تبقى وحدة الراية واجتماع الكلمة عاملا أساسيا في انتصار المسلمين أو انكسارهم. ودرس التاريخ العظيم في الحذر من المنافقين في صورة “الباطنية” أو الصور المتجددة.

مقدمة

بعد أن ضم البرسقي يرحمه الله حلب الى الموصل طمح الى تغيير موازين القوى لصالح المسلمين فاستكمل تحركاته الى بقية الإمارات المحتلة من قبل الصليبيين.

بدء العمليات

لم يكن بوسع الملك “بلدوين” ـ بعد أن رأى ما حدث ـ سوى العودة إلى “أنطاكية” ومنها إلى بيت المقدس الذي غاب عنه مدة سنتين، إلا أنه لم يمكث هناك زمنًا طويلاً، فقد كان “البرسقي” في نظره شديد الخطورة؛ إذ كان بوسعه أن يوحِّد المسلمين بشمال الشام تحت سلطانه، كما خضع لقيادته أميرا دمشق وحلب.

وكان البرسقي ـ بعد أن أقرَّ الأوضاع في حلب ـ قد غادرها في مطلع عام (519هـ) صوبَ تل السلطان، ومنها إلى حصن شيزر، وإذ حرص أميرها “سلطان بن منقذ على” أن يكون صديقًا لكل رجل عظيم الأهمية، فقد سلمه رهائن الصليبيين الذين كانوا قد أودعوا لدى بني منقذ ريثما يتم تنفيذ بنود المعاهدة التي كانت قد عقدت بين الغزاة وأمراء ديار بكر.

وقد أقام البرسقي في أرض حماة أيامًا لحين وصول “طغتكين” على رأس قواته، وحين ذلك رحل البرسقي على رأس جيش مؤلف من القوات الإسلامية المتحالفة، وهاجم حصن كفر طاب الذي كان بحوزة الغزاة، وتمكن من الاستيلاء عليه في مطلع ربيع الآخر، حيث وهبه لحليفه أمير حمص الذي كان قد التحق به.

ثم حاصر “زردنا” فعجل الملك “بلدوين” في المسير نحو الشمال وقاد جيوش طرابلس وأنطاكية والرها لإنقاذها، فتحول المسلمون إلى “عزاز” التابعة لجوسلين وشددوا هجومهم عليها، وتمكنوا من إحداث ثغرات في قلعتها، إلا أن قوات بلدوين ما لبثت أن أدركتهم هناك حيث دارت في السادس من ربيع الآخر معركة عنيفة. ولما استند المسلمون إلى تفوقهم العددي حاولوا الاشتباك مع خصومهم وجهًا لوجه، غير أنه كان لهؤلاء من التفوق في السلاح والقوة الضاربة ما لم يُطق المسلمون مقاومته، فحلّت بهم الهزيمة، وقُتل منهم عدد كبير. واستطاع بلدوين أن يجمع من الغنائم الوفيرة التي حصل عليها مبلغ ثمانين ألف دينار الذي كان يدين به لافتداء الرهائن، فاستلمه البرسقي، وأعاد الرهائن؛ كي يتقوى به على عدوِّه ويعيد حشد قواته من جديد، وما لبثت الهدنة أن عقدت بين البرسقي والصليبيين، وقفل عائدًا إلى الموصل بعد أن أبقى في حلب حامية عسكرية.

استئناف الصراع

لم يكن الاتفاق بين “البرسقي” وخصومه نهائيًّا؛ نظرًا لأن الغزاة لم يحترموا ما اتفقوا عليه من قَبل من الشروط، ويذكر المؤرخ الحلبي “ابن العديم” أن الصليبيين أخذوا يمنعون فلاحي المسلمين من جني ثمارهم ومحاصيلهم، وفق ما نصّت عليه شروط الهدنة.

وفي مطلع ربيع عام (520هـ/ 1126م) قام “بونز” أمير طرابلس بمهاجمة حصن “رفينة” الذي كان هدفًا للصليبيين منذ أن استرده منهم أمير دمشق عام (499هـ)، والذي كان يتحكم في المنفذ المؤدي إلى البقيعة من جهة وادي نهر العاصي، ونهض “بلدوين” ملك بيت المقدس لمساندته، وخرج صاحبه “شمس الخواص” طالبًا البرسقي مستصرخًا به، لكن ولده ما لبث أن قام بتسليم الحصن للغزاة بعد حصار دام ثمانية عشر يومًا، وكان الاستيلاء على هذا الحصن ذا أهمية بالغة عند الصليبيين؛ لا لأنه كفل الأمان والسلامة لطرابلس فحسب، بل لأنه أمَّن أيضًا طرق الاتصال بين بيت المقدس وأنطاكية.

ومن ثَم توجه الغزاة إلى “حِمص” وهاجموا المناطق المحيطة بها وخربوا مزارعها، ولم يغادروا المنطقة إلا بعد أن أدركتهم القوة التي بعث بها “البرسقي” بقيادة ابنه “مسعود” لنجدة صاحب حمص، وخلال ذلك أعاد المصريون بناء أسطولهم الذي أقلع سنة (520هـ) من الإسكندرية وأغار على الساحل الشامي، ولما سمع البرسقي بذلك أعد خطته على أن يقوم أثناء إغارة الأسطول المصري بهجوم من الشمال، فحشد جيشًا كبيرًا وتوجه إلى أنطاكية بقصد نجدة صاحب “رفينة”.

والواقع أن المصريين أدركوا بعد أن حاولوا القيام بغارة على أرباض بيروت، كلَّفتهم خسائر جسيمة، أن المدن الساحلية مشحونة بحاميات قوية، فلم يسعهم إلا العودة. أما البرسقي فقد سلك طريق “منبج” التي كانت مزارعها وقراها قد تعرضت دومًا لغارات جوسلين أمير الرها، فدارت المفاوضات بين “البرسقي” و”جوسلين” لعقد هدنة أخرى على أن تكون الضياع ما بين عزاز وحلب مناصفة بين الطرفين، وأن يكون القتال بينهما على غير ذلك.

اتجه البرسقي ـ بعد أن أمن جانب جوسلين ـ صوب “الأثارب” وحاصرها في جمادى الآخرة (520هـ)، وأرسل فرقة من قواته إلى “حصن الدير” فأذعن لها، وقامت جيوشه بجمع غلال العديد من مزارع العدو وإرسالها إلى حلب. وعلى الرغم من أن قوات البرسقي استولت على السورين الخارجيين للأثارب، إلا أنها لم يتيسر لها الاستيلاء على المدينة لمبادرة ملك بيت المقدس لإنجادها، حيث انحاز إليه الأمير جوسلين. ورغبة منهما في تجنُّب الاشتباك مع البرسقي أرسلا إليه قائلين: “ترْحل عن هذا الموضع ونتفق على ما كنا عليه في العام الخالي ونعيد (رفينة) عليك”.

ولم يشأ البرسقي ـ من جهته ـ أن يمضي في الحرب؛ كيلا يتعرض المسلمون لما تعرضوا له من قبل في “عزاز”، فقرر عقد الصلح مع الصليبيين، غير أن بلدوين لم يلبث ـ بعد أن جلا البرسقي بقواته عن “الأثارب” ـ أن أنكر ما سبق أن عرضه على البرسقي من شروط الصلح، وأهمها إعادة (رفينة) إلى المسلمين، بل إنه طالب ببلاد جديدة، فلم يقبل البرسقي ذلك، وأقام فترة في حلب ترددت الرسل أثناءها بين الطرفين دون أن تسفر عن نتيجة. كما أن الغارات التي نشبت بينهما عقب ذلك لم تأت بطائل، فرجع بلدوين إلى القدس في رجب، وتوجه البرسقي إلى حلب يصحبه “طغتكين” حاكم دمشق الذي كان قد التحق به قبيل ذلك عند “قنسرين”، إلا أنه ما لبث أن مرض وأوصى إلى البرسقي قبل أن يغادر حلب متوجهًا إلى دمشق، الأمر الذي يشير إلى مدى ثقته وتقديره للبرسقي الذي لم يأل جهدًا في مقاومة الغزاة، وبعد أن أناب البرسقي ابنه عز الدين مسعود في حلب، قفل راجعًا إلى الموصل.

تعبيد الطرق

ما من شك في أن هزيمة البرسقي غير المتوقعة في “عزاز”، هي التي قلبت ميزان القوى في المنطقة ووضعت جدارًا صلبًا أمام مطامح البرسقي الذي كان يأمل ـ بعد ضم حلب إلى إمارته ـ أن يحقق للمسلمين انتصارات حاسمة ضد أعدائهم، وأن يسعى لتهديد إماراتهم في الشمال بعد أن يوجه ضربات قوية لجيوشهم هناك.

وهكذا جاءت كارثة “عزاز” لتنحرف بحركة البرسقي عن هدفها المرسوم، إلا أن قادة الصليبيين لم ينسوا ـ رغم ذلك ـ أن البرسقي سيظل يشكل خطرًا على وجودهم؛ إذ أدركوا ما تمنحه إياه سيطرته على “حلب” وقيادته لقوى المسلمين في الشام، من إمكانية متجددة لإعادة الكَرّة عليهم. ومن ثَم اقتنع كل من الطرفين بمنطق التهادن والمحالفات والسعي لتجنّب أي اشتباك قد يجر وراءه صراعًا طويلاً لم تكن للطرفين رغبة جادة في خوضه؛ نظرًا لاعتقادهما بعدم جدواه.

ولئن كان البرسقي قد أضاع الفرصة إثر هزيمة عزاز، فإنه فتح الطريق ولا ريب ـ بضمه حلب إلى الموصل ـ أمام عماد الدين زنكي الذي جاء بعد سنتين لكي يصفي الحساب مع الغزاة.

نهاية البرسقي

لم يلبث البرسقي، بعد أيام قلائل من دخوله الموصل، أن اغتيل على أيدي الباطنية الذين كانوا قد تولوا حملة اغتيالات واسعة النطاق لكبار الشخصيات الإسلامية؛ بسبب الخلافات المذهبية، وقد بلغت هذه الحملة أوجها في القرن السادس الهجري، وكانت الباطنية تشكل ـ إذًا ـ مصدر الخطر الوحيد ضد البرسقي، وقد عَرف هو ذلك منذ البداية، فكان على غاية من التيقظ لهم والتحفظ منهم، وكان يحيط نفسه بعددٍ كبير من الحرس المسلمين الذين كانوا دائمًا على أهبة الاستعداد، كما كان يلبس درعًا من حديد، وقد جهد في الحد من خطر الباطنية عن طريق التصدي لهم، واستئصال شأفتهم وتتبعهم في كل مكان، وقد تمكن من قتل عدد منهم.

ورغم كل هذه الاحتياطات والإجراءات تمكن الباطنية الذين تمرسوا على الاغتيالات من بغيتهم؛ ففي التاسع من ذي القعدة سنة (520هـ) توجه البرسقي إلى الجامع العتيق في الموصل لأداء صلاة الجمعة، وقصَلد المنبر، فما دنا منه وثب عليه ثمانية أشخاص متزيين بزيّ الزهاد وأثخنوه ضربًا وطعنًا، بعد أن تمكن وحُرَّاسه من قتل بعضهم، ثم حُمل جريحًا ومات في نفس اليوم، وتم قتل جميع من اشترك في الاغتيال فيما عدا واحدًا منهم تمكن من الهرب إلى الشام.

وكان البرسقي قد رأى في منامه ـ في الليلة الفائتة ـ بأن مجموعة من الكلاب السوداء هاجمته، وقصّ رؤياه على أصحابه، فأشاروا عليه بعدم الخروج من داره أيامًا، ولكنه رفض اقتراحهم وقال: لا أترك صلاة الجمعة لشيء أبدًا. وكان من عادته أن يحضر صلاة الجمعة مع سائر الناس.

ويُلقي العماد الأصفهاني ضوءًا على الدوافع المباشِرة لاغتيال البرسقي؛ إذ يشير إلى العداء المستحكم بينه وبين “الدركزيني” الباطني وزير السلطان السلجوقي محمد، الذي عمل جاهدًا ليقنع السلطان بعزل خصمه فلم ينجح في مسعاه، فاتفق مع الباطنية على اغتياله.

وموقف “الدركزيني” يقودنا إلى موقف الباطنية العام من زعماء المقاومة الإسلامية؛ هذا الموقف الذي تميّز بالعداء الجارف والرغبة في الانتقام، الأمر الذي كان له أسوأ الأثر على مجرى الصراع بين المسلمين والغزاة.

ومن عجب ـ -يقول المؤرخ ابن الأثير ـ أن أمير أنطاكية الصليبي أرسل إلى عز الدين مسعود يخبره بقتل والده قبل أن يصل الخبر إليه شخصيًّا..! وكان قد سمعه الفرنج قبله لشدة عنايته ـ أي أمير أنطاكية ـ بمعرفة الأحوال الإسلامية..!

لكن ألا يلقي هذا النبأ ظلاًّ من شك حول إمكانية حدوث اتفاق مسبق بين الباطنية والصليبيين لاغتيال المجاهد المسلم، لا سيما وأن قتلته ربما كانوا ـ كما يذكر المؤرخ الحلبي ابن العديم ـ قومًا من أهل حماة القريبة من معاقل الصليبيين..؟

كيفما كان الأمر، فإن مقتل “البرسقي”، رحمه الله، أصاب المسلمين عامة والموصل خاصة بخسارة فادحة، حيث فقدوا باغتياله واليًا من نوع ممتاز، فلا غرو أن يحزنوا عليه ويأسفوا لفقده، ويستدعوا ابنه عز الدين مسعود ليحل محله.

وأغلب الظن أن البرسقي كان الوالي الوحيد للموصل، منذ بدء عهد الولاة عام (489هـ) وحتى تولي عماد الدين زنكي عام (521هـ)، الذي لم يطمح إلى مخالفة السلطان السلجوقي والاستقلال عن سلطته بحكم حبه له، وإخلاصه لوحدة الدولة السلجوقية إزاء التفتّت والانقسام.

خاتمة

تلك صفحة من تاريخنا ترى فيها الإسلام والجهاد عندما يشق طريقه، فترى المنافقين ـ الباطنية ـ ودورهم وامتداداتهم الى اليوم حتى صاروا أنظمة وجيوشا وأجهزة أمنية..!

ترى في الصفحة التاريخية أثر الوحدة واجتماع الراية، وأثر التفرق والانقسام..

ضع هذه العبر والدروس مع آيات الله تر صدق كل كلمة وانطباق كل خبر، وتعرف من خلال الصفحتين؛ صفحة الكتاب المنزَل وصفحة التاريخ المقروء، كيفية طريق الخروج من الأزمة اليوم.

………………………

المصدر:

  • د: عماد الدين خليل، المصدر: مجلة الفسطاط التاريخية.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة