ما بين بروز ووضوح معنى “الاستسلام” لله تعالى، ومعنى التصديق واليقين والخشية والضراعة، والطمأنينة لرب العالمين، ومعنى الإحسان والمراقبة؛ تتعدد أفعال وعبوديات حجاج بيت الله.

مقدمة

الحج شعيرة عظيمة من شعائر الله عز وجل. وفي الحج تتجلى مراتب الدين كلها في أبهى صورها وأحسنها، ففيه تتجلى مظاهر “الإسلام” و”الإيمان”، وتظهر فيه حقيقة “الإحسان” التي هي أعلى مرتبة في الدين.

عظمة الحج

إن الحج إيمان وإسلام وإحسان، ونحن إذ نقترب من تلك الأيام المباركة والفضيلة الجليلة نذكّر أنفسنا بجماع هذه الأمور العظيمة، وجماعها الدين كله، كما ورد بذلك حديث جبريل المشهور الذي سأل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، فأجابه ثم قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» (1رواه مسلم)

قال عز وجل: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة:196]، إنها كلمات موجزة من كلام الحق جل وعلا، فهذه شطر آية تشتمل على المعاني العظيمة إيماناً وإسلاماً وإحساناً، فقوله سبحانه: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ﴾ [البقرة:196] أي أنه ليس مجرد أداء، بل هو إتمام وإتقان وإتيان بأركانٍ وواجبات وسنن، مع حضور القلب وتحرك المشاعر وبذل المال وجهد البدن وانتقال من حال إلى حال، كل ذلك ضرب أو صورة مجتمعة تؤدي معنىً من معاني الإتمام والإتقان المأمور به.

وفي الآية الأمر بالإخلاص في النسك، وإتقانه لله بكل شيء، بالمال لله، والجهد لله، والانتقال والتعب لله، والنية والقصد لله، والشعور والعاطفة لله، والدعاء والخضوع لله، والحركة والسكون لله، والدمعة والعبرة لله، كل ذلك لله.

تحقق التوحيد في أعمال الحج

يذكرنا بتحقيق هذا التوحيد كل عمل من أعمال الحج، فأنت في الحج تقصد بيت الله الواحد، وتطوف حول كعبته المعظمة التي تتوجه إليها، فأنت في الحج لا تدعو ولا تتضرع ولا تتوسل إلا لله الواحد، وأنت لا تنطق بلسانك إلا التوحيد، بل تَصْدع به وتجعله يتردد في أجواء الفضاء: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، فتأمل هذه التلبية وهي تؤكد نفي كل شريك.

وتؤكد التعلق التام بالله عز وجل توحيداً وإخلاصاً وقصداً وتجرداً، وذلك أمر تتواطأ فيه مشاعر القلب مع كلمات اللسان مع حركات الجوارح في جموع الطائفين والساعين بين الصفا والمروة، والواقفين على صعيد عرفات، والمفيضين إلى مزدلفة، والمقيمين بمِنى، والناحرين والذابحين لهَدْيهم، إذ كل حركاتهم تدل على هذا التوحيد، وتشير إلى هذا الإخلاص، وتُحيي في القلب المعاني الإيمانية العظيمة.

مظاهر الإيمان في الحج

إن أعظم مشاعر الإيمان في التذلل والاستعانة والاستغاثة بالله عز وجل تحيا وتعظم، وتظهر وتتجلى في القلب في مواقف الحج العظيمة كلها. والتوحيد والإخلاص يتكرر، فعندما ترقى الصفا أو ترقى المروة يأتيك حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يكبر متوجهاً نحو البيت ويقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» (2رواه مسلم) يجلّي هذا المعنى، ويرفع به صوته، ويكرره في ذِكره.

وجاء من حديث عائشة رضي الله عنها في يوم عرفات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير». (3رواه الترمذي وحسنه الألباني)

إنه التوحيد والإخلاص والإيمان، قولاً وحالاً وعملاً، ومظهراً فردياً، وصورة جماعية على مستوى الأمة، وذلك ما نراه ونشهده ونتذكره ونعتبر به من هذه الفريضة.

ومن دلائل الإيمان تعظيم الله عز وجل، وتعظيم قدْره، وتعظيم ما له سبحانه وتعالى من الأسماء الحسنى والصفات العلى.

ومن أعظم صور التعظيم الإيماني ما في هذه الفريضة العظيمة، ألستَ ترى التعظيم في هذا القصد والتوجه؟ فأنت تتوجه إلى مكان، ثم إذا بك محْرماً لا تأتي محظورات الإحرام ـ وإن كانت مباحة قبل إحرامك ـ تعظيماً لهذه الفريضة، وتعظيماً لله جل وعلا، ثم أنت على صورة من مراعاة الأدب ومراعاة الحرمة في بيت الله عز وجل وفي الأماكن المقدسة.

إنه تعظيم وأي تعظيم! حيث تعظّم به الله عز وجل الذي أمرك بهذا التعظيم، كما في قوله سبحانه: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:32]، وقوله سبحانه: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج:30]، ذلك التعظيم الذي نعظّم فيه الله عز وجل في هذه الفريضة هو من أجلى وأعظم مواقف الإيمان.

وجوب البراءة من الشرك والكفر والجاهلية

ومن تحقيق الإيمان البراءة من الشرك قولاً وعملاً، وهذا القول والعمل جسَّده لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بعث أبا بكر والناس إلى الحج في العام التاسع ليُبطلوا قبل حجة المصطفى صلى الله عليه وسلم كل مظاهر الكفر والشرك والجاهلية، وأمر أن ينادَى في هذه الحجة: «لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان». (4رواه مسلم)

وكان صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة قبل ذلك بعام قد حطّم الأصنام، وأزال رسومها، وأبطل كل صورها، وأنهى كل معالم الشرك والكفر، ثم جاء عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع وقد زالت كل تلك المعالم، وأكد بعد ذلك أن مقتضى التوحيد البراءة من الشرك والكفر والجاهلية، كما بيّن ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن دماء الجاهلية موضوعة تحت قدمَيْ، ألا وإن أول دم أضعه دمنا، دم ربيعة بن الحارث. ثم قال: ألا وإن كل ربا الجاهلية موضوع تحت قدمَي، وأول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، ألا وإن أمر الجاهلية موضوع». (5رواه مسلم).

إنه إبطال لكل صورة من صور الشرك والتعلق بغير الله، أو التعظيم لغير الله، أو المحبة لغير الله سبحانه وتعالى.

تجلي حقائق الإيمان في مشاعر الحج

وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في حجته إلى الناس يوم عرفة من يقول لهم: «كونوا على مشاعركم؛ فإنكم على إرث من إرث إبراهيم». (6رواه الترمذي وصححه الألباني)، وقد كان أهل قريش في الجاهلية يقفون بعرفة وحدهم في غير موقف الناس، ويفيضون في غير مفاض الناس، فأراد أن يبطل ذلك، وأبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنزلت به الآيات القرآنية، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ [البقرة:199]، ليعلن النبي صلى الله عليه وسلم حقائق الإيمان ومسلَّمات التوحيد ـ فضلاً عن ذلك الفعل ـ بالقول وبالمشاعر التي أشرنا إليها، والتضرع والمناجاة والخشوع والسكينة والتذلل من أجل صفات الإيمان، وهي منظورة ظاهرة في هذه الفريضة، بدءاً من الإهلال بالحج والتلبية بها، ومروراً بالدعاء الضارع الخاشع طوافاً وسعياً، وفي موقف عرفات، وفي ما كان عند الإفاضة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام دعا يوم عرفات حتى غربت الشمس، ودعا بعد فجر مزدلفة حتى أسفر النهار، ودعا بعد رمي الجمرة الأولى والثانية، وكان يدعو بقدر سورة البقرة، فكان يلازم الذكر والدعاء والتضرع ومعاني الخشية والخوف والرجاء والأمل في الله عز وجل، وهذه هي المعاني الإيمانية العظيمة التي تجدها متبسطةً متجليةً متزايدةً في هذه الفريضة، وفي هذه المواقف العظيمة.

فلِله ما أعظم هذه الفريضة التي تُحْيي الإيمان وتُقوّيه!

وتأمَّل هذا المشهد الوصفي في جزء من حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، قال جابر رضي الله عنه في وصف طواف النبي عليه الصلاة والسلام عند وصوله إلى مكة: «فبدأ بالحجر الأسود فاستلمه، وفاضت عيناه من البكاء». (7صحيح ابن خزيمة ، كتاب المناسك) صلى الله عليه وسلم، إنها مشاعر الإيمان المتدفقة، إنه ليس عمل بدَن وزحام وإرادة انتهاء من الفريضة أو من العمل والنسك، بل هو حضور القلوب، وإحياء معاني الإيمان، حتى إنه عليه الصلاة والسلام عند استلام الحجر فاضت عيناه، فكيف به وهو يطوف، وهو يدعو، وهو يقف في عرفات، وهو يمر عليه الصلاة والسلام بتلك الأماكن والعرَصات؟!

تجلّي حقيقة الإسلام في مناسك الحج

إن في الحج موسماً عظيماً للتقوى، كما قال عز وجل: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [البقرة:197]، فالحج هو نبع الإيمان، وهو كذلك صورة الإسلام الحقيقية. فالإسلام هو الاستسلام لله، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، بأن تخرج من هواك، وأن تخرج من راحتك، وأن تخرج من أمنياتك وشهواتك ورغباتك إلى أمْر الله عز وجل وطاعته، وإلى هدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُنته، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به». (8جامع العلوم والحكم، الصفحة أو الرقم 2/ 393)

موقفان جليلان للاستسلام

إن الإسلام استسلام لأمر الله، وإن كان فيه مشقة على البدن، أو فيه ثِقل على النفس، أو فيه مغايرة ومخالفة لما في القلب من طبع، وكل ذلك يتجلى في حقيقة هذه الفريضة في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام في الموقفين العظيمين الجليلين:

الموقف الأول

يوم جاء بزوجه وابنه الرضيع إلى الصحراء القاحلة الجرداء التي لا ظل فيها ولا ماء، ولا إنس ولا بشر، وتركهم وقفل عائداً، فكيف طاوعته نفسه؟ وكيف لم يخالفه قلبه؟ وكيف لم تدركه رحمته؟ وكيف لم تنازعه شفقته؟ إنه كان بشراً، وكان كذلك يحمل صفات البشر، لكن أمراً كان أعظم من ذلك كله في نفسه هو أمر الله، إنه استسلام ومُضيّ مع هذا الأمر وإن خالف كل شيء في الحياة، فمضى عليه السلام، فاستوقفته زوجه قائلةً ـ وهي المؤمنة المسلمة ـ «آلله أمرك بذلك؟ فيهز رأسه دون أن يلتفت أن نعم. فقالت: إذن لن يضيعنا». (9رواه البخاري)

فمضى تاركاً أهله، إلا من قليل ماء وتمر، وتبقى المرأة ومعها رضيع، ليس لها حول ولا طَوْل، لكن الإيمان العظيم، والإسلام التام، والاستسلام المحض جعل تلك القلوب تفيء إلى أمر الله، وتطيع أمر الله، ولا تلتفت إلى شيء سواه، فسعت بين الصفا والمروة، تبحث وتؤدي الواجب، وتأخذ بالأسباب.

الموقف الثاني

ولما بلغ إسماعيل السعي رأى الخليل أنه يذبحه، كما قال عز وجل حاكياً عنه: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ [الصافات:102]، ولم يقل: أضربك، ولا: أهجرك؛ بل “أذبحك”؛ فجاء الاستسلام والإسلام: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات:102]، ومضى المؤمنان المسلمان لأمر الله: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات:103 – 107]، ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات:107].

كل هذه المعاني ينبغي أن تتجلى في هذه الفريضة.

ونحن نقف في عرفات في اليوم التاسع لأن الله أمر، ونرجم الحصيات سبعاً وليست عشراً أو دون ذلك لأن الله أمر، ونبقى هذه الأيام على وجه الخصوص، ولا نخرج من عرفات إلا بعد الغروب لأن الله أمر، ولا نذهب إليها إلا في ذلك اليوم لأن الله أمر، وكل ذلك نقول: إننا فيه مستسلمون لأمر الله.

حقيقة الإحسان في الحج

في الحج يوجد الإحسان، وهو مراقبة الله، فلا يكاد المرء يجد صورة يتحقق فيها المسلم المؤمن باستشعار مراقبة الله والحياء منه كما يكون في هذه الفريضة.

خاتمة

فما أجلى وما أظهر هذه المعاني المهمة التي هي قوام الدين! إنه إيمان وإسلام وإحسان في هذه الفريضة لمن حجها ولمن أداها، ولمن تدبر فيها وفي معانيها.

نسأل الله عز وجل أن يعظّم إيماننا، وأن يحقق إسلامنا، وأن يرفعنا إلى درجة الإحسان، وأن يجعلنا نعبده كأننا نراه، فإن لم نكن نراه فإنه يرانا.

……………………………………

الهوامش:

  1. رواه مسلم.
  2. رواه مسلم.
  3. رواه الترمذي وحسنه الألباني.
  4. رواه مسلم.
  5. رواه مسلم.
  6. رواه الترمذي وصححه الألباني.
  7. صحيح ابن خزيمة ، كتاب المناسك.
  8. جامع العلوم والحكم، الصفحة أو الرقم  2/ 393.
  9. رواه البخاري.

المصدر:

  • على بادحدح، محاضرة مفرغة.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة