إنّ الوعي الوحيد القادر على حفظ المنجز المادي الذي يحقق مصالح المسلمين ويحفظ بيضتهم هو الوعي المؤسَّس على الدين بكامل شحنته وجميع مستوياته: الإيمانية والتربوية والتشريعية والأخلاقية وغيرها.

الديمقراطية غير كافية لإحداث التغيير المنشود

إذا كان من درسٍ تُعلّمنا إيّاه الانتخابات التركية فهو أنّ الممارسة السياسية على قواعد اللعبة الديمقراطية غير كافية في تحقيق العدل والأمن والتمكين الذي نصبو إليه في تركيا أو غيرها من البلدان المسلمة، وأنّ جذب الناخبين من خلال الإنجازات الدنيوية، خدميةً كانت أو اقتصادية أو غيرها، لا يكفي في إحداث التغيير المنشود، خصوصا لو كان التغيير المنشود هو إقامة أسس راسخة للعدالة والأمن والحرية ودولة قوية متقدّمة قادرة على التعامل الندّي مع دول المنطقة والعالم وعلى حفظ كرامة أهلها وحقوقهم.

لماذا تناقصت الأصوات الموجهة لأردوغان؟!

لقد رأينا كيف انقلب الناخب التركي على أردوغان وحزبه وتناقصت الأصوات التي حصل عليها الرجل بعد كل هذه الأزمات التي ألمّت بالشعب، ولم يعد يحسم الأمور بسهولة كما كان سابقا، حتى في أكثر المناطق التي قدّم فيها أردوغان منجزًا واضحًا كإسطنبول على سبيل المثال. فالناخب الذي أعطى أردوغان صوته من أجل عَرَضٍ دنيوي قريب سرعان ما بدّل رأيه وانقلب عليه حين قرصتْه الأزمة الاقتصادية وغلاء المعيشة، والناخب المشحون بالمشاعر القومية، التي عزّزها الحزب وبنى عليها إلى جانب المشاعر الإسلامية لتوسيع دائرة تأثيره، انفضّ عنه أيضًا مع زيادة منسوب العنصرية بسبب الوجود السوري والعربي في تركيا.

ملايين الشباب لا تشعر بمخاطر الدولة العلمانية المتطرّفة

ثمة جيل واسع من ملايين الشباب ولدوا في هذه البيئة المنفتحة وفي تركيا الجديدة التي شيّدها أردوغان، ولم يشعروا كالأجيال السابقة بمخاطر الدولة العلمانية المتطرّفة التي كانت تحارب تديّنهم وتصادر حريّاتهم فضلا عن تخلّف الدولة والصناعات والمعيشة في عهدها وتبعيّتها للغرب بلا أي طموح لبناء القوة والخروج من هذه التبعية المذلّة.

ومعيار هذا الجيل الجديد الذي أقرّه حزب العدالة والتنمية وغيره من الأحزاب في اللعبة الديمقراطية هو الوعود الانتخابية وتحقيقها، فمن يحقق لنا المصالح الدنيوية التي ترفع من مستوى معيشتنا نعطيه صوتنا سواء كان أردوغان أو غيره، ومن يقصّر في ذلك نفكّر في تغييره، ونظنّ أننا في بيئة ديمقراطية حقيقية لا يمكن لأحد يصعد إلى سدّة الحكم فيها من إعادة الاستبداد والقمع وتحطيم المنجزات التي تحققت حتى الآن سواء على مستوى الأمن والعدالة والحرية أو على مستوى قوة الدولة وتقدّمها الصناعي والسياسي على وجه التحديد.

ضرورة البحث عن محاور جذب للحاضنة الشعبية المتنامية

صحيح أن هناك قاعدة صلبة واعية تدرك مخاطر عودة الأحزاب الأتاتوركية إلى الحكم على تديّن الشعب وقيمه وحريّاته بل واستقلال الدولة وقوتها، وصحيح أن حزب العدالة قد ساهم في تعزيز الوعي الشعبي حول خطورة حكم العسكر والاستبداد ومصادرة آراء الناس وحرياتهم، ولكن نتائج الانتخابات منذ 2014 حتى يومنا هذا تشير إلى تراجع مستمرّ يشي بأفول التجربة تدريجيّا وضرورة تغييرها، ذلك أنّها رهنتْ نفسَها لقواعد اللعبة دون محاولة تجاوزها أو تغييرها أو العمل الكثيف على محاور أخرى تكون هي الأساس في جذب الحاضنة الشعبية المتنامية، وقواعد اللعبة هذه مرتبطة بشكل أساسي بالوعود الانتخابية الدنيوية وتحقيقها باعتباره شرطًا في الاستمرار.

إنّ القاعدة الصلبة التي عاشت مرحلة القمع والاضطهاد والتخلف والتبعية لن تتزايد بشكل ذاتي، بل تحتاج إلى عملية توريث متنامية للأجيال الجديدة، وإلا فإنّ تجربة حزب العدالة وأردوغان ستكون أسيرة تجربة حزبية سياسية ترتبط فاعليّتها في تحقيق ما حقّقته بوجودها السياسي في البرلمان ومؤسسة الرئاسة، فإذا ما خرجت من هذه اللعبة أو صارت في دكّة المعارضة باتت جميع المنجزات الضخمة المهمّة التي تحققت على مدى أكثر من 20 عاما على كفّ عفريت!

الوعي الهش والوعي المؤسَّس على الدين

ومهما جادل الواثقون من عدم التراجع بأنّ الوعي موجود عند الشعب في ضرورة المحافظة على هذه المنجزات سواء مع حزب العدالة وأردوغان أو من دونه، وأنّه لا مجال للعودة إلى القمع ومحاربة الدين والانبطاح للدول الكبرى وإيقاف مسيرة الصناعة التي هي قاطرة التقدّم وبناء القوة.. مهما جادلوا حول ذلك فإنّ الوعيَ الذي يتحدّثون عنه هو وعيٌ هشّ غير مبني على أسس سليمة من البداية.

إنّ ما ينجح في دول غربية تعيش في وسط منسجم معها في الدين والحضارة لا ينجح في دولة غالبية سكّانها مسلمون، ما زالوا يحارَبون ويراد لهم الضعف والتخلف وعدم امتلاك القوة لمجرّد أنّهم مسلمون.

وفي هذه الحالة فإنّ الوعي الوحيد القادر على حفظ المنجز المادي الذي يحقق مصالح المسلمين ويحفظ بيضتهم هو الوعي المؤسَّس على الدين بكامل شحنته وجميع مستوياته: الإيمانية والتربوية والتشريعية والأخلاقية وغيرها.

ولا يمكن لهذا الوعي القوي أن يتأسس على سياقات ومفاهيم علمانية تؤول في النهاية إلى تآكل هذا الوعي وتحوّله إلى ما يشبه أمراض المناعة الذاتية التي يهاجم فيها الجسم نفسه، وأعني هنا بشكل أساسي:

تأسيس الحاضنة على المنجزات الدنيوية.

وتغذية المشاعر القومية بعد الإقرار بها.

فرغم وجود عناصر الجذب الأخرى وتحديدا عنصر الجذب الإسلامي المؤسس على الهوية الإسلامية والمشاعر الدينية، فإنّ هذين العنصرين أعلاه (الدنيوية والقومية) يشكّلان عوامل هدم لأي مشروع ناجح يقام في أحضان شعب مسلم، ذلك أنّ البناء الحضاري القوي للشعب المسلم، الذي يحفظ له كرامته وعزّته ويحقق غاياته وآفاقه، أوسع من أفق الهوية القومية الضيّقة التي ستعيق هذا البناء بما تتسبب به من معارك داخلية واحتقان يرفض الانفتاح واندماج العناصر الجديدة المفيدة ويمارس جَوره على الفئات العرقية الأخرى.

أسس قيام الحاضنة الشعبية: الوعي الإيماني والفهم الشرعي والتربية الإيمانية الراسخة

كما أنّ التقوقع على تحقيق المصالح الدنيوية يبني شخصيات هشّة تلهث وراء الدنيا ولا تحتمل أي تبعات قد تحدث جرّاء تنامي المشروع السياسي والحضاري وتزايد قوّته واستقلاله ورغبة القوى الغربية في الحدّ منه أو إسقاطه. فالذي يدعمك ويقف خلفك لأغراض دنيوية لن يستمرّ معك حين يسبب وجودك ومشروعك ضيقا في المعيشة ونقصا في الأموال والثمرات.

أما الذي تأسس على وعي إيماني وفهم شرعي وتربية إيمانية راسخة وإدراك لسعة أفقه الحضاري وحقيقة الحياة الدنيا وطبيعة الابتلاء ومواقف المعسكرات المختلفة من الأمة المسلمة ورسالة الأمّة الإسلامية في العالم، فسيكون أكثر تمسّكا بمشروعك ولن ينفضّ من حولك بسهولة حين يحدث ما كان يتوقّعه وما يدرك أنّه جزء من مسيرته في هذه الحياة، وأنّه أمر لا بدّ منه كي يتحقق التمكين لهذه الأمة، الذي يتحقّق معه الأمن والكرامة والعزّة والبركة.

الخطوات المهمة للحفاظ على منجزات “العدالة” ومنجزات “التنمية” على حدّ سواء

لست مستاء من وجود حزب العدالة والتنمية في السلطة، بل على العكس أنا قلق على مصير هذه التجربة ومآلها، فجميعنا فرح بالمنجزات المتعلّقة بمساحات الحرّية الدينية وتعزيز الروابط مع العالم العربي والإسلامي والسماح بنموّ الشعور الديني في تركيا والنهوض بالصناعة لبناء قوة الدولة والخروج شيئا فشيئا من التبعية للغرب، ولكنّ هذا المنجز الرائع لا يمكنه الاستمرار من غير الجرأة على تبني خطاب لا يتمركز على المنجَزات الدنيوية لجذب الحاضنة الشعبية، ويعمل بذكاء على توهين العصبية القومية المنافية للولاء الإسلامي، ويبذل جهودًا أكبر في خطوط أخرى موازية للعمل السياسي لبناء الحاضنة الشعبية لمشروع إسلامي شامل، فالخطّ السياسي وحده أوهى من أن يحمل مشروعًا كبيرا بهذه الآفاق.

ولن يعدم قيادات حزب العدالة والتنمية أو غيرهم ممن سيرثهم يومًا ما الذكاء والقدرات لاتخاذ هذه الخطوات المهمة، فهي مهمّة للحفاظ على منجزات “العدالة” ومنجزات “التنمية” على حدّ سواء، وفوق كل ذلك هي دور كل مسلم في هذه الحياة، وخصوصا من يأخذون دور قيادة الأمة إلى ما يسعدها ويحقق استخلافها وأمنها وكرامتها.

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور: 55).

المصدر

صفحة الأستاذ شريف محمد جابر.

اقرأ أيضا

الانتخابات التركية بين أردوغان وضياع تركيا

علماء الأمة يدعون إلى انتخاب أردوغان

خذلان قضايا المسلمين .. وسياق النفاق

المنافقون والقضاء على الدولة الإسلامية

 

التعليقات غير متاحة