اقتضت حكمة الله أن تمضي سنته بالابتلاء، لا لهوان المؤمنين عليه؛ بل لخير يحققه في نفوسهم ومن خلالهم، وإقامةً لحجته، وما يلاقيه المؤمنون اليوم لاقَى السابقون منه أنواعا وأصنافا.

وعد الله وتصديق الواقع

هذه السنة من موجبات المدافعة، وهي من أعظم السنن وأشهرها، وأشدها اطرادًا وثباتًا.

شهد لذلك كلام الله عز وجل في كتابه الكريم، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، كما يشهد لذلك واقع المؤمنين الموحدين في تاريخهم الطويل وما تعرضوا له من الإيذاء والابتلاءات الشديدة، فصبروا وثبتوا حتى أتاهم نصر الله عز وجل، وجعل العاقبة والتمكين لهم في الأرض.

الآيات الدالة على سنة الابتلاء والعاقبة

أولا: آيات من سورة الأنعام

ومن الآيات المتضمنة لهذه السنة في سورة الأنعام:

قوله تعالى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ (الأنعام: 10).

وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأنعام: 34).

وقوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا ۗ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ (الأنعام: 53).

ثانيا: آيات من سائر الكتاب العزيز

وقد نبهَنا الله عز وجل إلى هذه السنة العظيمة في آيات كثيرة من كتابه العزيز، ومن ذلك:

قوله سبحانه: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت: 1-3).

وقوله تعالى في أعقاب غزوة أحد: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 141-142).

وقوله سبحانه: ﴿مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (آل عمران: 179).

وقــولــه تعـــالـــى: ﴿لتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ (آل عمران: 186).

وقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214).

وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «وإنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك»(1).

في هذه الآيات الكريمة ينبه الرب سبحانه وتعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأتباعه من بعده على هذه السنة التي لا تتبدل ولا تتخلف “ولا مبدل لكلماته”، وهي تعزية وتسلية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولكل من ابتُلي في طريق الدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى.

ما تقرره سُنة الابتلاء

وتتضمن هذه السنة تقريرين:

(الأول): أنه لابد من الابتلاء والأذى لكل من ادعى الإيمان، وانضم إلى سلك الداعين إلى سبيل الله عز وجل ، وأن القدوة في ذلك ما أصاب الأنبياء المصلحين من قبل.

(الثاني): أن العاقبة والنصر والتمكين بعد هذه الابتلاءات لعباد الله عز وجل وأوليائه، الذين ثبتوا أمام هذه الابتلاءات وصبروا.

ومن النتائج المترتبة على سنة الابتلاء لاحقًا “سُنة التمحيص”، ثم “سُنة التمكين”؛ حيث اقتضت حكمة الله تعالى أن “يَبتلي” عباده المؤمنين، وذلك ليمحصهم ويهذبهم، حتى إذا اجتازوا هذه المحن بصبر وثبات ولجوء إلى الله وحده جاءت “سُنة التمكين”، أي: أن التمكين والنصر للحق وأهله لا بد أن يسبقه “الابتلاء” ثم “التمحيص”.

وحدة لا تتجزأ

يقول سيد قطب:

“كلمات يقولها الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم.. كلمات للذكرى، وللتسرية وللمواساة، والتأسية.. وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقهم واضحًا، ودورهم محددًا، كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته، ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق..

إنها تعلمهم أن سنة الله في الدعوات واحدة، كما أنها كذلك وحدة واحدة لا تتجزأ..

دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب، وتتلقى أصحابها بالأذى.. وصبر من الدعاة على التكذيب، وصبر كذلك على الأذى.. وسُنة تجري بالنصر في النهاية.

ولكنها تجيء في موعدها، لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب، ولا أن المجرمين الضالين والمضلين يقْدرون على أذى المخلصين الأبرياء الطيبين!

ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته ومن شهواته إنما يرغب في هداية قومه حبًّا في هدايتهم، ويأسى على ما هم فيه من ضلال وشقوة، وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والآخرة..

لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله، فإن الله لا يعْجل لعجلة أحد من خلقه، ولا مبدل لكلماته، سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم، أم تعلقت بالأجل المرسوم، إنه الجد الصارم، والحسم الجازم، إلى جانب التطمين والتسرية والمواساة والتسلية..”. (2)

من صور الأذى والابتلاء

صور الأذى والابتلاء التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم، والتي تعرض لها أنبياؤه وأولياؤه كثيرة منها:

أولًا: الأذى بالسخرية والاستهزاء والاتهام بالجنون والسحر.

هذا الأسلوب الرخيص من الأذى والسخرية يتكرر في كل زمان يتواجه فيه الحق والباطل؛ حيث نجد سخرية الطواغيت وأتباعهم من أهل الحق وأتباع الأنبياء فيرمونهم بسفاهة العقل، وسذاجة التفكير، وسطحية الرؤية… إلخ هذه التهم التي يقذفونهم بها زورًا وبهتانًا، ويملؤون بها وسائل إعلامهم المختلفة؛ ليشوهوهم عند الناس وينفروهم منهم.

ثانيًا: اتهام الأنبياء عليه الصلاة والسلام وأتباعهم بأنهم طلاب دنيا وملك

وأنهم ليسوا مخلصين فيما ينادون به، وهذا الأسلوب الاستهلاكي الرخيص هو نفسه الذي يُتبع من أعداء الحق في كل زمان ومكان؛ فكم سمعنا وقرأنا عن مثل هذه التهم الباطلة التي يروجها زنادقة العصر بوسائلهم الإعلامية المختلفة من أن الدعاة إلى الله عز وجل والمنادين بتحكيم شرعه يستترون بالدين لمآرب يخْفونها، أو أنهم طلاب حكم وسلطة فحسب!

وكم تردد في وسائل الإعلام الظالمة في أكثر بلدان المسلمين مثل هذه الافتراءات، وهذه تهويشات يراد منها التشويه وإثارة دهماء الناس على أهل الخير ودعاة الحق، وهي بعينها تلك التي قالها الجاهليون الأولون لأنبيائهم من قبل.

ثالثًا: اتهام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالفساد والإفساد وإثارة الفتن

“وهذا التعليل الفرعوني هو الذي يلجأ إليه الظالمون في محاربة الحق وأهله؛ يقدم الظالم نفسه للناس على أنه: المؤمن المتدين، الحريص على الإيمان، الحريص على الفضائل، الغيور على الأخلاق، الراغب في التعمير والتقدم والأمن والازدهار..

بينما يقدم هذا الطاغية الدعاة إلى الله على أنهم: مفسدون مخربون، ضالون مضلون، أعداء الله والأمة والوطن، وحلفاء الشيطان ورءوس الفتنة، ودعاة الضلال، ولهذا يجب القضاء عليهم قبل تحقيق أهدافهم الشيطانية”. (3)

رابعًا: اعتماد أساليب الضغط الخسيسة على الدعاة في أهليهم وأولاده

وهذا من أخسّ أساليب الجاهلية في أذى الدعاة والصد عن سبيل الله، ومع خستها ومخالفتها لكل دين وعرف ومروءة وإنسانية؛ إلا أنَّا نجدها اليوم تجري على أيدي الطواغيت وأتباعهم الممسوخين.

فكم سمعنا عن ممارسات هابطة يُضغط بها على الداعية في أولاده أو زوجته أو بناته أو غيرهم من الأبرياء.

خامسًا: التضييق على الأنبياء وأتباعهم في الرزق

وانتهاج سياسة التجويع والحصار الاقتصادي. وهو ما فعلته قريش في حصار الشِعب، وهو ما يعتمده أعداء هذا الدين كل فترة وكأنهم تواصوا به قبل رحيل كل جيل ظالِم..!

وهم يظنون أنه يمكن كسر المؤمن صاحب العقيدة ومن ذاق طعم الإيمان، أنه يمكن كسره من خلال جوع بطنه.

كما يظنون أنهم يمتلكون أبواب الرزق ونسوا أن عقيدة المؤمن ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ (النحل: الاية 73)، و ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ (العنكبوت: الاية 17)

وهو منهج المنافقين كل حين ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾ (المنافقون: الآية 7)

سادسًا: القتل والسجن والإخراج من الأرض

وهذا هو آخر ما في جعبة الباطل، وأقصى ما يملكونه من إيذاء أنبياء الله عز وجل وأوليائه، وذلك حين تُعْوِزُهم الحجة وتبطل كل وسائلهم السابقة في إسكاتهم أو إضعاف عزائمهم؛ عندئذ يلجؤون إلى التصفية الجسدية، أو تغييبهم في السجون، أو إخراجهم من ديارهم وأبنائهم.

وهذا كله عاناه أنبياء الله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146).

هل نبحث عن الابتلاء..؟

لا يعني ما سبق من بيان شأن هذه السنة أن يبحث الداعية عن الأذى والابتلاء؛ كلا، فالمطلوب سؤال الله العافية وعدم تمني البلاء.

كما لا يُفهم منه أيضًا الدعوة إلى التهوّر والطيش؛ معاذ الله، فلا بد من المنطلقات الشرعية في كل التصرفات.

لكن المراد أن لا نغفل عن سنة الله تعالى في ابتلاء المؤمنين، وأن توطّن النفس على هذه الأمور؛ لأنه لا بد منها لكل مَن ادّعى الإيمان، وتصدّر الدعوة والجهاد، ولا بد منها لتمييز الخبيث من الطيب، ولا بد منها لتمحيص القلوب والصفوف.

حكمة وحمد

تمضي سُنّة الله تعالى بالابتلاء، لتمر بنفوس المنتسبين الى هذا الدين فتميز الصادق من الكاذب، وتمر بنفوس المؤمنين فتمحّصهم مما علق بها من شوائب ويطهرهم ربهم بها.

وتمرّ هذه السُنّة بمجتمعات يقيم تعالى عليهم حجته، ويستجيب من فيه بقية من خير، ويستأهل أعداؤه الأخذ الشديد، وتبطُل معاذيرهم أمامه يوم لقائه.

وتمر هذه السنة بأجيال فيبقى أثر الدعوة وتبلغ حجة الله .. ويحتج تعالى بمن استجاب ـ مع كل ظروفه وملابساته ـ على من لم يستجب لربه فتدحض أيضا حجته.

في سُنة الله تعالى التي يُجريها الحكيم الخبير، تتحقق حكمته، وتظهر آثارها.. فيحمد الجميع ربه يوم القيامة ﴿وقيل الحمد لله رب العالمين﴾ (الزمر: الآية 75).

……………………………

الهوامش:

  1. صحيح مسلم (2865).
  2. «في ظلال القرآن» (3/1077-1078).
  3. «مع قصص السابقين» (ص104-105) باختصار وتصرف يسير.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة