تعجلت الحركة الاسلامية في الصدام، وفي الوصول الى الحكم. ولا بدّ لها أن تكتسب الوعي اللازم. والمستقبل لها في جولة عالمية قادمة بإذن الله.

مقدمة

مرّ معنا في مقال (الهجمة الشرسة والغد المأمول .. دور الصحوة) أن للصحوة الاسلامية إنجازاتها في مجالا عديدة، وهي تثبت أنها قادرة ـ بإذن الله ـ على إنجاز المزيد واجتياز التحديات. وواضح أن أمامهم المزيد.

لقد نجحَت في توضيح حقيقة الاسلام وإزالة ـ أو تخفيف ـ أثر الإرجاء، والصوفية السلبية والتفلت من التكاليف، والتركيز على معنى “لا إله إلا الله”، وإزالة الانبهار أمام الغرب، والأثر الضخم في ميدان المرأة.

أما إخفاقات الصحوة الاسلامية فلا بد من معرفتها للوقوف عليها ومعالجتها وتجنب التكرار وضياع الجهد والعمر.

ومن إخفاقاتها:

التعجل في الصدام وطلب الوصول إلى الحكم

تعجّلت الدعوة في أمور، ظناً منها أنها أصبحت كفئاً لتلك الأمور.

تعجّلت في الصدام مع السلطة، وتعجلت في طلب الوصول إلى الحكم.

إن الصدام بين السلطة والدعوة ـ في فترة الاستضعاف ـ لا يجوز أن يجيء من جانب الدعوة؛ إنما هو يأتي دائما من جانب السلطة، وحين تَضرب السلطة الدعوة الإسلامية وهي لا تصنع شيئا إلا أن تبيّن للناس حقيقة لا إله إلا الله؛ فسيعرف الناس ـ بشهادة الواقع ـ مكان تلك السلطة من الإسلام، وموقفها من دعوة لا إله إلا الله.

أما حين تجد الفرصة لاستدراج الحركات الإسلامية إلى معركة غير متكافئة، فهي تنجح في تلبيس الأمر على “الجماهير” فتوهمها أنها لا تحارب الإسلام، وإنما تحارب “التطرف”؛ فيتأخر بذلك وعْي الجماهير بالقضية، وهو عنصر مهمّ في الحركة لا غنى عنه.

كذلك التعجل في طلب الوصول إلى الحكم؛ إنه قائم على الانخداع بحماسة الجماهير. والحماسة الوجدانية شيء، وتجنيد الناس أنفسهم لقضية لا إله إلا الله شيء آخر مختلف؛ شيء تصنعه التربية ولا تصنعه الخُطب الحماسية ولا الكتب ولا المحاضرات..!

و”التربية” هي الجانب الذي نقول إن الصحوة قد أبطأت فيه، مع أنها هي العصَب الحيّ للدعوة، الذي يضمن ـ بعد فضل الله ـ ثبات القلوب على الحق، واستقامتها على الطريق، سواء في مرحلة “الدعوة” أو في مرحلة “التمكين” حين يمنّ الله بالتمكين.

إن الحماسة للإسلام جميلة. ويحسب للصحوة بلا شك تغييرها الصورة العامة للمجتمع ـ وللشباب خاصة ـ من الصورة اللاهية العابثة، المتفلتة المتسيّبة، اللاهثة وراء الغرب، الغارقة في دنَس التصورات ودنَس السلوك، إلى صورة فيها التزام وتعبُّد، وانشغالٌ عن اللهو وتوجّهٌ إلى الله، وحماسة للدعوة.

ولكن هذه هي البداية في حين ظن كثير من الدعاة أنها الغاية.

بين الحماسة الملتهبة ، والوعْي والبصيرة

ما بين الحماسة الملتهبة للإسلام وبين تحقيق متطلبات الإسلام في النفس والواقع وتجنيد الناس أنفسهم له بوعي وبصيرة، مسافة طويلة تغطيها التربية البطيئة الهادئة الهادفة المستنيرة.

ولا يمكن بطبيعة الحال أن تُربَّي أمةٌ بكاملها دفعة واحدة، ولا يمكن ـ مهما كان جهد التربية ـ أن يتربَّى كل فرد في الأمة على النمط المطلوب. فإن هذا لم يحدث في أي مجتمع من مجتمعات التاريخ، ولا حتى في المجتمع الذي أنشأه أعظم مربٍّ في تاريخ البشرية، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كان في ذلك المجتمع منافقون، ومُبَطِّئون، ومتثّاقلون، وقوم ضعاف الإيمان، وقوم خفاف الأحلام تستطيرهم الشاردة والواردة كما جاء وصفهم جميعا في كتاب الله.

﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون: 1].

﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [النساء: 72– 73].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيل﴾ [التوبة: 38].

﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ [النساء: 83].

نعم؛ ولكن القاعدة التي ربّاها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على عينه خلال ثلاثة عشر عاما في مكة وعشر سنوات في المدينة كانت من القوّة والصّلابة ورسوخ الإيمان؛ بحيث حملت هؤلاء جميعا وتحركت بهم لتحقيق الأهداف التي أخرج الله هذه الأمة من أجلها:

﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [البقرة: 143].

وبناء القاعدة الصلبة ينبغي أن يكون هو الشاغل الأول والأكبر للحركة الإسلامية قبل أن تتحرك في أي اتجاه. وهذه القاعدة ـ بعد إنشائها بالمواصفات المطلوبة ـ ستكون هي القيادة التي تقود الأمة للخروج من التيه.

إذا كان هذا هو حاضر الدعوة، وحاضر العالم المتكتل اليوم في سُعار محموم للقضاء على الإسلام؛ فما المتوقع في الغد؟

المتوقع ـ من خلال هذا الاضطهاد العالمي للإسلام ـ أن تنضج الدعوة..!

وتلك سنة ربانية يُجريها الله من خلال حماقات الطغاة في كل التاريخ: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 139 – 142].

ستتعلم الحركات الإسلامية من خلال الواقع أن الأعداء لا يحاربون جماعة بعينها، لأسباب كامنة في تلك الجماعة؛ إنما يحاربون الإسلام كله، في أي صورة من صوره، والمتوقع ـ من فضل الله ـ أن يقرّب هذا الأمر بين الجماعات المتباعدة، ويزيل بالتدريج ما بينها من خلافات، حين تجد نفسها كلها في خندق واحد، يحيط به الأعداء من كل جانب.

وستتعلم الحركات الإسلامية من خلال الواقع أن ”معرفة” مقتضيات “لا إله إلا الله” شيء، والقيام بـ “تحقيقها” في داخل النفس ثم في واقع المجتمع أمر آخر مختلف؛ ومن ثم فإن تعريف الناس بمقتضيات “لا إله إلا الله” ـ على كل ضرورته وأهميته ـ لا يكفي وحده! إنما المطلوب تحقيق هذه المقتضيات في النفس وفي الواقع، وتلك مهمّة التربية التي لا غنى عنها، وأنه بغير هذه التربية ـ في القاعدة على الأقل ـ تظلّ الحركة شعارات بغير واقع؛ فلا تستحق عند الله التمكين، ولا تُقنع الناس بإمكان التغيير!

وستتعلم الحركات الإسلامية من خلال الواقع أنه لا بد لها من “وعي سياسي”، يمنع عنها الانخداع بكل مدّعٍ يدعي أنه “تاب وأناب”، وأصبح قائدا للمسلمين! أو يتظاهر بأنه واقف ضد أمريكا أو إسرائيل وهو على رأس العملاء المتآمرين!

و”وعي حركي” يمنع عنها الوقوع في المنزلقات التي يستدرجها إليها الأعداء، ويضبط إيقاع حركتها مع مقتضيات الأحداث.

وحين تنضج الحركة فكريا، وأخلاقيا، وحركيا، فإنها ستكون أصلب من أن يؤثر فيها كيد الأعداء، لأنها ستكون على الشرط الذي اشترطه الله: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120].

ما ينتظر الأعداء

أما الأعداء فلهم شأن آخر.

إنهم اليوم ـ في كل الأرض ـ طغاة متجبرون يكيدون للإسلام بكل ما يملكون من وسائل الكيد. والقوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية في أيديهم.

وقد علمتنا وقائع التاريخ ـ التي هي تحقيق السنن الربانية في واقع الأرض ـ أن هذا كله بغير “قيم” لا يعيش! وأن هذه الوسائل كلها تُمكّن للباطل فترة من الوقت ـ بحسب سنة ربانية ـ ثم ينهار الباطل في النهاية: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 44- 45].

وقد انهار الباطل في نصف الأرض، وانهياره في بقية الأرض قاب قوسين.

والبديل الذي يحمل القيم هو “الإسلام”. والقيمة العظمى فيه هي “الإيمان بالله” على بصيرة، وضبط الحياة بالضوابط الربانية، وتحقيق المنهج الرباني الخيّر المبارك في واقع الحياة.

ولكن لا بد من جُهد يبذله البشر لتحقيق ذلك كله؛ فبغير جُهد وجهادٍ لا يتحقق شيء في واقع الأرض.

خاتمة

وفي الغد المأمول يقوم بهذا الجهد فريقان من البشر.

أحدهما تمثله الصحوة القائمة اليوم في العالم الإسلامي، التي تزداد قوة ونضجا بما يقع عليها من المذابح والاضطهاد، حسب سنة الله.

والفريق الآخر الذي لا يُحسب حسابه كثيرا اليوم، وهو قدَر من أقدار الله، يجيء في وقته المقدور عند الله، هو “المسلمون من عالم الغرب ذاته”، الذي يتزايد عددهم باستمرار، وهم من مثقفي الغرب النشيطين في حقل الدعوة، والنساء منهم خاصة، اللواتي يتحدَّين بواقعهن كل مفتريات الغرب عن ظلم الإسلام للمرأة، ويعلنّ ـ بواقعهن ـ أن أعظم تكريم للمرأة هو الذي يقدّمه الإسلام.

وفي الوقت المقدورعند الله تقع المعركة الفاصلة التي تتزايد اليوم إرهاصاتها؛ ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً﴾ [الإسراء: 7]، ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً﴾ [الإسراء: 104].

“لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم، يا عبد الله! هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله…” (1أخرجه مسلم).

وعندئذ يتغير التاريخ… ويدخل الناس في دين الله أفواجا كما دخلوا أول مرة، ويقدّر الله جولة أخرى ممكّنة للإسلام في الأرض.

﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].

…………………………………..

الهوامش:

  1. أخرجه مسلم.

المصدر:

  • “هلم نخرج من ظلمات التيه”، للأستاذ محمد قطب، رحمه الله.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة