التبسم والمزاح المنضبط عدل ووسط بين عبوس وسقوط الهيبة، والعفو والصفح وسط وعدل بين المهانة وأهل الانتقام المستقصِي.. وهكذا الخير في العدل وفقه محاسن الأخلاق.

مقدمة

يخطيء كثير من الناس في فهم المزاح المحمدود والمنضبط فما بين ساقط الهيبة موغل في الكذب أو عابس منفر للخلق. كما يخطيء كثير في فهم العفو المحمد ما بين ذليل مهان يغطي ذلته بأنه “يعفو” أو منتقم لشخصه بما يتجاوز الحدود ويستقصي الحقوق ولا ينتصف من نفسه.

ولهذا نوضح هنا العدل والوسط الخيّر الذي أمر الله تعالى به ومدح أهله.

أولا: التوازن والعدل والوسط في المزاح والانبساط

مواقف الناس في المزاح

والناس في هذا الخُلق طرفان ووسط:

الطرف الأول: أهل الإفراط في المزاح والانبساط

وهم الذين يسترسلون في ذلك، ويُكْثرون منه، حتى يوقعهم في المحذور من المزاح والانبساط؛ كالكذب، والسخرية، والفرح المذموم الذي قد يؤدي إلى البطَر والغفلة عن الآخرة، كما يؤدي إلى قِلة الوقار والحياء والسقوط من أعين الناس.

الطرف الثاني: أهل التفريط

الذين لا يرون الانبساط مع الناس، ولا المزاح المباح، وإنما الذي يغلب على حياتهم الحزن، والانقباض عن الناس، والعبوس في وجوههم.

الموقف العدل الوسط

وهذا الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام؛ حيث التوازن والوسطية في هذا الخُلق؛ فلم يكونوا يفْرطون في ضحكهم ومزاحهم، ولم يكونوا منقبضين عن الناس، عابسين في وجوههم، مغلبين الحزن، والغمّ على حياتهم.

أمثلة على المزاح المنضبط

ويحسن في هذا المقام إيراد بعض الأدلة والأمثلة على حسن هذا الموقف واعتداله:

عن أبي هريرة قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا. قال: «إني لا أقول إلا حقًّا». (1الترمذي، في البر والصلة، باب: ما جاء في المزاح، وقال: حسن صحيح)

وقال محمد بن النعمان بن عبد السلام: «لم أر أعبد من يحيى بن حماد، وأظنه لم يضحك». قال الذهبي تعليقًا على ذلك:

“الضحك اليسيرُ والتبسُّمُ أفضلُ. وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين:

أحدهما: يكونُ فاضلًا لمن تركَهُ أدبًا وخوفًا من الله، وحُزنًا على نفسه المسكينة.

والثاني: مذمومٌ لمن فعله حمقًا وكِبْرًا وتصنُّعًا، كما أنَّ مَنْ أكثر الضحكَ استُخِفَّ به، ولا ريب أن الضحك في الشاب أخفُّ منه وأعذرُ منه في الشيوخ.

وأما التبسُّمُ وطلاقةُ الوجه فأرفعُ من ذلك كله؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «تبسُّمكَ في وجه أخيك صَدَقة». (2البخاري (891)) وقال جرير رضي الله عنه: «ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسَّم». (3البخاري (3035)، ومسلم (2475))

فهذا هو خلقُ الإسلام، فأعلى المقامات من كان بكَّاءً بالليل، بَسَّامًا بالنهار. وقال عليه الصلاة والسلام: «لن تسَعوا الناس بأموالكم؛ فليسعهم منكم بسط الوجه». (4البزار (1977)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 124)، وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله: عن عبد الله المقبري واه)

بقي هنا شيءٌ: ينبغي لمن كان ضحوكًا بسَّامًا أن يُقصر من ذلك، ويلوم نفسه حتى لا تمجَّهُ الأنفس، وينبغي لمن كان عبوسًا منقبضًا أن يتبسم، ويُحسن خلقه، ويمقت نفسه على رداءة خُلُقه. وكلُّ انحراف عن الاعتدال فمذمومٌ، ولابدَّ للنفس من مجاهدة وتأديب”. (5«سير أعلام النبلاء» (01/ 140-141))

ويتأكد هذا المنهج في حق العلماء والدعاة؛ فالناس يميلون إلى الطَلْق البسّام البشوش. روي أن سفيان الثوري كان مَزَّاحًا.

وحال الرجل في التبسط بين خواص الجلساء غير حاله مع العامة، ولكل مقام مقال، فقد روى آخر عن سفيان أنه ما لقيه إلا باكيًا. وكما قال الذهبي: «كان رأسًا في الزهد والتأله والخوف، وهكذا يكون التوازن والقصد». (6انظر: «فقه الائتلاف» (ص 331) للأستاذ محمود خازندار، رحمه الله تعالى)

ثانيا: التوازن والعدل والوسطية في العفو والصفح

العفو والصفح خُلقان محمودان ورد الحثُ عليهما في الكتاب والسنة؛ قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: 40].

وقال عز وجل: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134].

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله رجلًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله». (7الترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في التواضع، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (1652))

مواقف الناس في العفو والصفح

والناس في هذا الخلق الكريم طرفان ووسط:

الطرف الأول: أهل الإفراط فيه والغلو

وهم الذين يضعون العفو في غير موضعه؛ إما أن يعفوا عمن لم يستحق العفو؛ كالظالم والمستهتر المتكبر المتغطرس الذي لا يزيده العفو إلا ظلمًا وتمردًا وغرورًا؛ فمثل هذا لا يصلح في حقه العفو.

وإما أن يكون العفو عن ذِلة ومهانة وعدم قدرة على رد الاعتداء؛ فهذا عفوه ليس محمودًا، وإنما هو عجز ومهانة، وتضييع للحقوق.

الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة

وهم الذين فرطوا في هذا الخلق الرفيع وأصبح ليس لهم هم إلا الانتقام من كل من أخطأ في حقهم، ولو كانت الهفوة منه زلة عابرة، أو خطأ غير مقصود؛ فلا يدفنون لمسلم زلة ولا يصفحون عمَّن ارتكب في حقهم مزلة.

الوسط العدل المتوازن

وهم الذين وضعوا العفو في موضعه الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه؛ فلم يتجاوزوا فيه الحد فيعفوا عمَّن لا يصلح في حقه العفو، ولم يكونوا ممن عفوهم ناشئ عن ذلة ومهانة وعجز ـ لا عن حلم وعفو واقتدار ـ ولم يفرِّطوا في هذا الخُلق حتى أضاعوه بسبب شهوة الانتقام والانتصار للنفس، بل هم على حظ كبير من هذا الخلق الذي يعفون به عن من ظلمهم أو أخطأ في حقهم ممن لم يكن الظلم مهنته ولا التكبر والغرور صفته، وإنما هو زلة عابرة أو خطأ غير مكرر أو مقصود.

ويبين الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، الفرق بين العفو الناشئ عن الجود والكرم مع قدرته على الانتقام، وبين العفو الناشئ عن الذل والعجز عن الانتقام فيقول:

“والفرق بين العفو والذل: أن العفو إسقاط حقك جودًا وكرمًا وإحسانًا مع قدرتك على الانتقام؛ فتؤْثر الترك رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق، بخلاف الذل؛ فإن صاحبه يترك الانتقام عجزًا وخوفًا ومهانة نفس؛ فهذا مذموم غير محمود، ولعل المنتقم بالحق أحسن حالًا منه؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾ [الشورى:39].

فمدحهم بقوتهم على الانتصار لنفوسهم، وتقاضيهم منها ذلك، حتى إذا قدروا على من بغى عليهم وتمكّنوا من استيفاء ما لهم عليه ندَبهم إلى الخُلق الشريف من العفو والصفح فقال: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى:40]. فذكر المقامات الثلاثة: العدل وأباحه، والفضلَ وندب إليه، والظلمَ وحرّمه.

قال بعض السلف في هذه الآية: «كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا». فمدحهم على عفو بعد قدرة، لا على عفو ذل وعجز ومهانة، وهذا هو الكمال الذي مدح سبحانه به نفسه في قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء: 149]». (8«الروح» (ص 513، 514) باختصار)

خاتمة

القصد في المزاح يحفظ الهيبة وييسر التعامل بين الخلق وينفي الكِبر. والقصد في العفو والصفح يمنع الأحقاد ويمنع المذلة ويمنع تعدي حدود الله. وتلك من نعم الله تعالى على العبد.

…………………………………….

الهوامش:

  1. الترمذي، في البر والصلة، باب: ما جاء في المزاح، وقال: حسن صحيح.
  2. البخاري (891).
  3. البخاري (3035)، ومسلم (2475).
  4. البزار (1977)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 124)، وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله: عن عبد الله المقبري واه.
  5. «سير أعلام النبلاء» (01/ 140-141).
  6. انظر: «فقه الائتلاف» (ص 331) للأستاذ محمود خازندار، رحمه الله تعالى.
  7. الترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في التواضع، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (1652).
  8. «الروح» (ص 513، 514) باختصار.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة