استطاع هيرتزل وبمعونة الصهاينة البروتستانت أن يُسوِّق مشروعه باللجوء إلى بعض أساطير العهد القديم وتفسيرها بأنها تعطي لليهود حقا تاريخياً في أرض فلسطين، وشيئاً فشيئاً تحولت عقيدة الأكثرين من اليهود إلى حتمية إقامة دولة لهم في فلسطين وصاروا ينظرون إلى ذلك على أنه واجب ديني لا بد من الانصياع له.

الوجه الحقيقي للصراع مع اليهود

ينكر علينا كثير من مدعي العقلانية والواقعية أشد النكير حين نتكلم عن صراعنا مع اليهود باعتباره صراعاً دينياً عقدياً ، أو حين نصف ما يقوم به أبطال الأرض المباركة بأنه جهاد في سبيل الله . ويقول بعضهم إنه يجب التفرقة بين اليهودية كديانة وبين الصهيونية كحركة سياسية عنصرية ، وأن اليهود ليسوا جميعاً صهاينة ، وأن منهم من ينتقد سياسات قادة إسرائيل ..

ونحن لا ننكر أن هناك يهوداً ليسوا صهاينة، وأن منهم من لا يوافق على سياسات قادة العدو ، بل إن منهم من لا يوافق على قيام دولة إسرائيل أصلاً.

لكن ذلك كله لا يجوز أن يُنسيَنا حقيقةً مهمةً لا يمكن إنكارها، وهي أن قيام دولة إسرائيل مبنيٌ على ما يرونه هم حقائق دينية توراتية، بحسب ما صرح به آباؤها المؤسسون ولا يزال يردده قادتها حتى الآن.

مراحل تطور فكرة إقامة وطن قومي لليهود

صحيح أن فكرة إقامة وطن قومي لهم في فلسطين لم تكن في بداية أمرها مبنية على أساس عقدي؛ فقد كانت العقيدة اليهودية حتى القرن التاسع عشر كما يذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله في “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”، تُحرَّم عليهم العودة إلى ما يسمونه (أرض الميعاد) قبل قدوم مسيحهم المنتظر ، ولذا فإن تيودور هيرتزل- الذي ترأس المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897- لم يستطع أن يعقد ذلك المؤتمر في مدينة مينشن (ميونيخ) الألمانية، كما كان مقرراً له، وذلك نظراً للمعارضة الشديدة لذلك المؤتمر التي أبداها التجمع اليهودي والحاخامية اليهودية في تلك المدينة، فاضطر إلى عقده في مدينة بازل بسويسرا.

لكن هيرتزل استطاع بعد ذلك بعد ذلك – وبمعونة الصهاينة البروتستانت كما سيأتي – أن يُسوِّق مشروعه باللجوء إلى بعض أساطير العهد القديم وتفسيرها بأنها تعطي لليهود حقا تاريخياً في أرض فلسطين ، وشيئاً فشيئاً تحولت عقيدة الأكثرين من اليهود إلى حتمية إقامة دولة لهم في فلسطين وصاروا ينظرون إلى ذلك على أنه واجب ديني لا بد من الانصياع له.

الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية

يذكر روجيه جارودي في كتابه المسمى بالأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية – والذي بسببه حاكمته فرنسا – أن الأيديولوجية الصهيونية تقوم على موضوعية بسيطة جداً، وهي ما جاء في سفر التكوين من أن الرب قد عقد مع إبرام (إبراهيم) عهداً قائلاً له: (لِنَسْلِك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات)  ، وقد صار القادة الصهاينة –مهما كانت درجة تدينهم – يعلنون – استناداً إلى ذلك الوعد المزعوم- أن تلك البقعة هي أرض أعطاها الله لهم .

فها هي جولدا مائير تقول بحسب ما نقله جارودي في كتابه المشار إليه : (إن هذا البلد موجود كإتمام أو إنجاز لوعد وعده الله نفسُه ، ومن المضحك أن نطلب منه حسابات أو شروحاً لشرعية هذا الوعد) ، وأما موشي ديان فيقول: (إذا كنا نملك التوراة وكنا نعتبر أنفسنا كشعب التوراة، فإنه يجب أيضاً أن نملك الأرض التوراتية: أرض القضاة والشيوخ والقدس والجليل وأريحا، وأمكنة أخرى أيضاً).

ومِن قبلهما قال بن جوريون قولته المشهورة التي كان يرددها من بعده مناحم بيجن: (لا قيمة لإسرائيل بدون القدس ، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل) .

ومهما كان هناك يهود يعادون الصهيونية، فإن ذلك لا يغير شيئاً من حقيقة أن قيام تلك الدولة واستمرارها، مبني على تلك العقيدة الدينية الباطلة التي أشرنا إليها .

البُعد الأصولي المسيحي وتأسيس الصهيونية المسيحية

كما أننا لا يمكننا استبعاد البُعد الأصولي المسيحي في هذه المسألة، وهو الخاص بالأصوليين البروتستانت، ممن اصطلح على تسميتهم بالصهيونيين المسيحيين ، الذين يعتقدون بحتمية وقوع معركة (هرمجدون) في وادي مجيدو بفلسطين ، وأنه ببداية هذه المعركة فإن المسيح سيرفع المسيحيين المخلصين إلى السحاب ، حتى لا يضاروا من تلك الحرب . فإذا انتهت الحرب المدمرة عاد بهم إلى مقر مملكته بالقدس ليَقتلَ ثلثي اليهود ، ويدخل الثلث الباقي في المسيحية ، ولكن لا بد قبل موقعة (هرمجدون) من تجمع اليهود في فلسطين وإقامة دولتهم الكبرى بها ، وبناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى .

ولعل هذا ما يفسر نشأة الصهيونية المسيحية – أو ما يُفضَّل الدكتور المسيري تسميته بالصهيونية ذات الديباجة المسيحية- قبل الصهيونية اليهودية ، فقد كانت العقيدة اليهودية كما أسلفنا تحرم العودة إلى فلسطين قبل قدوم مسيحهم الموعود ، لكن الصهاينة البروتستانت هم الذين دفعوا ببعض الشخصيات اليهودية إلى العمل من أجل إقامة دولةٍ لهم في فلسطين ، بهدف الإسراع في عودة المسيح حسب اعتقادهم . ولذا فإن المؤتمر الصهيوني الأول الذي سبقت الإشارة إليه ، لم يشارك فيه أحد من الحاخامات (رجال الدين اليهود)، بينما خطب فيه القس البروتستانتي “وليام هشلر” ، مطالباً اليهود بالاستجابة لدعوة الرب -بزعمه- للعودة إلى وطنهم في الأرض المقدسة .

وقد صار معروفاً الآن أن ما يُقدر بتسعين مليوناً أو أكثر في أمريكا يعتقدون بتلك العقيدة الصهيونية المسيحية ، وأن كثيراً من الساسة الغربيين وبخاصة من الأمريكان يعتقدون بتلك العقيدة في وجوب مساعدة اليهود من أجل التعجيل بهرمجدون ومن ثم عودة المسيح ، منهم ريجان وبوش الأب وبوش الابن وترامب وغيرهم .

القضية الفلسطينية عربية إسلامية

إنَّ على من يتحدثون اليوم عن القضية باعتبارها قضية فلسطينية تخص أهل فلسطين وحدهم، أو على الأكثر باعتبارها قضية الأمة العربية ، عليهم أن يدركوا أن ذلك لا يعني بحال خلع رداء الإسلام عنها ، فهي قضية فلسطينية عربية إسلامية . وأن يتذكروا أن عمر بن الخطاب حينما فتح القدس سنة 15هـ إنما فتحها لتكون جزءاً عزيزاً من أمة الإسلام تلي في مكانتها وقدسيتها مكة والمدينة ، وكذلك حينما حُررت من الاحتلال الصليبي سنة 583هـ إنما حررها قائد مسلم لم يكن عربياً ، بل كان كردياً وهو صلاح الدين الأيوبي .

كما أن علينا أن ندرك أيضاً بأن حديثنا هذا لا يعني هضْمَ غيرِ المسلمين حقوقهم في فلسطين أو غيرها ، ففي ظل الحكم الإسلامي لم يُمنع النصارى من ممارسة ما يعتقدونه من العبادات ، حتى إن صلاح الدين حين حرر القدس من الصليبيين عزَم على هدم كنيسة القمامة -المسماة الآن بكنيسة القيامة – وذلك رداً على ما كان الصليبيون قد فعلوه من تدنيس المسجد الأقصى وتنجيسه ، ولكن قيل له كما يذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: (قد فتَحَ هذه البلدة قبلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وترك هذه الكنيسة بأيديهم، ولك في ذلك أسوة حسنة ، فأعرض عنها وتركها على حالها اقتداءً بعمر رضي الله عنه)1(1) البداية والنهاية ( 12/ 348) ..

ولنتذكر أن القدس إنما ضاعت في العصر الحديث يوم دخلنا الحرب في سنة 1967 م ونحن بعيدون عن شرع الله، ولم يفكر قادتنا يومها في أن يكون قتالهم جهاداً في سبيل الله . ولنتذكر أنه حينما وقعت القدس تحت الاحتلال الصليبي ، فإن المسلمين في ذلك الزمان قد فهموا حقيقة المعركة وأنها معركة دينية بين الإسلام ، وأولئك الذين جاؤوا متسربلين برداء المسيح، والمسيح منهم براء، فجاهدوا باسم الإسلام فنصرهم الله.

طوفان الأقصى جهاد في سبيل الله

وكذلك يجب أن يكون حالنا اليوم: فإذا كان القوم يواجهوننا بمنطقٍ ديني توراتي تلمودي، فلا يمكننا مواجهتهم إلا بمنطق إيماني قرآني . ورحم الله الشيخ محمد الغزالي إذ يقول في شأن أناس من بني جلدتنا يريدون استبعاد الإسلام من المواجهة مع اليهود، بل يستبعدون كل أثارة للإسلام في ميدان التربية أو الثقافة، يقول: (ويستحيل وصفُ أحد من هؤلاء بأنه إنسان سوي رشيد؛ لأنه لو كان ذا نزعة قومية مجردة لعلم أن بني إسرائيل تسلَّحوا بعقيدةٍ مهاجمة، وسياسة جعلت الدين يغتصب الأرض والعِرْض، فكيف يُقبل الدين مهاجِماً وترتضى سياسته وتحترم سطوته؟ ويُرفض الدين مدافعاً ويعتبر إشراكه في التربية والتقوية سياسةً رجعيةً مرفوضةً ؟)2(2) [مائة سؤال عن الإسلام (1/ 108)]. .

يقول الله عز وجل: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج:8] ، ويقول: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) [المائدة:59]، ويقول: (وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ۚ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) [الأعراف:126].

الهوامش

(1) البداية والنهاية ( 12/ 348) .

(2) [مائة سؤال عن الإسلام (1/ 108)].

المصدر

صفحة الدكتور عبد الآخر حماد على منصة الفيس بوك.

اقرأ أيضا

الجهاد في فلسطين واجب على المسلمين

الجهاد مستمر في فلسطين

الاضطراب العقدي والسياسي .. وضياع الطريق إلى القدس

من نحن؟ وما لنا وللأقصى والقدس؟

وجوب الجهاد لتحرير الأقصى وفلسطين

التعليقات غير متاحة