العلم بحكم الشرع ضرورة لكل مجاهد قبل أن يقدم على أمر. والفقه عن الله ضرورة، حتى يصبح ستارا للقدرة يغيّر الله تعالى به وعلى يديه.

شرف الجهاد

لما كان الجهاد موضع شرف، وكانت إقامة الله تعالى للعبد فيه تشريفا له واختيارا واصطفاء؛ وكان لا بد من إعداد إيماني وأخلاقي، وتوفية الشروط؛ كان لا بد أيضا من التزكية. وللتزكية أركان عليها مدار الشروط، وعليها مدار النصر في الدنيا والقبول والنجاة في الآخرة بإدراك  العاقبة التي يأملها العبد وهي ﴿عقبى الدار﴾.

للمزيد: [من آداب المجاهد وتزكية النفس]

أركان التزكية

ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى قاعدة ذهبية تتضمن أركان التزكية التي إذا اتصف بها أي فرد أو طائفة فإن التوفيق والنصر حليفهم في الدنيا والنجاة في الآخرة؛ وإن تخلف واحد من هذه الأركان أو أكثر فإن الخذلان من نصيبهم.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

“.. فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أوّلاً، وكان قيامه “بالله” و”لله” لم يقم له شيء، ولو كادتْه السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له فرجا ًومخرجاً.

وإنما يؤتَى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة، أو في اثنين منها، أو في واحد؛ فمن كان قيامه في باطلٍ لم يُنصر، وإن نُصر نصراً عارضاً فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول، وإن قام في حق لكن لم يقم فيه “لله” وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق، أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولاً والقيام في الحق وسيلة إليه؛ فهذا لم تُضمن له النصرة، فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه، فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين، وإن نُصر فبحسب ما معه من الحق، فإن الله لا ينصر إلا الحق، وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر، والصبر منصور أبداً ، فإن كان صاحبه محقاً كان منصوراً له العاقبة، وإن كان مبطلا لم يكن له عاقبة.

وإذا قام العبد في الحق لله، ولكن قام بنفسه وقوّته ولم يقم بالله مستعيناً به متوكلاً عليه مفوضاً إليه برياً من الحول والقوة إلا به فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك.

ونكتة المسألة أن تجريد التوحيد في أمر الله لا يقوم له شيء البتة، وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زُمَر الأعداء”. (1اعلام الموقعين 2/178)

من هذا الكلام النفيس نخلص إلى أن أركان التزكية المؤدية إلى الفوز والنصر والتوفيق ثلاثة أركان:

الركن الأول: أن يكون القيام في “حق” وليس في “باطل” وذلك من قوله: “فإذا قام العبد بالحق”.

الركن الثاني: أن يكون القيام “لله” عز وجل وطلب “رضاه” وذلك من قوله: “وكان قيامه لله”.

الركن الثالث: أن يكون القيام “بالله” عز وجل “استعانة به وتوكلاً عليه وحده متبرئاً من الحول والقوة إلا  به” وهذا يفهم من قوله: “وكان قيامه به”.

الركن الأول: القيام بالحق

والمقصود هنا بـ “القيام بالحق” أن يكون المجاهد على فقهٍ من دينه وبصيرة من أمره؛ يعلم لماذا يقاتل وفي سبيل من يقاتل.. على بصيرة بأحكام دينه العينية وما يحتاجه في جهاده من الفقه، وعلى علمٍ بالراية التي يقاتل تحتها، وعلى علم وبصيرة بحقيقة أعدائه الذين يقاتلهم، وحقيقة الراية التي يرفعونها.. على علم بربه سبحانه وأسمائه وصفاته، مطمئن بأن هذا الجهاد الذي يقوم به محبوبٌ لله عز وجل مرضٍ له، موقناً بأنه من أعظم القربات وأفضلها عند الله عز وجل، موقناً بثواب الله عز وجل وصدق وعده للمجاهدين في سبيله. قال عز وجل: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف :108).

والشاهد من هذه الآية قوله سبحانه ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ أي على علم ويقين بأن ما يدعو إليه الداعية ويجاهد من أجله المجاهد هو الحق الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه وهو الموافق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

وبدون العلم بالشرع، والفقه بغايات الجهاد والفهم الصحيح للعقيدة؛ تفسد الدعوة ويتلوث الجهاد ويتخلف بذلك شرط من شروط قبول العمل عند الله عز وجل ألا وهو “المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم”.

والمجاهد لا يملك إلا نفْساً واحدة فلا يجوز المخاطرة بها في أمر قد لا يكون مرضياً لله عز وجل ولا موافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم .

تأكد أصحاب رسول الله من صحة الطريق

وأسوق بهذه المناسبة ثلاث مواقف من مواقف السلف رضي الله عنهم يظهر فيها حرصهم العظيم على معرفتهم بالطريق الذي يجاهدون فيها هل هي حق مرضية لله عز وجل فيمضون فيها أو ليست كذلك فيحجمون عنها .

الموقف الأول

تلك المناظرة المشهودة التي تمت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في قتال المرتدين حيث خفي على عمر رضي الله عنه في أول الأمر مشروعية قتالهم فناظر أبا بكر رضي الله عنه في ذلك فبين له أبو بكر ذلك حتى انشرح صدرعمر لقتالهم.

فعن  أبي هريرة رضي الله عنه قال: “لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ،فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله»، قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق  المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فو الله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق”. (2البخاري (1399)،مسلم (20))

والشاهد في هذا الموقف أن عمر رضي الله عنه لم يقبل الدخول في القتال إلا بعد المناظرة وقناعته بأن ذلك هو الحق .

الموقف الثاني

روى الذهبي في السِيَر قال: “وقال حميد بن هلال: أتت الحرورية مطرف بن عبد الله يدعونه إلى رأيهم فقال: «يا هؤلاء لو كان لي نفْسان بايعتكم بإحداهما، وأمسكت الأخرى، فإن كان الذي تقولون هُدى أتبعتها الأخرى وإن كان ضلالة هلكَت نفسٌ وبقيت لي نفس، ولكن هي نفس واحدة لا أغرر بها”. (3سير أعلام النبلاء 4 /195)

الموقف الثالث

روى ابن وضاح ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه “البدع والنهي عنها” بسنده عن ابن سيرين قال: أخبرني أبو عبيدة بن حذيفة قال جاء رجل إلى حذيفة بن اليمان ـ وأبو موسى الأشعري قاعد ـ فقال أرأيت رجلاً ضرب بسيفه غضباً لله حتى قُتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة. قال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول.

قال أبو موسى: سبحان الله ، كيف قلت؟ قال: قلت: رجل ضرب بسيفه غضباً لله حتى قُتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة. فقال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول. حتى فعل ذلك ثلاث مرات.

فلما كان في الثالثة قال: والله لا تستفهمه، فدعى به حذيفة فقال: رويدك، إن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يصب الحق ولم يوفقه الله للحق فهو في النار. ثم قال” والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا”. (4البدع والنهي عنها لابن الوضاح رقم الأثر (86) ص 75 ت:عمر عبدالمنعم)

عبرة المواقف

والمقصود أن يُعلم بأن معرفة الحق والتأكد منه في أي أمر يراد القيام به من أهم جوانب “التزكية” و”التوفيق”.

ومعرفة الحق لا تتأتى إلا بالعلم بالشرع، والبصيرة في الدين، واستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.

فعُلم بذلك أن العلم هو أساس العمل، وهو قبل  القول والعمل. والجهاد من العمل؛ فإن لم يكن العلم صحيحاً موافقاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العمل سيكون باطلاً ومنحرفاً.

ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة يعلم أصحابه أصول هذا الدين، ويعلمهم العقيدة وما تقتضيه من ولاء وبراء وإذعان وانقياد لله تعالى، كما يعلّمهم الإخلاص وإرادة الدار الآخرة في جميع الأقوال والأعمال؛ فلما جاء الإذن بالجهاد، وما تلا ذلك من فرضيته ظهرت آثار هذا العلم في تضحياتهم العظيمة وفتوحاتهم المباركة.

ولذلك وجب على المهتمين بأمور الدعوة وتربية الناس وتوجيههم وإعدادهم للجهاد في سبيل الله عز وجل أن يولوا هذا الجانب اهتماماً كبيراً، وأن يركزوا في برامجهم الدعوية وأنشطتهم المختلفة على تحقيق الحد الأدنى من العلم بسبيل المؤمنين ـ وهم أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح ـ انطلاقاً من القرآن الكريم وتدبره، والسنة الصحيحة بفهم الصحابة رضي الله عنهم وأن يستفاد من كل وسيلة متاحة مشروعة لـبناء العـلم الشرعي في الـنـفـوس؛ سواء علـى هيئة دروس علمية عامة أو خاصة، أو بالاستفادة من الأشرطة العلمية المسجلة. والمقصود أن يهتم المربون بهذا الجانب المهم من الإعداد لأنه هو الأساس؛ فإن صلح صلح ما بعده، وإن فسد فسد ما بعده .

وجوب الفقه عن الله

ويحسن أن يذكر في هذا المقام قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ (التوبة :65).

وأنقل بهذه المناسبة تعليقاً مفيداً للإمام الشنقيطي صاحب أضواء البيان رحمه الله تعالى على هذه الآية وذلك من شريط مسجل بصوته حيث يقول:

“فالذين لا يفقهون عن الله من الجنود العسكريين لا يمكن أن يردّوا صائلاً ولا أن يُعلوا كلمة الله؛ لأنهم لا مبدأ لهم، وهم قوم لا فقه لهم؛ فلا يقاتلون على شيء ترْخص بسببه نفوسهم عندهم، رغبة فيما عند الله. وهذا سر لطيف، وتعليم سماوي هائل يفهم منه المسلمون أن أول شيء من الأساسيات للاستعداد للميدان هو الفقه والفهم عن الله.

فيجب ـ كل الوجوب ـ أن يعلم العسكريون عن الله حتى يفقهوا؛ لأنهم إذا كانوا فاهمين عن الله عارفين للمبدأ الذي يقاتلون عليه كانوا شجعاناً صابرين لا يفرّون من القتل ولا يُهزمون كما سجله التاريخ لأوائل هذه الأمة.

وإن كانوا لا يفقهون عن الله شيئاً وكانوا جهالاً كالأنعام لا مبدأ لهم يقاتلون عليه فهم ليسوا بأساسٍ ولا مُعوّل عليهم؛ يُهزمون مع أول ناعق”. أ.هـ

…………………………………

الهوامش:

  1. اعلام الموقعين 2/178.
  2. البخاري (1399)،مسلم (20).
  3. سير أعلام النبلاء 4 /195.
  4. البدع والنهي عنها لابن الوضاح رقم الأثر (86) ص 75 ت:عمر عبدالمنعم.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة