قد يغرن الكثير من المسلمين تقدم الغرب الكافر وتمكينهم ويظن أن اتباعهم يصل بهم إلى نفس النتيجة ولذلك نوضح مُقتضيات التمكين التي وعد الله لعباده..

تصحيح مفاهيم الإسلام هو أصل الإصلاح

حين نقول للناس: إن طريق الخلاص يبدأ بتصحيح مفاهيم الإسلام كلها بدءا بمفهوم لا إله إلا الله.. فنحن نعنى ما نقول على وجه التحديد..

إننا ندرك جيدا أن لنا مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وأخلاقية ضخمة إلى حد يدعو كثيرا من الناس إلى اليأس من الإصلاح.

ولكنا ندرك كذلك أن أي محاولة للإصلاح لا تضع في حسابها عودة الناس إلى حقيقة الإسلام، هي محاولة فاشلة من أول الطريق..

وتجربة قرن كامل كافية للإثبات..

إن الذين يطمعون في الإصلاح على الطريقة الغربية – الرأسمالية أو الشيوعية – بدعوى أن أوربا – بقسميها – تملك كل أسباب القوة والتمكين التي نحن محرومون منها، فعلينا أن نتبع طريقهم لنصل إلى ذات النتائج التي وصلوا إليها من القوة والتمكين.. هؤلاء يغفلون عن مجرى السُّنن الربانية في حياة البشر، لأنهم محجوبون عن نور الله، فيفكرون وهم محجوبون.

تمكين أوربا الكافرة تحقيق لسنن الله في الأرض

إن الذي يجري في أوربا الكافرة الجاحدة هو تحقيق لسنتين اثنتين على الأقل من سنن الله:

«فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِۦ فَتَحنَا عَلَیهِم أَبوَ ابَ كُلِّ شَیءٍ..» سورة الأنعام [44].

«مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَوٰةَ الدُّنيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيهِم أَعمَـٰلَهُم فِيهَا وَهُم فِيهَا لَا يُبخَسُونَ» سورة هود [15].

فقد كفرت أوربا، وفي الوقت ذاته رغبت في الحياة الدنيا وزينتها. وبذلت في سبيل ذلك جهدها، فمكن الله لها في الأرض حسب هاتين السنتين مجتمعتين.

ولكن يغفل «المصلحون» ذوو العقول المترجمة، عن أمرين معًا هما كذلك من سنن الله.

الأمر الأول أن الله لا يمكّن للمسلمين بالطريقة ذاتها التي يمكّن بها للكفار! إنما يمكن لهم فقط حين يستقيمون على طريقه.

«وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَیَستَخلِفَنَّهُم فِی ٱلأَرضِ كَمَا ٱستَخلَفَ ٱلَّذِینَ مِن قَبلِهِم وَلَیُمَكِّنَنَّ لَهُم دِینَهُمُ ٱلَّذِی ٱرتَضَىٰ لَهُم وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا یَعبُدُونَنِی لَا یُشرِكُونَ بِی شَیـًٔا …» سورة النور [55].

أما حين يبعدون عن طريقه فلا يمكن لهم حتى يعودوا مرة أخرى إلى الطريق.

والأمر الثاني أن هذا التمكين – على الكفر – لا يستمر إلى الأبد.. إنما هو مرحلة زمنية محدودة يقدرها الله – سبحانه وتعالى – ثم تكتمل السنة بالتدمير على الكافرين:«فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِۦ فَتَحنَا عَلَیهِم أَبوَ ابَ كُلِّ شَیءٍ حَتَّىٰۤ إِذَا فَرِحُوا بِمَاۤ أُوتُوۤا أَخَذنَـٰهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مُّبلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلقَومِ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا وَٱلحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلعَـٰلَمِینَ» سورة الأنعام [44-45]..

وقد بدأ اليوم يظهر للغرب ذاته أن حضارته آخذة في الانهيار، مهما بدا أن ذلك بعيد الحدوث!

«فَهَل یَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلأَوَّلِینَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبدِیلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحوِیلًا» سورة فاطر [43].

وذلك كله فضلا عن حقيقة ضخمة تغفل عنها أوربا الكافرة -لأنها كافرة- أما الذين يقولون إنهم مسلمون فلا ينبغي لهم أن يغفلوا عنها، وإلا أصبحوا – مثل «إخوانهم» – کافرین!

اقتصار متاع الكافرين على الحياة الدنيا فقط بينما وعد الله المسلمين متاع الدنيا والآخرة

إن الذي تستمتع به أوربا – على أنه محدود الأمد، وخال من البركة التي يخص بها الله المؤمنين وحدهم- هو متاع الحياة الدنيا وحدها، وليس لهم في الآخرة إلا النار:

«مَن كَانَ یُرِیدُ ٱلحَیَوٰةَ ٱلدُّنیَا وَزِینَتَهَا نُوَفِّ إِلَیهِم أَعمَـٰلَهُم فِیهَا وَهُم فِیهَا لَا یُبخَسُونَ * أُولَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ لَیسَ لَهُم فِی ٱلـَٔاخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِیهَا وَبَـٰطِل مَّا كَانُوا یَعمَلُونَ» سورة هود [15 – 16].

«وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا یَتَمَتَّعُونَ وَیَأكُلُونَ كَمَا تَأكُلُ ٱلأَنعَـٰمُ وَٱلنَّارُ مَثوًى لَّهُم». سورة محمد [۱۲].

أما المسلمون فإنهم لا يسعون لهذا! إنما وعدهم الله الاستخلاف والتمكين والتأمين في الأرض – وهو أقصى ما يطمع فيه الذين يريدون الحياة الدنيا – ووعدهم كذلك أن يفتح عليهم في الحياة الدنيا بركات من السماء والأرض، محجوبة عن الكفار مهما كثرت عندهم الخيرات، مع طمأنينة القلب التي يفتقدها الكفار لأن طريقها هو ذکر الله وهم لا يذكرونه.. ووعدهم فوق ذلك كله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ورضوان من الله أكبر:

«وَلَو أَنَّ أَهلَ ٱلقُرَىٰۤ ءَامَنُوا وَٱتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَیهِم بَرَكَـٰت مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلأَرضِ …» سورة الأعراف [96].

«ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا وَتَطمَىِٕنُّ قُلُوبُهُم بِذِكرِ ٱللَّهِ أَلَا بِذِكرِ ٱللَّهِ تَطمَىِٕنُّ ٱلقُلُوبُ» سورة الرعد [۲۸].

«وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلمُؤمِنِینَ وَٱلمُؤمِنَـٰتِ جَنَّـٰت تَجرِی مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا وَمَسَـٰكِنَ طَیِّبَة فِی جَنَّـٰتِ عَدن وَرِضوَ ان مِّنَ ٱللَّهِ أَكبَرُ ذَ لِكَ هُوَ ٱلفَوزُ ٱلعَظِیمُ» سورة التوبة [۷۲].

فمن ذا الذي يستبدل النار بالجنة، ويزعم بعد ذلك أنه من المسلمين؟!

طريق الإسلام -على ما فيه من مشقة- هو طريق الخلاص

طريق الخلاص هو تصحيح المفاهيم الإسلامية كلها بدءا بمفهوم لا إله إلا الله..

ولسنا نزعم للناس أن هناك عصا سحرية ستمتد إليهم فتحل لهم مشكلاتهم بمجرد أن يصححوا في نفوسهم مفاهيم الإسلام، ويعودوا – إلى ممارسته في عالم الواقع..

بل نحن ننذرهم حربا ضروسا يشنها العالم كله عليهم، كما يشن الكفر حربه على المسلمين اليوم في أفغانستان.. فضلًا عن الجهد “الموضوعي” الذي يجب أن يبذلوه لإيجاد الحلول العملية لمشكلاتهم، مستمدة من شريعة الله، ومنهجه الذي ينبغي أن يحكم الحياة، سواء في إزالة التخلف الاقتصادي او العلمي أو الحضاري او التكنولوجي أو الحربي أو الفكري أو السياسي.. الخ.. الخ.. الخ…

وهنا قد يقول قائل: إذا كنا سنبذل الجهد في الحالتين، فلماذا نتعب أنفسنا فوق الحد… لماذا لا نأخذ الحلول الجاهزة من أوربا – غربها أو شرقها على مزاج كل منا – ونوفر على أنفسنا عداء العالم كله لنا، والجهد الذي سنبذله في مواجهة ذلك العداء؟!

والجواب على هذا التساؤل هو تجربة قرن كامل!

قرن كامل لم تحل فيه المشاكل الأساسية بل زادت تعقدا وحدّة، فضلا عن المزيد من الهوان والذل والضياع والتيه..

وإنها لحماقة مُرة أن يستزيد الإنسان من السم، ويتوهم في كل مرة أنه مقبل على الشفاء!

أما طريق الإسلام فهو طريق شاق نعم.. مجهد نعم.. محفوف بالمخاطر نعم.. ولكنه طريق الأحرار..

أما طريق العبيد.. فهو طريق العبيد!

لا إله إلا الله ذات المقتضيات هي ما ندعو إليه وهي ما تُصحح واقع الناس

ولا إله إلا الله التي ندعو إليها ليست هي التي دعا إليها المرجئة القدامى أو المحدثون!

إن التي دعا إليها المرجئة – القدامى والمحدثون – وهي «التصديق والإقرار»، لا تغير شيئا من الواقع المر الذي يعيشه الناس اليوم، فضلا عن كونها هي التي تصد الشباب «المثقف» عن الإسلام، وتبعده عن الطريق الأوحد الذي يتحقق فيه الخير الحقيقي.. خير الدنيا والآخرة على السواء، لأننا حين نقول لذلك الشباب المفتون بالغرب إن المجتمعات القائمة اليوم إسلامية، وإن هذا الغثاء الذي يعيش اليوم هو «المسلمون».. فكيف نتوقع منه أن يتجه إلى الإسلام لحل مشكلة واحدة من مشكلاته؟! وكيف نطمع في أن يقيم وجهه، ويقيم رقبته الملوية نحو الغرب؟!

إنما لا إله إلا الله التي ندعو إليها هي التي أنزلها الله في كتابه المنزل، وعلّمها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه، ومارسها السلف الصالح رضوان الله عليهم.

إنها لا إله إلا الله ذات المقتضيات..

توحيد الاعتقاد. توحيد العبادة. توحيد الحاكمية. التخلق بأخلاق لا إله إلا الله. القيام بالتكاليف الربانية التي تشمل طلب العلم، وعمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني، وإعداد العدة لأعداء الله، ونشر الدعوة في الأرض، والجهاد في سبيل الله, للاستزادة انظر مقال: أهداف دين الإسلام والفكر الإرجائي نقيضان لا يجتمعان

وحين تبرأ لا إله إلا الله في قلوب الناس ما أصابها من الفكر الإرجائي، خاصة فكر المرجئة المحدثين الذي أفرغها من كل مقتضياتها على الإطلاق..

حين يصبح مقتضاها في حياة الناطقين بها أن يعبدوا الله وحده بلا شريك، وأن يقيموا حياتهم على شريعة الله ومنهجه، وأن يجاهدوا في الله حق جهاده…

يومئذ ستتغير حياتهم كلها.. وينفضون عنهم الهوان والذل. والضياع والتيه، والفقر والجهل والمرض، ويمكن الله لهم مرة أخرى في الأرض كما وعد الله سبحانه.. لا بعصا سحرية، ولكن بالجهد والعرق والدماء والدموع.. ولكنه لن يكون كالجهد الذي يبذلونه اليوم في التيه، والعرق الذي يبذلونه في الذل، والدماء التي يبذلونها ضريبة لذلك الذل، والدموع التي يسكبونها حسرة على الضياع..

إنما ستكون كلها في سبيل الله.. فيبارك الله بها في الحياة الدنيا.. ويجزي عليها في الآخرة بالجنة والرضوان.

المصدر:

كتاب “مفاهيم ينبغي أن تصحح” للأستاذ محمد قطب رحمه الله، ص163-171بتصرُّف يسير.

اقرأ أيضًا:

التعليقات غير متاحة