إن الحياد خصلة من أقبح الخصال ولا يلتجئ إليها إلا ضعفاء القلوب وفاتروا العزائم بل لا يلتجئ إليها إلا من لا إيمان في قلوبهم ولا حجة على ألسنتهم.

القوم أربعة

قوم عرفوا الحق فأظهروه وهم المؤمنون المتقون الذين يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه.

وقوم عرفوا الحق فأنكروه وهم الجاحدون العاطلون والأعداء الذين لا يرضى عنهم الله ولا يفرحون.

وقوم ما عرفوا الحق فأنكروه ولا عرفوا الباطل فأيدوه فهؤلاء قوم جاهلون وناس غافلون تقودهم الأيدي وتسخرهم العقول مرة لخير وأخرى لشر. وتارة لمعروف وطورا لمنكر وهم قوة الحق إذا ظهرت رجاله؛ وحماة الباطل إذا حضرت أبطاله.

وقوم عرفوا الحق وعرفوا الباطل وعرفوا مصدر كل واحد منهما وأدركوا عاقبة المحق وعاقبة المبطل فكان مما أدركوه أن عاقبة الأول الثواب وعاقبة الآخر العقاب! وإن مما كتب الله للمحقين الفوز والانتصار ومما كتبه للمبطلين الخيبة والاندحار.

هذا هو علمهم بالوجهين – وجه الحق ووجه الباطل – ومنتهى الإدراك منهم لعقبى الطائفتين – طائفة المحقين وطائفة المبطلين – فهل كانوا للحق فأيدوه. وعلى الباطل فخذلوه؟ .. لا … إذن كانوا للباطل على الحق … لا … وكيف كانوا؟ كانوا على حال لا يرضاها عقل ولا يقرها شرع وهي ما أسموه (البقاء على الحياد).

فما معنى البقاء على الحياد؟

معناه أن لا تمد يدك للحق فتنفعه، ولا تسلطها على الباطل فترفعه وإن شئت قلت هو خذلان للحق ورضى بالباطل!

أو قل هو السكوت المطلق والكف الشامل عن قول وفعل الخير والشر.

من أسباب (البقاء على الحياد)

ضعف نفس صاحبه وقلة ثقته بالله.

ومنها تذبذبه ونفاقه وعدم ثباته على حال، وإن الذي لا يستقر قراره … على حالة لا يستقل بئات.

ومن أسبابه مهاواة الناس ومجاراتهم (في عوائدهم وديانتهم وأفراحهم وأتراحهم واحتفالاتهم ومآتمهم) خوفا من ذهاب دنيا فانية أو جاه كاذب أو طمعا في إقبالهما من جهة ذهابهما التي هي غضب (سيدي الشيخ) وفقراء الشيخ وزيد وعمرو وخالد وبكر، فلا يعاملون من لا يهاويهم ولا يسكت عن مناكرهم ولا يدعونه لولائمهم ومآتمهم ولا يصدرون به مجلسا ولا يعرفون له قيمة ولا خاطرا وهذا شيء يهم بعض الأعيان أكثر وبعض العلماء أكثر ولأجله فضلوا الحياد.

وما دخل هذا الخوف على هذا البعض من العلماء والأعيان المحايدين إلا من طريق الوهم والخيال وقلة الثقة بالله ثم بأنفسهم! وإلا فقد عرفنا كثيرا من الناس قاموا بالحق دفاعا عنه وتأييدا له ولم يبالوا بغضب زيد ولا برضى عمرو وما زادهم ذلك إلا إكبارا في النفوس وإعظاما في القلوب، وتصدعت بقوة قلوبهم قلوب الجاحدين، وذلت لعزة نفوسهم نفوس المبطلين، وما أعزت مبطلا كثرته ولا أغنت عن جاحد آلهته …

ورأينا من المحايدين أكثر من أن نحصي كيف أصبحوا بعد انتصار الحق – ولا بد من انتصاره – لا يقام لهم وزن ولا يعرف لهم شأن ولا يعتبرون إلا كصخور على ضفتي واد تشينه ولا تزينه فلما سالت الأباطح والشعاب وغمرت الوادي المياه جرفتها فيما جرفت فذهبت إلى حيث لا يشهدها عيان ولا يذكرها لسان ولا يتأسف عليها إنسان … ونبت في مكانها من الضفتين العشب والأشجار ذات الأزهار والثمار فتمتع الناس بريحها بالليل وتفيء ظلها بالنهار.

ذلك مثل القوم المحايدين الذين لا ينفعون ولا ينتفعون ومثل القوم العاملين الذين يفيدون ويستفيدون …

نتائج الحياد ولوازمه

تلك هي الأسباب الطبيعية (للبقاء على الحياد) وتلك هي صفات المحايدين فما هي نتائجه ولوازمه؟

فأولى نتائجه تكثير سواد المبطلين عن غير شعور من صاحبه، لأن المبطل يعتبر أن كل من لم يعارضه فهو مؤيد له وناصر! وأول كلمة يواجه بها المحق: (أنت وحدك ومن دون هؤلاء تعارضني وتسمي ما أقول وما أعمل باطلا!) ولذلك كان اشتباه العلماء الذين يقرون البدع والمنكرات بسكوتهم عنها وعن صاحبها حجة عند العامة العمياء والمبطلين الأدنياء.

ومن لوازم (البقاء على الحياد) كتمان العلم والغش لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فمن علم الحق ولم يعلمه فقد كتمه، ومن رآه في حاجة إلى النصير ولم ينصره فقد خذله ومن علم الباطل ولم يكشفه للناس فقد غش ولم ينصح، ومن رأى الباطل شوكة ولم يكسرها أو يعمل على كسرها فقد أبقى عليه وشد أزره.

ومن لوازمه مخالفة أمر الله ورسوله فمن أوامر الله أن تكون فينا أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وهذه الأمة لا تحد بحد ولا تحصر بعد وكما تصدق على الجماعة تصدق على الفرد، فلماذا تخرج نفسك منها أيها المحايد ولا تكون ذلك الفرد؟

ومن أوامر الله أن نستبق الخيرات بتخيير الوجهات وأي وجهة خير كالانتصار للحق؟ فلماذا لا تسبق غيرك فيها أيها المحايد؟

ومن أوامره تعالى أن نتعظ بواحدة: أن نقوم لله مثنى وفرادى ثم نتفكر فيما أوحى الله به لرسوله وننصح لأنفسنا بالاعتراف بالحق والإنابة إليه وبالانتصار لدين الله وتأييده، فما قيمتك في الدنيا وما حظك في الآخرة أيها المحايد إذا لم تتعظ بواحدة لله: أن تقوم له مع القائمين وتؤيد دينه مع المؤيدين؟ وإذا كنت أيها المحايد تؤمن بقول الله: (يُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) وقوله: (إِنَ الْبَاطِلَ كَانَ زَهوقًا) فما معنى بقائك على الحياد وعدم إعلانك الحرب على الباطل؟ لا يكون لحالك هذه معنى إلا أن تكون تخاف أن يخلف الله وعده ويخذل جنده، وحاشا لله!

وإذا كنت تعلم أنه ليس من المسلمين من لا يهتم لشؤونهم وأنهم يد على من سواهم فبماذا تسمي حيادك؟ أبعدم الاهتمام بشؤونهم أم بأن يدك ليست يدهم؟؟

إن الحياد خصلة من أقبح الخصال ولا يلتجئ إليها إلا ضعفاء القلوب وفاتروا العزائم بل لا يلتجئ إليها إلا من لا إيمان في قلوبهم ولا حجة على ألسنتهم.

فحذار أيها المسلم الصادق أن تعرف الحق ولا تنصره وتعرف الباطل ولا تنكره وحذار أن تكون من غواة (البقاء على الحياد) فإنه خذلان للحق ورضى بالباطل، والله يغفر لمن يشاء ويهدي إليه من ينيب.

المصدر

جريدة الشريعة النبوية المحمدية العدد: الثالث، الشيخ مصطفى بن حلوش العضو بالجمعية.

اقرأ أيضا

ما اشترك فيه العلماء العاملون

الأمة تفتقدكم .. فأين أنتم يا معشر العلماء

العلماء ومسؤولية البلاغ

الأمة تفتقدكم .. فأين أنتم يا معشر العلماء

وظيفة العلماء في تثبيت الأمراء .. نموذج تاريخي

التعليقات غير متاحة