الحب في الله والبغض فيه من أوثق عرى الإيمان، وهو برهان وتطبيق لمحبة الله تعالى؛ فمن والاه صدق في محبته. ومن اعتذر عنه ولم يفرق بين أولياء الله وأعدائه فلخلل في دينه؛ ضلالةً أو غوايةً.

مقدمة

يثقل على من بقلبه رقة في الدين، أو نفاق؛ البراءة من أعداء الله تعالى؛ فلا يقوم بما أمر الله تعالى من معاداة أعدائه والبراءة منهم؛ ويرى في اللين والميل للعدو صلاحا للدنيا، ويغيب عنه مثل قوله تعالى: ﴿أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين﴾ فمن والَى ربه تبرأ من عدوه؛ وإلا كان ثمة خلل في قلبه وإيمانه.

وأما من والَى ربّه وصدق في محبته، وتوكل عليه فإنه يلزم جناب ربه محبا له ولأوليائه ورسله وشريعته، معاديا ومبغضا ومتبرئا ممن كفر أو انحرف وخالف.

وللمخالفين اعتذارات وتوهمات نعرض لها هنا.

للموالاة والمعاداة عقلان

أحدهما: “عقل مسدد موفَق” قاهر للهوى والنفس الأمارة بالسوء قد استنار بنور الإيمان وصار الحاكم عليه كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم؛ فهذا العقل يقتضي من أصحابه أن لا يقدّموا على طاعة الله تعالى وطاعة رسوله، صلى الله عليه وسلم، شيئا أبدا ويقتضي من أصحابه أن يحبّوا في الله ويبغضوا في الله، ويوالوا في الله ويعادوا في الله، ويعطوا لله ويمنعوا لله، ويسارعوا إلى كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال سواء رضي الناس أو سخطوا لا تأخذهم في الله لومة لائم، وما أقل أهل هذا العقل في هذه الأزمان المظلمة.

والعقل الآخر: “عقل معيشي نفاقي” مخذول قد قهرته النفس الأمارة بالسوء وأسَرتْه الحظوظ الدنيوية والشهوات النفسية، وصار الحاكمُ عليه الهوى؛ فمحبته لهواه وبغضه لهواه، وموالاته لهواه ومعاداته لهواه، وبَذْله لهواه ومنعه لهواه.

فهذا العقل يقتضي من أربابه أن يتملقوا لسائر أصناف الناس بألسنتهم ويحسنوا السلوك مع الصالح والطالح.

وهذا العقل هو الغالب على أكثر الناس في زماننا عامتهم وخاصتهم، وما أكثره في المنتسبين إلى العلم؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «يخرج في آخر الزمان رجال يخْتِلون الدنيا بالدين. يلبسون للناس جلود الضأن من اللين. ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله أبي تغترّون أم علَيّ تجترئون؟ فبي حلفتُ لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا». (1رواه الترمذي)

وروى الترمذي أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله تبارك وتعالى قال: لقد خلقت خلقا ألسنتُهم أحلى من العسل، وقلوبُهم أمَرُّ من الصبر؛ فبي حلفت لأتيحنهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا، فبي يغترون أم علي يجترئون». (2رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب)

وفي هذين الحديثين إشارة إلى أهل “العقل المعيشي” “النفاقي” وما هم عليه من المنافقة باللسان والتكلف والتصنع في الظاهر يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.

طعم الإيمان في الموالاة والمعاداة

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في وصف أهل هذا العقل:

“يظن أربابه أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون، فإنهم يرون العقل أن يُرضوا الناس على طبقاتهم ويسالموهم ويستجلبوا مودتهم ومحبتهم. وهذا مع أنه لا سبيل إليه فهو إيثار للراحة والدعة على مؤنة الأذى في الله والموالاة فيه والمعاداة فيه، وهو وإن كان أسلم عاجلة فهو الهلكة في الآجلة؛ فإنه ما ذاق طعم الإيمان من لم يوالِ في الله ويعادِ فيه؛ فالعقل كل العقل ما أوصل إلى رضا الله ورسوله والله الموفق”. (3مفتاح دار السعادة، ج1،ص117)

وفي حديث مرفوع ذكره ابن عبد البر وغيره: «أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لفلان العابد: أما زهدك في الدنيا، فقد تعجلت به الراحة، وأما انقطاعك إليّ، فقد اكتسبت به العز؛ فما عملت فيما لي عليك، قال: وما لك علي، قال هل واليت فيّ وليا، أو عاديت فيّ عدوا». (4المتحابين في الله لابن قدامة المقدسي، ص34)

وذكر ابن عبد البر أيضا: «أن الله تعالى أوحى إلى جبريل أن اخسف بقرية كذا وكذا قال: يارب إن فيهم فلانا العابد، قال: به فابدأ، إنه لم يتمعّر وجهُه فيّ يوما قط». (5رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي، صلى الله عليه وسلم؛ فذكره بنحوه)

وروى أبو نعيم في الحلية من حديث مكحول عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه مرفوعا، قال: «يؤتى بعبد محسن في نفسه لا يرى أن له ذنبا فيقول له: هل كنت توالي أوليائي، قال: كنت من الناس سلما، قال: فهل كنت تعادي أعدائي، قال: رب لم يكن بيني وبين أحد شيء، فيقول الله عز وجل: لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي». (6حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج5،ص186)

إذا علم هذا فأهل العقل المعيشي لا يرون بمداهنة البدع والفسوق والعصيان بأسا، وكثيرٌ منهم لا يرون بمداهنة الكفار والمنافقين بأسا. وبعض أهل الجهل المركب منهم ينكرون على من يهجر أهل البدع والفسوق والعصيان ويكفهر في وجوههم ويعدون ذلك من الهجر الذي نهى عنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقوله «لا تَهاجَروا»، وقوله: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث». (7رواه أحمد، 1589)

الفرق بين الهجر الديني والهجر الدنيوي

وقد سمعت هذا من بعض الخطباء والقُصاص منهم. والحامل لهم على التسوية بين الهجر الديني  ـ وهو ما كان لله ـ وبين الهجر الدنيوي ـ وهو ما كان لحظ النفس ـ لا يخلو من أحد أمرين:

إما الجهل بالفرق بين هذا وهذا.

وإما قصد لَبْس الحق بالباطل عنادا ومكابرةً وتمويها على الأغبياء الذين لا علم لهم بمدارك الأحكام.

وهذا الأخير هو الظاهر من حال المتلبسين منهم ببعض المعاصي ليدفعوا عن أنفسهم الشنعة وليوهموا الجهال أن هجرهم إياهم من أجل المعصية لا يجوز وأن الذين يهجرونهم من طلبة العلم وغيرهم ليسوا مصيبين.

فيقال لهؤلاء المذبذبين المدلّسين: أن الذي جاءت الأحاديث بالنهي عنه فيما زاد على الثلاث هو التهاجر الدنيوي كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

وقد جاءت السُنّة بهجر أهل المعاصي حتى يتوبوا كما هجر النبي، صلى الله عليه وسلم، “كعب بن مالك” وصاحبيه خمسين يوما ولم يكلمهم حتى تاب الله عليهم. وهجر زينب بنت جحش رضي الله عنها قريبا من شهرين لما قالت: أنا أعطي تلك اليهودية ـ تعني صفية ـ وهجر الذي بنى فوق الحاجة حتى هدم بناءه وسوّاه بالأرض. وهجر رجلا رآه متخلقا بزعفران حتى غسله وأزال عنه أثره. وهجر رجلا رأى عليه جبة من حرير حتى طرحها. وهجر رجلا رأى في يده خاتما من ذهب حتى طرحه.

وفي سنن أبي داود وجامع الترمذي ومستدرك الحاكم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هجر رجلا رأى عليه ثوبين أحمرين.

وكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يهجرون من أظهر المعصية حتى يتوب وتظهر توبته.

مشروعية الهجر

وقد قال ابن عبد القوي:

وهجــــران من أبدى المعاصي سنة … وقيل إذا يردعه أوجب وأوكد

وقيل على الإطــلاق ما دام معلنــا … ولاقِـــه بوجــــه مكفهر معربد

فلم يذكر خلافا في “سُنّية” هجر العاصي المجاهر بالمعصية سواء ارتدع بالهجر أو لم يرتدع، وإنما الخلاف في “الوجوب” هل هو على الإطلاق..؟ أم إذا كان العاصي يرتدع به..؟

فأين هذا مما يراه المتهوكون من إبطال “الهجر الديني” بالكلية ومعاملة الناس كلهم صالحهم وطالحهم باللطف واللين والمودة.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:

“ذهب الجمهور إلى أنه لا يسلّم على الفاسق ولا المبتدع. قال النووي: فإن اضطر إلى السلام بأن خاف ترتب مفسدة في دين أو دنيا إن لم يُسلِّم سَلَّم. وكذا قال ابن العربي وزاد: وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى فكأنَّه قال: الله رقيب عليكم.

وقال المهلب: ترك السلام على أهل المعاصي سُنة ماضية، وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع. وألْحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة ككثرة المزاح واللهو وفحش القول والجلوس في الأسواق لرؤية من يمر من النساء ونحو ذلك”. اهـ

وحكى ابن رشد قال: قال مالك: “لا يسلّم على أهل الأهواء”. قال ابن دقيق العيد: ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم والتبري منهم”.

خاتمة

المعاداة لأهل المعاصي والكفران هو تعبير عن محبة العبد لربه؛ فإن من أحب أحدا أحب من أحب وابغض من أبغض. كما أنه مرتبط بتحقيق مصلحة كبيرة في نبذ الكفر وأهله وتوضيح رايتهم وتنكيسها وتنفير الناس منها ومن أهلها. كما أنه يحقق مصلحة ثالثة وهي ردع أهل المعاصي لعلهم يرجعون.

فهو مصلحة لقلب المؤمن وللحياة وسبيل جريانها، وللعصاة أنفسهم؛ بخلاف من داهن ولاين بغير ضرورة ولا استضعاف فأضاع التمييز بين الحق والباطل ولبّس قضيته. والله تعالى الهادي الى صراط مستقيم.

……………………………………

الهوامش:

  1. رواه الترمذي.
  2. رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب.
  3. مفتاح دار السعادة، ج1،ص117.
  4. المتحابين في الله لابن قدامة المقدسي، ص34.
  5. رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث جابر رضي الله عنه عن النبي، صلى الله عليه وسلم؛ فذكره بنحوه.
  6. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج5،ص186.
  7. رواه أحمد، 1589.

المصدر:

  • “تحفة الإخوان بما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران” للتويجري رحمه الله.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة