العبادة والتوكل لهما لوازمهما ومقتضياتهما وما تثمرانه في النفس والحياة من آثار عظيمة القدر والنفع في الدنيا والآخرة. فإن لم تظهر هذه الآثار واللوازم فإن هناك دخلا وانحرافا في فهم أو تطبيق هذين الأصلين العظيمين؛ فالعبرة بما يظهر من الآثار لعبادة الله عز وجل والتوكل عليه.

من آثار ولوازم العبادة والتوكل

الأمن والعدل والاستقرار في المجتمعات

يقول الله عز وجل: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ۸۲] ، ويقول تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: ۱۱۲].

في الآيتين السابقتين أوضح دليل على أن الأمن والاستقرار والطمأنينة في العباد والبلاد ليس لها طريق إلا تحقیق عبودية الله عز وجل ، والبراءة من الشرك ، وتحكيم شرعه المبرأ من كل نقص وعيب وظلم وجهل، وبدون ذلك ينتفي الأمن والعدل والاستقرار ، ويحل الخوف والجوع والظلم والاستبداد ، وإن هذه المسألة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى مزيد تفصيل، فما فوق کلام الله سبحانه کلام ، ومن أصدق من الله حديثا .

والتجارب الطويلة في تاريخ الأم تشهد بذلك ، فما من أمة وحدت ربها ، وحكمت شرعه وتحاكمت إليه، وحفظت عهده ، ولم تتعد حدوده إلا وذاقت رغد العيش ، وعاشت آمنة مطمئنة في دمائها وعقولها وأعراضها وأموالها ، وفوق ذلك دينها وعقيدتها ، والعكس من ذلك فيمن عتا من الأمم عن أمر ربه وتمرد على شرعه وعبادته ، وهذه سنة الله عز وجل: ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلً﴾ [فاطر: 43].

شهود نعمة الله عز وجل وشكره عليها

إن قيام العبد بتكاليف العبودية لله عز وجل تقتضي اللهج الدائم بشكره سبحانه والثناء عليه ؛ فلولاه سبحانه ما ثبت على الإيمان ، ولا قام بأداء العبادة ولا قوي عليها، فمنه سبحانه الإيجاد والإعداد والإمداد والعون .

وإن شهود نعم الله عز وجل التي لا تحصى ، وأعظمها نعمة التعبد له سبحانه ، ثم النعم الأخرى التي سخرها سبحانه للعبد ليقوى بها على العبادة .

إن شهود ذلك كله يقتضي شكره سبحانه في كل حين وآن ، شكرا عمليا، يتبرأ من كل حول و قوة إلا بالله ، وهذا يدفعه إلى مزيد من العبوديات والقربات إليه سبحانه ، ومزيد من التضرع والدعاء واللجوء إليه عز وجل في طلب العون والتوفيق والتثبيت.

وهذا هو شأن العابدین لله حقا وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كان يقوم في الصلاة حتى تتورم قدماه الشریفتان ، فإذا سئل في ذلك قال: «أفلا أكون عبدا شكورا»1(1) البخاري /ك التفسير – سورة الفتح (4836) ، ومسلم/ك صفات المنافقين(2819).. .

التخلص من رواسب الجاهلية وعاداتها وتقاليدها

إن من أهم لوازم العبودية لله عز وجل البراءة من أفعال الجاهلية وأخلاق الجاهلين ، بل إن عقيدة الولاء والبراء في الإسلام تفرض على العبد المسلم أن يتخلص من كل رواسب الجاهلية وعاداتها ، وألا يتشبه بأهل الجاهلية في شيء من الأقوال والأفعال مهما كان ضغط الواقع وإغراءاته ، بل يتميز بشخصيته الإسلامية الموحدة ، والتي تحصر كل تلقيها فيما جاء عن الله سبحانه أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم .

وللشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى رسالة نفيسة في المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية ؛ يحسن الرجوع إليها .

ويتحدث الشيخ الدوسري رحمه الله تعالى عن هذا اللازم المهم من لوازم العبودية ، فيقول:

(الضارع إلى الله صدقا ب﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ يتجرد من جميع مؤثرات الجاهلية بكافة أنواعها ، سواء المألوفة عنده في بيئته أو المستوردة عليه ، فينخلع عنها ويتبرأ منها عن بغض وعداء ، مكتفية بتلقي الهداية في جميع شؤونه من كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، والجاهلية ليست رسما خاصا أو صبغة خاصة مقصورة على قرن أو قرون مضت . إنما الجاهلية كل سلوك مخالف لملة إبراهيم وشريعة سيد المرسلين في أي ناحية من نواحي الحياة .

والجاهلية التي ينتهجها أكثر الناس اليوم أفظع من كل جاهلية سبقتها ؛ لأنها باسم العلم والفن تجعل الناس بمعزل كامل عن منهج الله في الحياة ، بل فيها الاعتداء الكامل على سلطان الله في الأرض ، والسيطرة على عبيده بكل ظلم ومهانة ، والجناية على عقولهم بالدجل والتضليل ، وقتل أرواحهم بالأفكار السامة والعقائد المنحرفة التي تضيع دينهم ودنياهم ، وفيها من الإغراء على كفر النعمة وإنكار الخالق أو التنكر لدينه وشريعته والتنديد بها مما هو تهجم على حكمته واستهانة بعزته ، وفيها من التحسين للخلاعة والرذيلة والعمل على إذهاب الحياء ما لا تقبله جاهلية أبي لهب وأبي جهل)2(2) صفوة الآثار والمفاهيم (1/ 105)..

التعلق بالله وحده ، والافتقار إليه عبادة واستعانة ، والاستغناء عما سواه

إن هذه الثمرة تعد من أعظم ثمار العبادة والاستعانة إن لم تكن أعظمها، فمن توجه إلى ربه سبحانه وتعلق به وحده وصدق في ذلك ، واعتقد فقره وفاقته إلى مولاه سبحانه عبادة واستعانة ، إنه بذلك يصبح في غاية الاستغناء عن الناس ؛ وبالتالي يسلم من تلك الأضرار البليغة التي تنشأ من التعلق بالمخلوق الفقير ، وتحصل له المنافع العظيمة التي تنشأ من التعلق بالله وحده .

وعلى قدر تکمیل العبد للعبادة والاستعانة يحصل له الاستغناء عن الخلق والتعلق بالله وحده ، ويفوز بمنافع ذلك في العاجل والآجل .

ويتبين فضل التعلق بالله وحده ، والاستغناء عما سواه ولو كان هناك مباشرة للأسباب ، فإن الله عز وجل هو خالق الأسباب ، وخالق تأثيرها ، فرجع الفضل كله لله وحده ، فله الأمر كله ، وله الخلق كله، وله الحمد كله، وإليه يرجع الأمر كله سبحانه وتعالى .

وكلما كان تعلق العبد بربه سبحانه أقوى كانت حماية الله لعبده من الشرور في الدين والدنيا أقوى وأكثر ، وما أشد حاجة العبد إلى ربه في جلب ما ينفعه في دينه ودنياه ، أو دفع ما يضره في دينه ودنياه ، وخاصة في الأزمنة والأمكنة التي تكثر فيها الفتن ، ويحتاج العبد فيها إلى معرفة الحق والصواب والنجاة من مضلات الفتن ، وهذا من ثمرات الضراعة الصادقة ب﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.

الفوز برضا الله عز وجل وجنته

وهذه هي الثمرة الكبرى والغاية العظمى من عبادة الله سبحانه والتوكل عليه؛ حيث التنعم برضوان الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم ، حيث الأمن التام ، وقرة العين التي لا تنقطع ، والنعيم الذي لا يحول ولا يزول ، وكلما كان العبد أتم تحقيقا لتوحید ربه وعبادته وتوكله كان له الأمن التام .

قال الله عز وجل: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ۸۲].

الهوامش

(1) البخاري /ك التفسير – سورة الفتح (4836) ، ومسلم/ك صفات المنافقين(2819).

(2) صفوة الآثار والمفاهيم (1/ 105).

اقرأ أيضا

لوازم العبادة والتوكل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لوازم العبادة والتوكل .. الحكم بشرع الله والتحاكم إليه وحده

لوازم العبادة والتوكل: الموالاة والمعاداة في الله

 

التعليقات غير متاحة