للنفس شوق للتعبد لربها تعالى، كما أن لها نفرة وتكاسل إذا بالغ بها صاحبها؛ فهي بين إقبال وإدبار؛ وعلى العاقل أن يتقصد فيحملها إذا تكاسلت ويُشبعها إذا أقبلت ويتجنب الإغراق والإيغال؛ لا تنفر بعد إقبال.

مقدمة

والمقصود بالعبادات هنا تلك العبادات التي بين العبد وربه سبحانه كما هو الحاصل في شعائر التعبد؛ كالصلاة والصيام والزكاة والحج والذكر وقراءة القرآن وغيرها، مما لا يدخل في معاملات الخلق، وهذا من باب التقسيم الفني فقط، وإلا فكل أعمال العبد وحركاته ومعاملاته ينبغي أن تكون كلها عبادة لله تعالى، وأن يكون فيها العبد مستسلمًا لربه خاضعًا لشرعه.

وأول ما نبدأ به في وسطية هذا الدين في العبادات تلك الوسطية العامة البارزة والتوازن المنضبط في تشريع العبادات وأحكامها ويسرها، ولكي تبرز هذه السمة بصورة واضحة فلا بد من التعرض للمناهج الأخرى السائدة فيما يتعلق بالعبادة تفريطًا أو إفراطًا؛ وذلك كما يلي:

المنهج الأول: تغليب المادة

ويمثله اليهود في تفريطهم وجفائهم؛ فلو تأملنا في التوراة ـ بعد تحريفها ـ لوجدنا تقديس المادة غلب على بنودها، فلا تقرأ في أسفار التوراة ذكرًا للآخرة، حتى ما ورد فيها من وعد ووعيد فإنما هو متعلق بالدنيا فقط، فلا يعمل الشخص إلا لتحقيق كسب عاجل، أو خوفًا من عقوبة عاجلة، بل بلغوا وطبّقوا ماديتهم حتى في معرفة الله، فقالوا: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: 153]، وقالوا: ﴿حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: 55].

ووفقًا لهذا التصور المادي الدنيوي أغرق هؤلاء في تقديس المحسوسات، واتخذوها طريقًا للرقيّ، وأصبحت القيم المادية محور الحياة، وتحول الإنسان في نظر هؤلاء إلى آلة تتحرك، ومعدة تهضم، وكائن يلهو.

وقد وصفهم القرآن الكريم وبين مدى تعلقهم بالحياة الدنيا وحرصهم عليها فقال تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [البقرة: 96] أيَّ حياة؛ حتى لو كانت حياة البهائم ونحوها؛ وذلك لأنهم يخشون الموت: ﴿وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ [البقرة: 95]؛ لأنهم ربطوا غايتهم بالدنيا، فعلمهم للدنيا وعبادتهم لمآرب دنيوية..! فإذا انتهت الدنيا فقد فاتهم كل شيء فهم بهذا أغرقوا في الشهوات، وعبَّدوا أنفسهم للماديات، فهم كمشركي قريش الذين قالوا: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: 24]، وهذا المنهج يمثل التفريط في أسوأ صوره وحالاته، ولذلك أمرنا الله أن نستعيذ منه في كل صلاة، ونسأله أن يجنبنا إياه: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: 7].

المنهج الثاني: الإغراق في الروحانيات

وهو المنهج القائم على الروحانيات؛ وذلك بإعلائها وتمجيدها، والإغراق في مفهوم العبادة والرهبنة.ويمثل هذا المنهج النصارى، وهو منهج الإفراط والغلو وابتداع النصارى رهبانية قاسية على النفس: تحرم الزواج، وتكبت الغرائز، وتمنع كل أنواع الزينة وطيبات الرزق، وترى ذلك رجسًا من عمل الشيطان، وبالَغوا في العبادة، وأخرجوها عن كيفيتها، وعن المراد منها، وأصبحت رهبانية غالية مشوَّهة، مؤذية للأجساد، ابتدعوها من أنفسهم، بلا حجة ولا برهان؛ ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ [الحديد: 27].

وهذا المنهج يمثل الإفراط والغلو، وهو الوجه الثاني من وجوه الانحراف عن الصراط المستقيم، ولذلك أُمِرْنا بأن نسأل الله أن يجنبنا إياه: ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7]». (1انظر: «الوسطية في القرآن الكريم» علي الصلابي (ص 491-492) باختصار يسير)

إذن؛ فشريعة الإسلام وسط وعدل في العبادات بين المنهج القائم على التفريط والجفاء، وبين المنهج القائم على الغلو والإفراط والرهبانية. وفي ذلك يقول شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى:

«ولهذا كان السلف يحذّرون من هذين الصنفين؛ قال الحسن: هو المبتدع في دينه والفاجر في دنياه، وكانوا يقولون: احذروا صاحب دنيا أغوته دنياه، وصاحب هوى متبع لهواه، وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور.

فالقسم الأول: أهل الفجور؛ وهم المترفون المنعمون أوقعهم في الفجور ما هم فيه.

والقسم الثاني: المترهبون؛ أوقعهم في البدع غلوُهم وتشديدُهم.

هؤلاء استمتعوا بخلاقهم، وهؤلاء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم.

وذلك أن الذين يتبعون الشهوات المنهي عنها، أو يسرفون في المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم الله والدار الآخرة، ويفسد حالهم، كما هو مشاهد كثيرًا منهم.

والذين يحرمون ما أحل الله من الطيبات ـ وإن كانوا يقولون: إن الله لم يحرم هذا، بل يلتزمون ألا يفعلوه؛ إما بالنذر وإما باليمين، كما حرم كثير من العُبّاد والزُهّاد أشياء ـ يقول أحدهم: لله عليَّ ألا آكل طعامًا بالنهار أبدًا، ويعاهد أحدهم ألا يأكل الشهوة الملائمة، ويلتزم ذلك بقصده وعزمه، وإن لم يحلف ولم ينذر، فهذا يلتزم ألا يشرب الماء، وهذا يلتزم ألا يأكل الخبز، وهذا يلتزم ألا يشرب الفُقَّاع (2الفُقَّاع: هو شراب يُتخذ من الشعير سمي به لما يعلوه من الزبد)، وهذا يلتزم ألا يتكلم قط، وهذا يَجُبُّ نفسه، وهذا يلتزم ألا ينكح ولا يذبح، وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التي ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس، وقهر الهوى والشهوة». (3«مجموع الفتاوى» (14/ 459-461))

من مظاهر الوسطية الشرعية في العبادات

ولمزيد من البيان لهذه الوسطية والعدل والتوازن في العبادات أذكر بعض النماذج والمظاهر الدالة على ذلك؛ وذلك فيما يلي:

النموذج الأول: «كأنهم تقالّوها..»

عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخبِروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر؛ قال أحدهم: أما أنا فإني أُصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني». (4«صحيح البخاري»، كتاب النكاح، باب: الترغيب في النكاح (5063))

يقول صاحب كتاب «الوسطية في القرآن»:

“فهذا موقف من مواقف الغلو يجلّي لنا سبب هذه النزعة: وهو الرغبة الصادقة في التزود من الخير التي دفعتهم للسؤال عن أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته، فلما علموا، رأوا أن ذلك قليل فقالوا ما قالوا.

ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقرّ هذا الاتجاه فبادر بعلاجه، وصحّح نظرتهم لتحصيل خشية الله وتقواه؛ فبيّن أنها ليست بالتضلع من أعمال والتفريط في أخرى، ولكنها تحصل بالموازنة بين جميع مطالب الله، وهذا هو عين الوسطية والحكمة والاستقامة والاعتدال والعدل». (5«الوسطية في القرآن» (ص 494))

النموذج الثاني: من نذر ألا يتكلم ولا يستظل

عن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل؛ نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مُرْهُ فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه». (6«صحيح البخاري» كتاب الأيمان والنذور، باب: النذر فيما لا يملك وفي معصية، ح (6704))؛ فهذا يدل على سماحة ويسر الشريعة.

النموذج الثالث: «أعظ كل ذي حق حقه..»

آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع طعامًا فقال: كل فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم. فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن. قال: فصلَّيَا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان». (7البخاري، كتاب الأدب،  باب: صنع الطعام والتكلف للضيف، ح (6139))

النموذج الرابع: «عليكم من العمل ما تطيقون»

عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة فقال: «من هذه؟» فقلت: امرأة لا تنام تُصلي. قال: «عليكم من العمل ما تطيقون؛ فوالله لا يمل الله حتى تملوا»، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه. (8البخاري، كتاب الجمعة، باب: ما يكره من التشديد في العبادة، ح (1151)،  ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، ح (785)، واللفظ له)

وهذا توجيه نبوي كريم نحو الاعتدال والتوسط.

النموذج الخامس: «ليصلّ أحدكم نشاطه»

عن أنس رضي الله عنه ، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبل ممدود بين ساريتين. فقال: «ما هذا؟» قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به. فقال: «حُلُّوه، ليصلِّ أحدكم نشاطَهُ، فإذا كَسِل أو فتر قعد». (9البخاري، كتاب الجمعة، باب: ما يكره من التشديد…، ح (1150)، ومسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، ح (784))

“فهذا الحديث يدل على أن النساء لم يكنَّ أقل حرصًا من الرجال على التزود من الخير، والتنافس في أعمال البر، وقد تجلّى ذلك في هذه النزعة الجامحة نحو العبادة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقرَّ هذا الجموح الضار، فعمد إلى الزجر عنه، وأمر بالوسط النافع”. (10«الوسطية في القرآن» (ص 497))

خاتمة

ونختم بتعليق الإمام النووي النافع حول هذين الحديثين؛ حيث يقول:

“فيه دليل على الحثّ على الاقتصاد في العبادة واجتناب التعمق. وليس الحديث مختصًّا بالصلاة بل هو عام في جميع أعمال البر.

وفي هذا الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته؛ لأنه أرشدهم إلى ما يُصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر، فتكون النفس أنشط والقلب منشرحًا، فتتم العبادة…». (11«شرح النووي على صحيح مسلم» (6/ 71))

…………………………….

الهوامش:

  1. انظر: «الوسطية في القرآن الكريم» علي الصلابي (ص 491-492) باختصار يسير.
  2. الفُقَّاع: هو شراب يُتخذ من الشعير سمي به لما يعلوه من الزبد.
  3. «مجموع الفتاوى» (14/ 459-461).
  4. «صحيح البخاري»، كتاب النكاح، باب: الترغيب في النكاح (5063).
  5. «الوسطية في القرآن» (ص 494).
  6. «صحيح البخاري» كتاب الأيمان والنذور، باب: النذر فيما لا يملك وفي معصية، ح (6704).
  7. البخاري، كتاب الأدب، باب: صنع الطعام والتكلف للضيف، ح (6139).
  8. البخاري، كتاب الجمعة، باب: ما يكره من التشديد في العبادة، ح (1151)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، ح (785)، واللفظ له.
  9. البخاري، كتاب الجمعة، باب: ما يكره من التشديد…، ح (1150)، ومسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، ح (784).
  10. «الوسطية في القرآن» (ص 497).
  11. «شرح النووي على صحيح مسلم» (6/ 71).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة