أراد الله للإسلام أن يكون خاتمة الأديان والشرائع، وأن يكون لذلك دينًا عامًا لجميع البشر، وباقيًا على امتداد الدهر، إرادة دلت عليها نصوص القرآن، وأيدها متواتر أفعال الرسول – صلى الله عليه وسلم – مما لا يترك مجالاً للشك في نفس المتأمل، فلا جرم قدر الله للإسلام التأييد والتجديد اللذين لا يكون الدوام في الموجودات إلا بهما، فكما جعل في كل حي وسائل الدفاع عن كيانه، وهو ضرب من التأييد، وجعل له وسائل لإخلاف ما يضمحل من قوته بالتغذية ونحوها، وهو التجديد، كذلك جعل للإسلام حين أراد حياته، فالتأييد بعلمائه يذودون عنه ما يطرقه من التعاليم الغريبة عن مقاصده حتى تبقى مقاصده سالمة واضحة، ومحجته بيضاء للسالكين لائحة، والتجديد بما نفحه من قائمين بدعوته، ناهضين بحجته، صياقل يجلون صفائحه البواتر، وزعماء بسري الأسحار وتأويب البواكر.

إن هذه الشريعة إرشاد صرف، وإن للفضائل والصالحات تضاؤلاً وتخلقًا بكرور الأزمان، وإن لدأب النفوس في المسير حنفًا وانحرافًا إذا امتد الميدان.

مقامات حفظ الدين

من أجل ذلك ضمن الله لهذا الدين حفظه فقال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]، وإن لحفظه ثلاثة مقامات:

أولها: مقام الرجوع إلى أصل التشريع عند الإشكال، وهو مقام العمل بآية: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59].

وثانيها: مقام تجديد ما رث من أصول الدعوة، وهو مقام العمل بآية: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [محمد: 7]، وكلا المقامين الأولين لا يفقهه إلا الفقيه في الدين، وهو المجتهد العارف بالطرق الموصلة إلى الغايات المقصودة من التشريع الإسلامي، بحيث تصير معرفة الشريعة وسائلها ومقاصدها ملكة له، أي: علمًا راسخًا في نفسه، لا تشذ عنه مراعاته والإصابة فيه عند جولان فكره في أمور التشريع.

وبمقدار ما يكون عدد هؤلاء الفقهاء مبثوثًا بين المسلمين، تكون حالتهم قريبة من الاستقامة، كما يكون أمرهم صائرًا إلى التضاؤل بمقدار قلة وجود هذا الفريق بين أظهرهم، ففي صحيح البخاري قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» قال البخاري: وهم أهل العلم.

وفي الحديث: «العلماء ورثة الأنبياء»، وهو حديث حسن، وفي الحديث: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» وهو حديث ضعيف السند، لكنه صحيح المعنى، فوجود هؤلاء العلماء في عصور عدم الاضطرار إليهم منة من الله تعالى إلا الأمة لتحسين حالها، ووجودهم في حالة اضطرار الأمة عصمة من الله تعالى للأمة ولطف بها لإنقاذها من التهلكة، وقد يحتاج الدين وأهله إلى الاجتنان بجنة القوة لحماية الحق وإقامة الشريعة، كما أشار إليه قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) [الحديد: 25]، فذلك هو موقع المقام الثالث لذلك منح الله الأمة مجددًا على رأس كل مائة سنة.

روى أبو داود في سننه في أول كتاب الملاحم: حدثنا سليمان بن داود المهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن شراحيل بن يزيد المعافري، عن أبي علقمة عن أبي هريرة فيما أعلم عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، قال أبو داود عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني: لم يجز به شراحيل. أ. هـ.

يعني أن عبد الرحمن بن شريح وقف عند شراحيل ولم يرفعه، فهو في رواية ابن شريح مقطوع، وليس مرفوعًا إلا في رواية ابن وهب هذه.

قال ابن عدي في الكامل: لا أعلم من يرويه غير عبد الله (يعني: ابن وهب) عن سعيد (ابن أبي أيوب) ورواه عنه، (أي: عن ابن وهب) عمرو بن سواد، وحرملة بن يحيى وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخيه (أي: ابن أخي عبد الله بن وهب) ولم يروه عنه غير هؤلاء الثلاثة أ. هـ. فابن عدي لم يطلع على رواية سليمان بن داود، عن ابن وهب التي ثبتت عند أبي داود وبهذا السند رواه البيهقي في سننه والحاكم في المستدرك.

وذكر ابن السبكي: أن أحمد بن حنبل رواه بزيادة: «رجلاً من أهل بيتي يجدد لهم أمر دينهم»، وظاهر أن زيادة كونه من أهل البيت، من موضوعات الشيعة على العادة لتنحرف بالحديث إلى مهيع الأحاديث في المهدي المنتظر.

معنى: «يبعث الله من يجدد» أنه يقيمه وييسره لهذه المهمة؛ لأن حقيقة البعث هي الإرسال، قال الله تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) [الكهف: 19]، وقال طريف العنبري:

أو كلما أردت عكاظ قبيلة … بعثوا إلي عريفهم يتوسم

ثم يطلق مجازًا على الإقامة والتنصيب، قال الله تعالى: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) [الإسراء: 79]، ومنه قولهم: بعث فلان بعيره، إذا أقامه في مبركة، وهو المراد هنا؛ لأن الله لا يبعث المجدد بأن يرسله، ولكنه يوفقه ويرشده ويهيئ له، فالبعث هنا بعث تكويني لا بعث تشريع فهو كقوله تعالى: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) [الإسراء: 5].

و«من يجدد» اسم موصول، وهو صادق على من اتصف بصلته، وهو التجديد للدين سواء كان المجدد واحدًا أو متعددًا، ومعنى التجديد: إرجاع الشيء جديدًا، أي إزالة رثاثته وتخلقه، وهو هنا مجاز في إيضاح حقيقة الدين وتجريده عما يلصق به من اعتقاد أو عمل أو سيرة، ليس شيء من ذلك في شيء من الدين، في حال أن الناس يتوهمون شيئًا من ذلك دينًا.

و«أمر الدين» شأنه وماهيته، ودين هذه الأمة الإسلام لا محالة، وهو اعتقاد وقول وعمل وشريعة وجامعة، فتجديده إرجاع هذه الأمور أو بعضها إلى شبابه وقوته وجدته، وإزالة ما عسى أن يكون قد أدخل عليه من الوهن.

دعائم الإسلام

يقوم الإسلام على ثلاث دعائم لا ينتظم أمره بدونها:

الدعامة الأولى: العقيدة؛ لأن العقيدة الحق هي أصل الإسلام، وهو المقصد الأعظم المسمى بالإيمان، والذي هو المدخل إلى التدين بدين الإسلام، ومبنى هذه الدعامة على صحة التلقي لما يجب اعتقاده في الإسلام عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ومن البراهين القاطعة التي يهتدي إليها العقل.

الدعامة الثانية: شرائع الإسلام التي لا يستقيم أمر الأمة الداخلة في الإسلام إلا بمتابعتها؛ إذ فيها صلاح أمرهم في الدنيا بانتظام جماعتهم وسيادتهم وبها صلاح أمرهم في الآخرة بسلامتهم من العذاب من قول باللسان، وعمل بالجوارح، وتدخل فيها ضمائر قلبية؛ كمحبة المؤمنين، وسلامة الطوية؛ إلا أنها لما كانت آثارها أعمالاً ألحقت بقسم عمل الجوارح، ومبنى هذه الدعامة على تلقي الشريعة من لفظ القرآن ومن سنة الرسول وأعماله، وإفهام أئمة الدين الذين تلقوه صافيًا من شوائب الضلالات، بحيث يكون هذا التلقي سالمًا من اختلال نقل الرواة، ومن سوء فهم المنتمين لحمل الشريعة، ومن دخائل الملاحدة ورقاق الديانة.

الدعامة الثالثة: جامعة الإسلام المسماة بالبيضة وهي سلطان المسلمين وقوتهم، وانتظام أمرهم انتظامًا يقيم فيهم الشريعة، ويدفع عنهم العوادي العادية عليه من المجاهرين بعداوته، والمسيئين معاملته من أتباعه الذين يحق عليهم المثل: «عدوك العاقل خير من حبيبك الأحمق»، ومبنى هذه الدعامة على إقامة الحكومة الإسلامية في عظمة وقوة ومنعة، ونشر الإسلام بالفتوح الصالحة.

وقد رأى الصحابة القتال لإقامة جامعة الشريعة، وذود أهل العقائد الضالة المريدين حمل الناس على عقائدهم؛ كالقتال للدفاع عن بث الإسلام في أول أمره؛ فلذلك امتشقوا السيوف في الثأر لعثمان، وفي الانتصار لعلي على من خرج عنه، وقد قال عبد الله بن رواحة:

اليوم نضربكم على تأويله … كما ضربناكم على تنزيله

معنى التجديد

تجديد الشيء هو: إرجاعه إلى حالة الجدة، أي: الحالة الأولى التي كان الشيء عليها في استقامته وقوة أمره، وذلك أن الشيء يوصف بالجديد إذا كان متماسكة أجزاؤه، واضحًا رواؤه، مترقرقًا ماؤه، ويقابل الجديد الرثيث.

والرثاثة: انحلال أجزاء الشيء وإشرافه على الاضمحلال.

فهذا الدين قد أظهره الله تعالى ونصره فتكامل أمره حين قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة: 3]، فكان في زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دينًا واضحًا بينًا قويًا، لا يتطرقه تضليل، ولا يحول دون نفوذه قوي ولا ضئيل، وذلك الكمال في أمور:

أولها: العمل به وتحقيق مقاصده.

الثاني: نصره وإقامته.

الثالث: انتشاره وزيادته وتسهيل بثه.

الرابع: حراسته وحفظه من تدخل الضلالات.

الخامس: دفع نائبة حلت بالإسلام إذا استمرت أفضت إلى طمس معالم الدين أو إفساد الإيمان أو ذهاب سلطانه.

وقد تمتد إليه يد الرثاثة من إحدى نواحي جدته فهو لا يرث من جميع نواحيه؛ لأن الله قد ضمن حفظه، ولكنه قد تتسرب إليه أسباب الرثاثة من إحدى النواحي فيشاهد الضعف فيها فيبعث الله له من يجدده بأن يزيل عنه أسباب الرثاثة ويرده جديدًا ناصعًا.

فالتجديد الديني يلزم أن يعود عمله بإصلاح الناس في الدنيا: إما من جهة التفكير الديني الراجع إلى إدراك حقائق الدين كما هي، وإما من جهة العمل الديني الراجع إلى إصلاح الأعمال، وإما من جهة تأييد سلطانه.

مضي مائة سنة مظنة لتطرق الرثاثة، والاحتياج إلى التجديد

ليست حكمة الله بالمضاعة، ولا فعله بالعبث، فقد أنبأنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن الله يبعث للأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، فعلمنا أن لهذا الزمن أثرًا في تطرق الرثاثة إلى بعض أمور الدين، ذلك أن مدة مائة سنة تنطوي فيها ثلاثة أجيال ويكثر أن يتسلسل فيها البشر آباء وأبناء وحفدة، فإذا فرضنا كمال أمر الدين حصل في عصر الآباء عن مشاهدتهم أمره، كما نفرضه في عصر النبوة حين شاهد الصحابة الدين في منعة شبابه، جاء الأبناء فتلقوا عن الآباء صور الأمور الدينية عن سماع وعلم دون مشاهدة فكان علمهم به أضعف، ومن شأن الجيل إحداث أمور لم تكن في الجيل السابق، لكنهم يغلب عليهم ما كان في الجيل السابق، فإذا جاء جيل الحفدة تنوسيت الأصول وكثر الدخيل في أمور الدين فأشرف الدين على التغيير، فبعث الله مجددًا لأمور الدين تحقيقًا لما وعد الله به في حفظ الدين، وهذا التيسير الإلهي بقيام المجدد على رأس كل مائة سنة تجديد مضمون منضبط، وهو لا يمنع من ظهور مجددين في خلال القرن ظهورًا غير منضبط، فقد ظهر في خلال القرن الأول علي بن أبي طالب، وعبد الملك بن مروان، وعمر بن عبد العزيز وظهر في خلال القرن الثاني محمد بن إدريس الشافعي، وظهر في خلال القرن الرابع أبو حامد الغزالي.

كيف يكون تعيين مبدأ المائة سنة

جاء في لفظ الحديث أن ظهور المجدد يكون على رأس كل مائة سنة، والرأس في كلام العرب يطلق على أول الشيء يقال: فلان على رأس أمره، أي: أن أمره أنف كأنه لم يكن قبل له أمر، وفي الحديث أن رسول الله بعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره، فيظهر أن المراد في رأس سنة مبدأ سنة فمقتضاه أن يكون ابتداء العد من يوم قال الرسول ذلك إلا أن قرينة قوله: «من يجدد لهذه الأمة أمر دينها» دلت على أن ذلك لا يكون ما دام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين أظهر المسلمين؛ لأن وجود الرسول وقاية للدين من الرثاثة، وسلامة له من التخلق، فلا يحتاج إلى التجديد، فيتعين أن يكون ابتداء العد عقب وفاة الرسول ليحمل لفظ الرأس على ما يناسبه من الأولية بحسب المقام فإن أول كل شيء بحسبه.

ويحتمل أن يراد من رأس مائة سنة مبدأ مائة بعد مائة سنة تمضي بعد اليوم الذي صدر فيه هذا القول من الرسول – صلى الله عليه وسلم – على حد قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح المروي في صحيح البخاري وسنن الترمذي من حديث الزهري، عن سالم بن عبد الله، وأبي بكر بن أبي خيثمة، عن ابن عمر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صلى صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد» إذ يتعين أن يكون قوله فيه: «فإن رأس مائة سنة»، أي: مبدأ مائة سنة من تلك الليلة بقرينة السياق ولذلك قدر شراح الحديث قوله: «فإن رأس مائة سنة»، أي: من تلك الليلة، أي: بعد مضيها، وقد قيل بمثل هذا في إطلاق رأس مائة سنة في قولهم في الحديث: «بعثه الله على رأس أربعين سنة»، أي: عند تمام الأربعين من عمره الشريف فيكون ابتداء العد أيضًا من يوم قال رسول الله ذلك، ومثال الاحتمالين في عد المرة الأولى من التجديد وعد أول المجددين.

وأيًا ما كان فالظاهر أن رسول الله قال ذلك في آخر حياته؛ إذ قد دلت أدلة من السنة على أن رسول الله قد أكثر في آخر حياته من أقوال تؤذن بقرب انتقاله تأنيسًا للمسلمين بتلقي وفاته بصبر، وتنبيهًا لهم ليتهيؤوا إلى سد ما تعقبه وفاته من ثلمة في أمور المسلمين وبشارة لهم بما يعرفون به تولي الله تعالى حفظ هذا الدين كما جمعه قوله – صلى الله عليه وسلم -: «حياتي خير لكم ومماتي خير لكم»، وفي ذلك الغرض جاء قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) [آل عمران: 144]، وقوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ) [النصر: 1] إلى آخر السورة، وقد صرح عبد الله بن عمر في حديثه الذي ذكرته آنفًا بأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «أرأيتكم ليلتكم هذه» إلخ، في آخر حياته وهو نظير هذا الحديث.

فالظاهر أن رسول الله قال هذا القول في شأن المجدد في سنة عشر أو في سنة إحدى عشرة من هجرته، لا سيما وقد كانت سنة عشر التي حج فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حجة الوداع سنة استدار فيها الزمان، فقد قال رسول الله في خطبة اليوم التاسع أو العاشر من ذي الحجة آخر تلك السنة: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» فمبدأ سنة إحدى عشرة هو مبدأ السنة الإسلامية التي درج عليها أهل الحنيفية وهي الموالية للسنة التي ابتدأ فيها أهل الجاهلية عمل الشهر فهي مبدأ جديد للسنين الإسلامية التي جعلها الله، كما دل على جعلها قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) إلى قوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة: 36، 37].

فإن كان المراد من «رأس مائة سنة» أول مائة سنة تأتي كما هو الظاهر، فالمجدد الأول هو أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – وهذا هو الأظهر، وإن كان المراد رأس مائة سنة تمضي فالمجدد الأول هو من ظهر لتجديد الدين في حدود سنة عشر ومائة من الهجرة.

وكل ذلك يوقنك بأن ما سلكه تاج الدين السبكي في تعيين المجددين للدين وضبطه ذلك بموافقة وفاة من نحلهم صفة المجدد مبادئ مرور المئين من السنين ابتداء من يوم الهجرة قد أخطأ فيه من وجهين عظيمين وإن كانا خفيين، أحدهما: إناطته ذلك بوقت وفاة من توسم فيه صفة المجدد مع أن مقتضى الحديث أن يكون عمل المجدد منوطًا بوقت ظهوره أو انتشار أمره وقوة عمله في تجديد الدين كما يفصح عنه لفظ: «يبعث الله» الواقع في الحديث الذي هو بمعنى يقيم الله، ولفظ: «يجدد» المقتضى أن يكون معظم حياة المجدد في رأس القرن؛ إذ العمل من أثر الحياة لا من مقارنة الممات.

الوجه الثاني: أنه جعل ابتداء عد رأس القرن من يوم الهجرة، وشأن العد أن يكون من يوم الوعد بذلك، فإن اعتبار سنة الهجرة مبدأ للقرون الإسلامية أمر اصطلح عليه المسلمون بعد وفاة رسول الله في خلافة عمر، فكيف يفسر به كلام واقع قبل ذلك بسنين! .

التحقيق في صفات المجدد وصنفه وعدده

لقد صرح الكلام النبوي أن هذا المجدد يبعثه الله ويلهمه لتجديد أمر الدين للأمة، فوجب أن يكون هذا المجدد قائمًا بعمل مثمر تجديدًا في الدين، وقد أبنت فيما مضى معنى التجديد، فيتعين أن تكون لهذا المجدد الصفات التي تؤهله لرتق ما فتق من أمر الدين في زمنه، فإذا كان الفتق قد طرأ على ناحية من نواحي علم الدين تعين أن يكون المجدد في تلك الناحية عالمًا يؤهله علمه لإدراك الحق في الغرض المقصود، وإن كان الفتق قد طرأ على الدين من ناحية وهن نفوذه ووقوف انتشاره تعين أن يكون المحدد في ذلك قادرًا على حماية البيضة، ونصر الشريعة، أي: نصر الحق من الدين؛ لئلا يدخل في المجددين من قام بنصر نحلة اعتقادية يعتقد أنها الدين وهو فيها زائغ، مثل أبي يزيد النكاري راكب الحمار، ومثل أبي عبد الله الشيعي داعية المهدي العبيدي أو لإعلان فتنة وانقلاب دولة تحت اسم الدين مثل مهدي الصومال والتعايشي.

وبذلك لا يمنع أن يكون المجدد من بعض القرون من الملوك وليس يلزم التزام كونه من صف العلماء، فإن الشيخ البرزلي في كتاب الأقضية من كتابه المسمى «الحاوي» عد أبا فارس عبد العزيز الحفصي سلطان تونس مجدد القرن التاسع فدل على أنه لا يلتزم كون المجدد من أئمة العلم، وأنا لا أوافقه على عد أبي فارس في صف المجددين ولا على اعتبار القرن التاسع من مبدأ سنة إحدى وثمانمائة، ولكن أردت الاستدلال برأيه على عدم التزام كون المجدد من صف العلماء.

ويجب أن يكون المجدد في هذا المقام عالمًا بالشريعة، وأن يكون مسترشدًا بالعلماء ليصادف الحق الذي يتطلبه الشرع.

وإذا كان الفتق الذي اعترى الدين من ناحيتين فصاعدًا تعين أن يكون المجدد كفئًا للنهوض بما يتطلبه التجديد في ذلك، مثل أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – في موقف ارتداد العرب.

ثم إن الأظهر أن يكون هذا المجدد واحدًا؛ لأن اضطلاعه بالتجديد وهو واحد يكون أوقع؛ لذا يكون عمله متحدًا، ويكون أنفذ إذ يسلم من تعارق الاختلاف باختلاف الاجتهاد في وسائل المقصد، وربما اقتضى حال الزمان أن يكون المجدد متعددًا في الأقطار بأن يقوم في أقطار الإسلام مجددون دعوتهم واحدة، أو يكون رجلان فأكثر متظاهرين على عمل التجديد في موضع واحد، ولقد جوز ابن السبكي أن يكون ابن سريج وأبو الحسن الأشعري مجددين في نهاية المائة الثالثة أولهما في الفروع، وثانيهما في الأصول، ولا مانع من قيام رجلين بمهم واحد، فقد ظهر ذلك في أعظم مهم وهو الرسالة؛ إذ أرسل الله موسى وأخاه هارون إلى بني إسرائيل وفرعون وملئه، وأرسل رسولين لأهل القرية، ثم عززهما بثالث كما جاء في سورة يس.

ويشترط أن يكون المجدد قد سعى لعمل في التجديد من تعليم شائع، أو تأليف مثبوت بين الأمة، أو حمل الناس على سيرة، بحيث يكون سعيه قد أفاد المسلمين يقظة في أمر دينهم، فسار سعيه بين المسلمين، وتلقوه، وانتفعوا به من حين ظهوره إلى وقت إثماره، سواء كان حصول ذلك دفعة واحدة أم تدريجًا.

ويشترط أن يظهر المجدد في جهة تتجه إليها أنظار المسلمين، وتكون سمعتها بموضع القدوة للمسلمين، مثل أن يكون من أهل الحرمين، أو من مقر الخلافة، أو من البلاد التي تعنو إليها وجوه المسلمين، مثل مصر في بعض عصور التاريخ؛ ولذلك نجزم بأن مظهر المجددين الذين ظهروا في عصور الإسلام كان هو الشرق؛ إذ يلزم أن يكون عمله نافعًا لجميع الأمة لا لصقع خاص.

وليس يكفي للوصف بالمجدد أن يكون رجلاً بالغًا حدًا قاصيًا في الزهد أو في الصلاح أو في التقوى، ولا بالغًا الغاية في الفقه، ولا كائنًا من أهل القضاء بالعدل؛ لأن تلك صفات قاصرة عليه؛ لذلك نرى عد عمر بن عبد العزيز مجدد القرن الثاني غير متجه؛ إذ هو وإن كان بحق خليفة عدل إلا أن الإسلام قبل زمانه لم ترهقه رثاثة، وليت الذين عدوا عمر بن عبد العزيز في المجددين عللوا ذلك بأنه الذي أمر بتدوين السنة.

المصدر

كتاب: “تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة” محمد الطاهر ابن عاشور، ص112-124بتصرف.

اقرأ أيضا

الأمة تفتقدكم .. فأين أنتم يا معشر العلماء

حوارات مهمة .. حول أحوال الأمة (1) من نحن

فتنة مسايرة الواقع (3-4)

عواصف التغيير، والحكم الإلهية في التدبير (2)

التعليقات غير متاحة