يستقبل “المسيحيون” ـ وليس “العالَم” ـ رأس سنة ميلادية جديدة. شأن يخصهم لا يخصنا من قريب أو بعيد. الأعياد مرتبطة بالعقائد والديانات. نحن أمة محمد، أمة آخر الزمان، ديننا ومنهجنا الإسلام.

مقدمة

من مظاهر التغريب التي تنخر جسم الأمة، وتهددها في شخصيتها وتَميُزها، تقليد الغربيين في الاحتفال برأس السنة الميلادية ومجاراتهم في طقوس هذا الحفل؛ فترى بعض المسلمين يُعِدُّون له بجد وحماس، فيتسابقون إلى محلات الحلويات لشراء كعكة الميلاد، ويزينون منازلهم بالأضواء، ويحرصون على اقتناء الشجرة المعروفة، ويهدون إلى أطفالهم لعباً نفيسة.. وربما أوهموهم أنها من “بابا نويل..!

وقد عمّت بهذا البلوى في ديار الإسلام، وساهمت وسائل إعلامنا في نشرها.. بل أصبح فاتح السنة الميلادية النصرانية عطلة رسمية في بلاد إسلامية ليس فيها الكثير من النصارى من أهل البلد.

ولا يدري هؤلاء المساكين الذين يهللون ويرقصون لمقدم السنة الجديدة أنهم ـ لو تدبروا ـ إنما يحتفلون بمضي سنة قد خُصمت من عمر قصير.. لعلَّهم لم يقوموا أثناءها بعبادة أو عمل صالح ينفعهم يوم ينادي المنادي: ﴿وَقِفُوهُمْ إنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ [الصافات: 24].

النهي عن موالاة المشركين

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: 51]. قال ابن عطية: «نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة. وحكم هذه الآية باق. وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظُّه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى: ﴿فَإنَّهُ مِنْهُمْ﴾.

وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النهي. وقد عامل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يهودياً ورهنه درعه”. (1المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، للقاضي ابن عطية، نشر وزارة الأوقاف بالرباط طبعة أولى، 1979، 5/ 126)

وفي هذا المعنى أيضاً قال ـ جل وعلا ـ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 57] ﴿إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: 55] ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة: 56]. قال القرطبي: “نهاهم الله أن يتخذوا اليهود والمشركين أولياء، وأعلمهم أن الفريقين اتخذوا دين المؤمنين هزواً ولعباً…”. (2الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988، 6/ 145)

وذكر العلامة ابن عاشور أن

“موقع هذه الجملة (يعني: إنما وليكم الله ورسوله..) موقع التعليل للنهي؛ لأن ولايتهم لله ورسوله مقررة عندهم؛ فمن كان الله وليَّه لا تكون أعداء الله أولياءه. وتفيد هذه الجملة تأكيداً للنهي عن ولاية اليهود والنصارى”. (3التحرير والتنوير من التفسير، للطاهر ابن عاشور، الدار التونسية، 6/ 239)

فهؤلاء الذين يسخرون من ديننا لا يستحقون مودتنا؛ لأن:

“الذي يتخذ دين امرئ هزؤاً فقد اتخذ ذلك المتدين هزؤاً، ورمقه بعين الاحتقار. والذي يرمق بهذا الاعتبار ليس جديراً بالموالاة؛ لأن شرط الموالاة التماثل في التفكير، ولأن الاستهزاء والاستخفاف احتقار، والمودة تستدعي تعظيم المودود”. (4التحرير والتنوير، 6/ 241)

ولا يحسبنَّ المرء أن الموالاة شكل واحد هو التحالف معهم والسير في ركابهم وخدمتهم، بل الموالاة صور متعددة، كما أشار إلى ذلك الشيخ شلتوت:

“ولموالاة الأعداء صور وألوان: المعونة الفكرية بالرأي والتدبير موالاة للأعداء، والمعونة المادية بالبذل والإنفاق موالاة للأعداء… والاغترار بزخرف ثقافاتهم، وأن فيها ماء الحياة، وتوجيه النشء إليها، وغرس عظمتها في نفسه، موالاة للأعداء…”. (5من توجيهات الإسلام، لمحمود شلتوت، دار القلم، القاهرة، ص 264)

فتوى قديمة في الاحتفال بالميلاد

ومن جملة هذه الأعمال التي لا يحل متابعتهم عليها وتقليدهم فيها الاحتفال بسنة الميلاد. بهذا أفتى الفقهاء منذ قرون؛ فقد أورد الونشريسي في «موسوعته» في النوازل أنه قد

“سُئل أبو الأصبغ عيسى بن محمد التميلي عن ليلة يناير التي يسميها الناس “الميلاد”، ويجتهدون لها في الاستعداد، ويجعلونها كأحد الأعياد، ويتهادون بينهم صنوف الأطعمة، وأنواع التحف والطرف المثوبة لوجه الصلة. ويترك الرجال والنساء أعمالهم صبيحتها تعظيماً لليوم، ويعدّونه رأس السنة، أترى ذلك ـ أكرمك الله ـ بدعة محرمة لا يحل لمسلم أن يفعل ذلك، ولا أن يجيب أحداً من أقاربه وأصهاره إلى شيء من ذلك الطعام الذي أعده لها، أم هو مكروه ليس بالحرام الصراح..؟

فأجاب: قرأت كتابك هذا، ووقفت على ما عنه سألت. وكلُ ما ذكرته في كتابك فمحرم فعله عند أهل العلم. وقد رويت الأحاديث التي ذكرتها من التشديد في ذلك، ورويت أيضاً أن يحيى بن يحيى الليثي قال: “لا تجوز الهدايا في الميلاد من نصراني، ولا من مسلم، ولا إجابة الدعوة فيه، ولا استعداد له، وينبغي أن يجعل كسائر الأيام”. ورفع فيه حديثاً إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال يوماً لأصحابه: «إنكم مستنزلون بين ظهراني عجم؛ فمن تشبه بهم في نيروزهم ومهرجانهم حشر معهم» (6المعيار المعرب والجامع المغرب، لأحمد الونشريسي، نشر وزارة الأوقاف بالمغرب، وطبع دار الغرب، 1981، 11/ 150 ـ 151)

وقال الفقيه المالكي “سحنون التنوخي” صاحب “المدونة”:

“لا تجوز الهدايا في الميلاد من مسلم ولا نصراني، ولا إجابة الدعوة فيه ولا الاستعداد له”. (7عن: المعيار، 11/ 154)

والحكمة من هذا النهي هي أن يحافظ المسلمون على هويتهم وشخصيتهم المستقلة، فلا يذوبوا في غيرهم من الأمم.

من مقاصد الشريعة تميز الأمة

ولذلك يقول النبي، صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم». وروي عنه أيضاً أنه قال: «ليس منَّا من تشبه بغيرنا، لا تشبَّهوا باليهود ولا بالنصارى». (8الحديث الأول رواه أبو داود في سننه عن ابن عمر، والطبراني في المعجم الأوسط عن حذيفة، وحسنه السيوطي كما في: الجامع الصغير بشرحه السراج المنير، 3/ 348. والثاني رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص بإسناد ضعَّفه، لكن يقويه ويشهد له غيره من الأحاديث كهذا الحديث الأول). قال العزيزي: قيل في زيهم، وقيل في بعض أفعالهم. (9السراج المنير شرح الجامع الصغير، لعلي العزيزي، دار الفكر، 3/ 348)

والظاهر عندي أن المعنى على العموم، أي من تشبه بهم في سلوكهم وطرائق حياتهم .. مما هو خاص بهم، دال على هويتهم وشخصيتهم. فهذا الحديث ـ كما يقول ابن تيمية:

“أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبِّه بهم، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 51]“. (10اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية، دار الفكر، ص 83)

ولهذا أيضاً كره بعض العلماء أن يفرد المسلم بالصيام الأيام التي يعظمها غير المسلمين، حتى لو لم يكن إلى ذلك قاصداً. قال ابن قدامة:

“ويكره إفراد يوم “النيروز” ويوم “المهرجان” بالصوم؛ لأنهما يومان يعظمهما الكفار، فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما، فكُره كيوم السبت، وعلى قياس هذا كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم”. (11المغني لموفق الدين ابن قدامة، دار الفكر، ط 1، 1984، 3/ 106)

إذن؛ فمن مقاصد الدين وغاياته أن تتميز جماعة المسلمين عن الأمم الأخرى… باعتقاداتها وشعائرها وعاداتها وأخلاقها، وكذلك بأعيادها.

الاحتفال بالميلاد من الزور

لقد اعتبر العلماء أن مشاركة أهل الملل الأخرى في أعيادهم نوع من الزور والباطل، واستنبطوا ذلك من وصف الله ـ تعالى ـ لعباده: ﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72]. قال القرطبي:

“أي لا يحضرون الكذب والباطل ولا يشاهدونه. والزور كل باطل زُوِّر وزُخرف، وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد. وفي رواية عن ابن عباس أنه أعياد المشركين. وقال عكرمة: لعب كان في الجاهلية يسمى بالزور”. (12الجامع لأحكام القرآن، 13/ 54)

وذكر ابن العربي أن في قوله تعالى: ﴿لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ ستة أقوال: الشرك، والكذب، وأعياد أهل الذمة، والغناء، ولعب كان في الجاهلية، والمجلس الذي يسب فيه النبي الأكرم. ثم قال القاضي معلقاً:

“أما القول بأنه الكذب فهو الصحيح؛ لأن كل ذلك إلى الكذب يرجع. وأما من قال: إنه أعياد أهل الذمة؛ فإنَّ فِصْحَ النصارى وسبت اليهود يُذكر فيه الكفر؛ فمشاهدته مشاهدة كفر، إلا لما يقتضي ذلك من المعاني الدينية، أو على جهل من المشاهد له”. (13أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي، دار الفكر، 3/ 1432)

ولذلك يقول ابن تيمية:

“وأما أعياد المشركين فجمعت الشبهة والشهوة والباطل، ولا منفعة فيها في الدين، وما فيها من اللذة العاجلة فعاقبتها إلى ألم، فصارت زوراً، وحضورها: شهودها”. (14اقتضاء الصراط المستقيم، ص 183)

السفر للاحتفال معصية أخرى

ويعظم الإثم بما يفعله بعض المسلمين اليوم من السفر إليهم في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر لمشاركة النصارى حفلاتهم، وفي هذا مفاسد أخرى: كإقرارهم على هذا الباطل، وصرف المال في ديارهم على ما لا يفيد بل يضر.. إضافة إلى ما يشوب هذه الأيام من شرب الخمور والاختلاط والرقص.

خاتمة

يحاول النصارى بامتلاكهم أدوات التقدم المادي وإحرازهم من القوة والحريات السياسية وإدارة الحكم؛ أن يستغلوا قيادتهم للعالم حاليا في ظل غيبة المسلمين. ومن ذلك أن يجعلوا قضاياهم المحلية قضايا عالمية، وأن يجعلوا أعيادهم الدينية الوثنية أعيادا للعالَم.

والإسلام بريء من الشرك وأهله، ومن طقوسه ومظاهره. وعلى المسلم أن يحافظ على تميزه العقدي والقيمي، وتميز شعائره وأعياده. فأعياده عبادة بخلاف غيره؛ فأعيادهم شركية، والتشبه بهم محرم، وخسارة أن يتدنى المسلم ليتشبه بهم؛ فإنه لن يتشبه إلا بأن ينزل عما فضّله الله تعالى به.

……………………………..

الهوامش:

  1. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، للقاضي ابن عطية، نشر وزارة الأوقاف بالرباط طبعة أولى، 1979، 5/ 126.
  2. الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988، 6/ 145.
  3. التحرير والتنوير من التفسير، للطاهر ابن عاشور، الدار التونسية، 6/ 239.
  4. التحرير والتنوير، 6/ 241.
  5. من توجيهات الإسلام، لمحمود شلتوت، دار القلم، القاهرة، ص 264.
  6. المعيار المعرب والجامع المغرب، لأحمد الونشريسي، نشر وزارة الأوقاف بالمغرب، وطبع دار الغرب، 1981، 11/ 150 ـ 151.
  7. عن: المعيار، 11/ 154.
  8. الحديث الأول رواه أبو داود في سننه عن ابن عمر، والطبراني في المعجم الأوسط عن حذيفة، وحسنه السيوطي كما في: الجامع الصغير بشرحه السراج المنير، 3/ 348. والثاني رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص بإسناد ضعَّفه، لكن يقويه ويشهد له غيره من الأحاديث كهذا الحديث الأول.
  9. السراج المنير شرح الجامع الصغير، لعلي العزيزي، دار الفكر، 3/ 348.
  10. اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية، دار الفكر، ص 83.
  11. المغني لموفق الدين ابن قدامة، دار الفكر، ط 1، 1984، 3/ 106.
  12. الجامع لأحكام القرآن، 13/ 54.
  13. أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي، دار الفكر، 3/ 1432.
  14. اقتضاء الصراط المستقيم، ص 183.

المصدر:

  • د. إلياس بلكا، مجلة البيان العدد: 238.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة