد إلى تعظيم حرماته سبحانه فلا يغشاها، وحدوده فلا يقربها، كما تثمر هذه المحبة الدعوة إليه سبحانه والجهاد في سبيله، والتضيحة بالنفس والمال في سبيل مرضاته.

2 – الطمأنينة والسكينة التي يسكبها هذا الاسم الكريم في قلب المؤمن. فكما سبق في معنى (اللطيف) وفي ذكر بعض آثار هذا الاسم الجليل، والتي منها أن الله – عز وجل – بلطفه يسوق الخير والرحمة إلى عبده من حيث لا يشعر، بل من حيث يكره ويتألم. فإذا استقرت في قلب العبد هذه المعاني رضي وسلم واطمأن وفوض الأمر إلى الله تعالى. وهذه الثمرة تقودنا إلى الثمرة التالية ألا وهي:

3 – صدق التوكل على الله – عز وجل – والرضا بما يختاره سبحانه والإكثار من دعاء الاستخارة التي به يفوض العبد ربه سبحانه في أن يختار له مما كان له فيه الخير في الدنيا والآخرة، ولا يقترح على ربه طريقًا معينًا فإن الله – عز وجل – يعلم أين تكون مصلحة العبد والعبد لا يعلم، والله سبحانه يقدر على تحقيقها، والعبد لا يقدر والله سبحانه هو العليم القدير.

4 – إن الله سبحانه وتعالى لا يفوته من العلم شيء وإن دق وصغر، وخفي وكان في مكان سحيق، قال سبحانه: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 59].

وجاء في قوله تعالى عن لقمان: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 16].

فالله لا يخفى عليه شيء، ولا الخردلة وهي: الحبة الصغيرة التي لا وزن لها، فإنها لو كانت في صخرة في باطن الأرض، أو في السماوات فإن الله يستخرجها ويأتي بها، لأنه اللطيف الخبير.

فإذا علم العبد أن ربه متصفٌ بدقة العلم، وإحاطته بكل صغيرة وكبيرة، حاسب نفسه على أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، فإنه في كل وقت وحين، بين يدي اللطيف الخبير: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].

والله سبحانه يجازي الناس على أفعالهم يوم الدين، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، لا يفوته من أعمالهم شيء، لا المحسن يضيع من إحسانه مثقال ذرة، ولا المسيء يضيع من سيئاته مثقال ذرة.

قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].

وقال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7 – 8].

ثم هو بعد ذلك يزيد أجور الصالحين من فضله وكرمه ما يشاء، ويعفو ويتجاوز عن ذنوب من يشاء من عباده بلطفه وعفوه، ويعذِّب بالذنوب من يشاء من عباده بعدله، إنه كان بعباده خبيرًا بصيرًا 7(7) انظر النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى؛ محمد حمود النجدي 1/ 262، 263..

5 – لما كان من معاني (اللطيف) البر والرفق والإحسان، فإن مما يثمره في قلب المؤمن وأخلاقه أن يتخلق بهذا الخلق العظيم فيكون رفيقًا بعباد الله – عز وجل – محسنًا إليهم، بارًا بهم يحب الخير ويفعله لهم ويكره الشر لهم. مبتدئًا في ذلك بالوالدين والأولاد والأقارب وعموم المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)8(8) البخاري (6927). .

الهوامش

(1) تهذيب اللغة 13/ 347.

(2) تفسير السعدي 5/ 489.

(3) مجموع الفتاوى 16/ 354.

(4) انظر (مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام) د. نجلاء كردي ص 614 (بتصرف يسير).

(5) انظر أسماء الله الحسنى، عمر الأشقر ص 136.

(6) المذاهب الربانية من الآيات القرآنية ص 71 – 76.

(7) انظر النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى؛ محمد حمود النجدي 1/ 262، 263.

(8) البخاري (6927).

اقرأ أيضا

من أسماء الله الحسنى: [المتكبر]

أسماء الله الحسنى: (8) [القيوم]

من أسماء الله الحسنى: [المؤمن]

 

التعليقات غير متاحة