للإيمان لوزام ظاهرة وباطنة، تناقضها لوازم “الوطنية” الشركية. وما يقبله الغرب لليهود بدولة دينية يرفضه للمسلمين، ويقبل المسلمون هذا التناقض..!

مقدمة

في المقالات السابقة؛ “الوطنية .. طاغوت العصر” تبين معنى المصطلح وخطورته وشأته الغربية الوثنية، وفي مقال “الآثار المترتبة على عبادة طاغوت “الوطنية” تبين بعض الآثار لهذا الانحراف الخطير من انقلاب الموازين وبروز مصطلحات تعبر عن معانٍ مناقضة لدين الله تعالى.

وفي مقال “نتائج مشروع الدول الوطنية (1-2)” ومع التجربة “الوطنية” بانحراف مفاهيمها وإشراف الغرب “الكافر” عليها برزت نتائج إلغاء الهوية، وإيجاد مصالح ضيقة على حساب العقيدة، وبروز قيم محدَثة مناقضة لقيم الاسلام، وبروز حدود دموية وخلق عداءات مع المسلمين وولاء الكافرين تعاني الأمة اليوم.

وفي هذا المقال استكمال لنتائج هذا الانحراف المفاهيمي والواقعي..

الشرك “الأكبر” أهم ركائز الوطنية..!

الأمور السابق ذكرها تتعلق بأثر “الوطنية” على جوانب عامة: سياسية، واجتماعية وجغرافية  وتاريخية واقتصادية وقبلية وثقافية.. الخ، وهي تنطبق على كل الدول الوطنية.

أما نتائج هذا المشروع  على “الدين” وعلى توحيد الله، وعلى الجوانب الشرعية؛ فهي أكبر أثراً، وأعظم خطراً، مما أشرنا إليه بكثير..!!

والأحكام العقدية والشرعية التي تترتب عليها هائلة جداً، سواءً المتعلق منها بأعمال القلوب أو أعمال الجوارح، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

لوازم الإيمان المتعلقة بأعمال القلوب

وهي الأعمال الخفية والتي هي من أصول الدين: مثل “التوحيد” ولوازمه القلبية والعملية كالولاء والبراء، والانتماء، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة! وغيرها من الأمور التي يثبت بها الإيمان في القلب أو ينتقض! من مثل:

استبدال شرك الأموات بـ “شرك الأحياء”..!

ففي الوقت الذي يُحارَب فيه تشريك الأموات والأولياء والصالحين على ألسنة المشايخ في كل المناسبات؛ نجدهم يقنِّنون ويسوغون شرك الأحياء! في كل المناسبات، بل وبدون مناسبات!

شرك “الأحياء” المتمثل بعبادة  ولاة الأمر وكهنتهم.. أقصد عبادة “ولاة الأمر” بـ “الطاعة”، وعبادة “كهنتهم” بـ “الاتباع”.

عبادتهم ـ بالطاعة والاتباع ـ في تبديل دين الإسلام ومعالم الدين؛ فتغيّر الشريعة المطهرة بالمراسيم والأنظمة واللوائح والقوانين والتعميمات.. ثم يقوم الكهنة  بإضفاء الشرعية عليها، وجعلها من طاعة الله.

ومن مثل الولاء والإخاء ونسأل هنا ـ جدلاً ـ مَن هو أولى بالحب والموالاة والانتماء، بالنسبة للمسلم المؤمن بالوطنية أهوَ أخوه في “المواطنة”! “العلماني السعودي” أم “الوافد أو الأجنبي” السُنّي الموحد ـ مثلاً..؟

إن كان الأول فقد تنَكّر للوازم الإسلام المعلومة بالبداهة.

وإن كان الثاني فقد تنَكّر للوازم الوطنية التي انتمى إليها وبايع عليها!

[للمزيد: الإسـلام هويـة تجمـع الأمـة]

لوازم الإيمان المتعلقة بعمل الجوارح والأعمال الظاهرة

مثل حقوق الزوج “الأجنبي” أمام الزوجة “المواطنة” وأمور الطلاق والحضانة والقِوامة، وحقوق الأبناء، والميراث، والعمل والإجارة والبيع والشراء والوقف والتملّك، والوكالة، والشهادة، والإمامة، والسفر والإقامة، والحج والعمرة، والزيارة والمجاورة والقدوم والخروج.. وبقية مسائل الحلال والحرام، وغيرها من الأعمال التي يزيد الإيمان بها وينقص، أو ربما “ينتقض” ويزول بالكُلّية!

كل ذلك، وغيره كثير وكثير؛ يترتب عليه أمورٌ شرعية هائلة.

ولو استرسلنا فيها لفتحنا أبواباً شرعية كثيرة كبيرة، كبيرة.. ولطال البحث كثيراً، حتى يكاد يكون الإيمان بأيٍ من لوازم “الوطنية” “العملي” ـ فضلاً عن الاعتقادي ـ حداً فاصلا بين الإيمان والكفر..!

وعلى الراسخين في العلم من العلماء الشرعيين مسؤولية بيان تفاصيل هذه المسألة للأمة أفراداً  وشعوباً وحكاماً؛ ليهلك من هلك عن بيِّنة أو يهلكوا هم!

“وطنية” تقبل “إسرائيل” كدولة “يهودية” لا وطنية

وتراود الفلسطينيين على “دويلة!” وطنية، علمانية، لا دينية !

كل الدول الوطنية أولياء لإسرائيل، حتى في العداوات “الظاهرة” الكاذبة؛ إذ تبين أن لكل دولة وطنية أجندة خاصة بها لرعاية إسرائيل، هم مختلفون في هذا فقط! لكنهم مجمعون على أن “القدس” شأن فلسطيني “وطني” خالص!

حتى مدينة القدس! لو “حُررت!” ستكون مدينة فلسطينية “وطنية”، وسيتحكم الفلسطينيون فيها وفيمن يشد الرحال إليها وفق المعايير السياسية “الوطنية” كما هو الحال في غيرها من المقدسات.

لكننا نريد هنا أن نسأل “الوطنيين”: هل “إسرائيل دولة وطنية؟ أم دولة دينية يهودية؟

الجواب البدهي لكل من لا يعيش في صحراء معزولة أو جزيرة نائية، أو لم يفقد عقله بعد أنها دولة دينية يهودية قحّة.

العجيب والغريب في هذا السياق، وفي حمّى انتشار “الوطني” و”الدولة الوطنية” تبرز للوجود فجأة “دولة” عجيبة فريدة، تصفع الوطنيين على وجوههم وأدبارهم!

دولة  يصنفها “الغرب” على أنها دولة، مخمليّة، “ديموقراطية” متقدمة، متمدنة، متحضرة!

وتوصف بأنها الواحة الجميلة الوحيدة، الخضراء..! والحديقة الغنّاء التي تزين الصحراء العربية! وصحراء (الشرق الأوسط) الممحلة القاحلة!.. إنها دولة “إسرائيل” الديموقراطية!؟

التي تُصنف على أنها دولة “غير وطنية”! ولا تقبل أن تصبح في يوم ما “دولة وطنية”! بل تفخر بأنها “دولة دينية”..!  تاريخية “يهودية” خالصة.

من عجائب وعد “بلفور”، ثم قرارات ما تسمى بـ “الأمم المتحدة”؛ أنها قسّمت (فلسطين) إلى دولتين: دولة “دينية” في جانب الـ “يهود”، ودولة “قومية” عربية وطنية في الجانب الفلسطيني.

وعلى الرغم من تناقض هذا التقسيم، وشذوذه؛ إلا أنه مُرِّر! وقبله الوطنيون برحابة صدر..!؟

نعم .. لقد قبل “الوطنيون” العرب لأنفسهم بـ “دول وطنية” وفق الأنموذج اليوناني الوثني! كما قبل الإسرائيليون وفرحوا ـ طبعاً ـ بـ “دولة دينية” وفق الأنموذج “التلمودي”..!

وأصبح حلم العرب “الوطنيون” أن ينالوا اعترافاً بدولة “وطنية” فلسطينية..! وأصبح حلم اليهود في فلسطين هو أن ينالوا اعترافاً بدولة “يهودية” وليست وطنية!

وهنا يبرز تساؤل مشروع  موجَّه  للوطنيين في دولة “التوحيد الوطنية” خصوصاً؛ هل القبول بالأنموذج “الغربي اليوناني الوثني” للدولة الوطنية يناقض لوازم “الدين” عند “اليهود” ويتفق مع “الإسلام” ـ مثلاً..!؟

لماذا تساير الدول الوطنية  الـ “يهود” في مطالبتهم بهوية “دينية” لدولتهم والاعتراف بها..؟ ولا يطالبون دولة “التوحيد الوطنية” بهوية دينية للدولة! الفلسطينية في المقابل؟ مع حُبّنا.. الشديد للوطن ـ بالمفهوم الإسلامي وليس الوطني ـ !

لماذا لا تعتبر إسرائيل دولة متخلفة، لم تدخل التاريخ الحديث بعد! وهي دولة “دينية”..؟

كيف استطاعت هذه الدولة الـ “مسخ” أن تشق لها طريقاً في دهاليز ومتاهات السياسة الدولية، وفي أروقة الأمم المتحدة لتصبح دولة دينية يهودية؟

لماذا تعتبر “إسرائيل” دولة عصرية حضارية، وهي لا تؤمن بالوطنية ولا بالقيم القائمة عليها..؟

لماذا لا تعتبر إسرائيل دولة متخلفة؛ وهي تدين بالتوراة؛ و”بالتلمود”.. وبقيم دينية خاصّة محدودة  غريبة، وقديمة جداً! وأقدم من النصرانية، فضلاً عن الإسلام..؟

أليس هذا الموقف غريباً..؟ ألا يستحق هذا الأمر التأملَ كثيرا..؟

لكن المهم في هذا السياق هو أن نموذج “الدولة الوطنية” العربية عموماً من العوامل التي مكنت إسرائيل من البقاء..! إذ أصبحت كل دولة عربية تتشاغل بهمومها “الوطنية”، وتأمين حدودها “الوطنية” أمام الجيران، وتقيّم وتكيف عداوتها مع إسرائيل وفق مصالحها “الوطنية” فقط! وتركت الفلسطينيين وحدهم ـ بإمكاناتهم البسيطة المتواضعة ـ أمام إسرائيل ومَن وراءها! وتعتبر “دويلة فلسطين”! ـ التي لم تر النور إلى اليوم ـ دولة وطنية سلفاً.

إن مشكلة إسرائيل الحقيقية هي مع “الإسلام”  و”المسلمين”، وليس مع الدول العربية “الوطنية”.

لقد جعلت “الوطنية” للفلسطينيين ممثلين بدولتهم “الوطنية” المرتقبة! لهم وحدهم ـ دون بقية المسلمين ـ حق التفاوض مع دولة الـ “يهود”، وحق تقديم التنازلات عن المقدسات الإسلامية وفق مصالحهم “الوطنية”!

وظهر ذلك جلياً بعد حرب “المسرحية” في العاشر من رمضان (1393 هـ  – 1973) وما تلاها من معاهدات ابتداءً من (كامب داوود 1978)، وانتهاءً باتفاقيات (أوسلوا 1993) التي تمت بعد محادثات سرّية بين الوطنيين العلمانيين الفلسطينيين، وبين الـ “يهود” .. بمعرفتهم، وبعيداً عن أعين وأسماع الشعوب العربية والإسلامية، حيث تم فيها الاعتراف بدولة الـ “يهود”؛ وحقها في العيش بأمن وسلام في أراضي فلسطين ومقدسات المسلمين المغتصبة.

وكأن ذلك حق “للقوميين” الفلسطينيين منحَهم إياه  مشروع “الوطنية”..!

وكذلك معاهدة (وادي عربة 1994)، وما تلاها من مغازلات ومعاهدات الصداقة والتطبيع التي تقوم بها إسرائيل مع بقية الدول (الوطنية).

[للمزيد: خسارة الأمة نتيجة غياب الهوية]

خاتمة

حينما يترك المسلمون “هويتهم الاسلامية” فهم ينسلخون من دينهم، ويخسرون الدرع الذي يحميهم،  وتتجزأ قضاياهم، وينفرد بهم العدو، ويقرّر عليهم من التناقض ما لا يقبله هو على نفسه ولا يستسيغه عاقل.

في الابتعاد عن هذه الهوية خسارة مدوية، في التاريخ وفي جنبات الأرض.

نسأل الله تعالى أن يعيد لهذه الأمة رشدها ووعيها، ويقدّر لها أمر رشد يجمعها على دينها؛ هويةً وشريعةً ومشروعا حضاريا ومستقبلا مضيئا؛ بإذن ربهم تعالى.

………………………………….

لقراءة البحث كاملا:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة