لقد أفرغت لا إله إلا الله من محتواها كله، ومقتضاها كله، وأصبحت كلمة تطلق في الهواء، ويتعلق بها ذلك «الغثاء» الذي تحدث عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيجرفه السيل، لا يملك نفسه منه.. لأنه بلا جذور!

مقدمة

إن جذور هذه الأمة التي تمكن لها في الأرض هي «لا إله إلا الله محمد رسول الله». فإن أفرغت هذه الجذور من محتواها الحقيقي، وظلت القشرة خاوية من المحتوى الحي، فهل يمكن أن تمسك بشيء، وهل يمكن أن تقاوم الدوامة الضارية التي يصنعها السيل؟ وهل تكون هي ذات الجذور التي أنبتت من قبل «خَیرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ»؟!

عوامل إفراغ لا إله إلا الله من محتواها الحقيقي

لقد عملت عوامل كثيرة خلال التاريخ الإسلامي الطويل لإفراغ لا إله إلا الله من محتواها الحقيقي..

فالتفلت من التكاليف، وعدم كفاية التذكير، والترف المتلف، والسلبية الصوفية، والاستبداد السياسي، والفكر الإرجائي، كل واحد من هؤلاء قد فعل فعله في إفراغ لا إله إلا الله من محتواها الحي على المدى الطويل.

التفلت من التكاليف طبع في البشر، تمده ثقلة الأرض.. ثقلة الشهوات.. وعلاجه هو التذكير: «وَذَكِّر فَإِنَّ ٱلذِّكرَىٰ تَنفَعُ ٱلمُؤمِنِینَ» سورة الذاريات [55].

فحين لا يكون التذكير كافيًا – في الدرجة أو في النوع – فإن التفلت من التكاليف يظل مستمرًا.. ثم يزداد.

والترف الذي أصاب المسلمين حين مُكنوا في الأرض، أرخی قبضتهم من حبل الله المتين.. فتفلتوا من التكاليف بحكم الرغبة في المتاع الأرضي، فكثرت البدع والمعاصي، وكلها خروج على مقتضيات لا إله إلا الله.

وجاء الفكر الصوفي رد فعل للترف، فخلص المتطهرون بأنفسهم من الدنس المستشري في المجتمع المترف، ولكنهم – من جانب آخر – انعزلوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأفرغوا لا إله إلا الله من جانب مهم من محتواها الحي..

وأسهم الاستبداد السياسي في إفراغ لا إله إلا الله من محتواها في الجانب ذاته، حين أصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يغضب المستبدين من ذوي السلطان، فيفتكون «بالمعارضين» الذين يعترضون على انحرافاتهم وتجاوزاتهم، فينحسر الناس إلى ذوات أنفسهم ويتحول الدين إلى ممارسة فردية، تركز على الجانب العبادي وحده، وينحسر عن صورته الجماعية، أي عن جانبه السياسي بصفة خاصة.. وينفصل ما بين «الدين» و «السياسة». وتصبح السياسة لا علاقة لها بلا إله إلا الله!

ثم يجيء الفكر الإرجائي فيغطي هذا الانحسار كله.. ويقول للناس: إن الإيمان هو التصديق والاقرار!

التخلي عن مقتضيات لا إله إلا الله سبب تمكُّن الغزو الصليبي من أرض الإسلام

وحين جاء الغزو الصليبي كانت لا إله إلا الله قد وصلت في نفوس المسلمين إلى حدها الأدنى الذي يحفظ المسلمين في داخل إطار الإسلام، مع وقوعهم في المعاصي والآثام، أي في حدود إقامة الصلاة وتحكيم شريعة الله.. وكان انحسارها في نفوس المسلمين إلى ذلك الحد هو الذي جاء بالصليبيين ومكن لهم في أرض الإسلام، فما كان لهم أن يغامروا بالمجيء، وما كان لهم أن يتمكنوا في الأرض، لو أن المسلمين كانوا على ذكر بمقتضيات لا إله إلا الله، عاملين بتلك المقتضيات في عالم الواقع. فإن من بين تلك المقتضيات – الكثيرة – إعداد العدة لأعداء الله، والإنفاق في ذلك السبيل:«وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا ٱستَطَعتُم مِّن قُوَّة وَمِن رِّبَاطِ ٱلخَیلِ تُرهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُم وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِم لَا تَعلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعلَمُهُم وَمَا تُنفِقُوا مِن شَیء فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیكُم وَأَنتُم لَا تُظلَمُونَ» سورة الأنفال [60].

ومن مقتضياتها – الكثيرة – طلب العلم الذي يؤدي إلى التمكين في الأرض.. فلا تمكين بغير علم: (طَلَبُ العِلمِ فَرِيضَة) 1أخرجه ابن ماجه.

ومن مقتضياتها التخلق بأخلاقيات لا إله إلا الله من الصدق والأمانة والإخلاص وإتقان العمل واحترام حقوق الغير والتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان.. الخ.. الخ.. وهي من أكبر أدوات التمكين في الأرض، كما أن فقدانها من أكبر عوامل البوار…

«وَلَا تَنَـٰزَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِیحُكُم» سورة الأنفال [46].

«وَٱعتَصِمُوا بِحَبلِ ٱللَّهِ جَمِیعًا وَلَا تَفَرَّقُوا» سورة آل عمران [۱۰۳].

« یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا لَا یَسخَر قَومٌ مِّن قَومٍ عَسَىٰۤ أَن یَكُونُوا خَیرًا مِّنهُم وَلَا نِسَاۤء مِّن نِّسَاۤءٍ عَسَىٰۤ أَن یَكُنَّ خَیرًا مِّنهُنَّ وَلَا تَلمِزُوۤا أَنفُسَكُم وَلَا تَنَابَزُوا بِٱلأَلقَـٰبِ بِئسَ ٱلِٱسمُ ٱلفُسُوقُ بَعدَ ٱلإِیمَـٰنِ وَمَن لَّم یَتُب فَأُولَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ * یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا ٱجتَنِبُوا كَثِیرًا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعضَ ٱلظَّنِّ إِثم وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا یَغتَب بَّعضُكُم بَعضًا أَیُحِبُّ أَحَدُكُم أَن یَأكُلَ لَحمَ أَخِیهِ مَیتًا فَكَرِهتُمُوهُ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّاب رَّحِیم» سورة الحجرات [۱۱ – ۱۲].

ومن مقتضياتها.. ومن مقتضياتها..

وكان الفراغ من تلك المقتضيات هو الذي أصاب المسلمين «بالتخلف العقيدي» الذي نشأ عنه التخلف العلمي والحضاري والمادي والاقتصادي والحربي والسياسي.. الذي أغرى الصليبيين بالمجيء، ثم مكن لهم في أرض

الإسلام.

رغبة الصليبية الحاقدة في إخراج المسلمين نهائيًا من الإسلام

ولكن الحد الأدنى الذي كان يحفظ المسلمين داخل إطار الإسلام – مع كل هذه المعاصي والآثام – لم يكن ليرضى الصليبية الحاقدة وفي أطوائها اليهودية الشريرة، ولم يكن ليطمئنها على مصير مخططاتها تجاه الإسلام:

«وَلَا یَزَالُونَ یُقَـٰتِلُونَكُم حَتَّىٰ یَرُدُّوكُم عَن دِینِكُم إِنِ ٱستَطَـٰعُوا..» سورة البقرة [۲۱۷].

«وَدَّ كَثِیر مِّن أَهلِ ٱلكِتَـٰبِ لَو یَرُدُّونَكُم مِّن بَعدِ إِیمَـٰنِكُم كُفَّارًا حَسَدًا مِّن عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ ٱلحَقُّ» سورة البقرة [۱۰۹].

نعم.. فوجود المسلمين في داخل إطار الإسلام، في هذا الحد الأدنى منه، مع كل البعد الذي ابتعدوه عن حقيقته الشاملة الهائلة، لا يُؤمَن معه أن يعودوا إلى تلك الحقيقة مرة أخرى، إذا بعث الله لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها، كما تتجدد الشجرة الذابلة حين تُتَعهد بالرعاية والسقي، ما دامت الجذور ما تزال في حيز الحياة: « أَلَم تَرَ كَیفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَیِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَیِّبَةٍ أَصلُهَا ثَابِتٌ وَفَرعُهَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ * تُؤتِیۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِینِ بِإِذنِ رَبِّهَا..»سورة إبراهيم [24 – 25].

قال جلادستون رئيس الوزارة البريطانية وقت دخول الإنجليز مصر مشيرًا إلى المصحف: «طالما كان هذا الكتاب في أيدي المصريين فلن يقر لنا قرار في تلك البلاد».

وقال توماس بين – المستشرق الأمریکي – في مقدمة كتابه «السيف المقدس»، بعد أن لخص تاريخ المسلمين وانتصاراتهم في آسيا وأفريقيا وأوروبا: «والآن تغير الحال، وصار المسلمون في قبضة أيدينا، ولكن ما حدث مرة يمكن أن يحدث مرة أخرى. وإن الشعلة التي أشعلها محمد (صلى الله عليه وسلم) في قلوب أتباعه، لهي شعلة غير قابلة للانطفاء..»

من أجل هذا عمل الصليبيون (واليهود في أطوائهم) لإخراج المسلمين نهائيًا من الإسلام لكي يأمنوا، ويطمئنوا، ويستريحوا، وإن كانوا ساروا على مخططهم المعروف: «بطيء ولكنه أكيد المفعولSlow but sure»، كما قال «کرومر» أول «معتمد بريطاني» في مصر:

«إن مهمة الرجل الأبيض الذي وضعته العناية الإلهية (!) على رأس هذه البلاد هي تثبيت دعائم الحضارة المسيحية إلى أقصى حد ممكن، بحيث تصبح هي أساس العلاقات بين الناس -أي بدلا من الإسلام-، وإن كان من الواجب – منعًا من إثارة الشكوك – ألا يعمل على تنصير المسلمين، وأن يرعى من منصبه الرسمي المظاهر الزائفة للدين الإسلامي، كالاحتفالات الدينية وما شابه ذلك»!

وتم لهم – في غفلة المسلمين – كل ما أرادوه، فبدأوا بتنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم، وانتهوا بتنحية المسلمين عن الصلاة، وانسحب «المسلمون» بذلك من كل ما كان قد بقي لهم من الإسلام، على المخطط البطيء.. الأكيد المفعول.

ولم يجد الفكر الإرجائي صعوبة كبيرة في تغطية الانسحاب.. فسمى المجتمعات الجاهلية – التي لا تحكم بما أنزل الله – مجتمعات إسلامية، وأطلق صفة الإسلام على كل من يقول بلسانه: لا إله إلا الله! إذ الإسلام هو مجرد التصديق وعلامته الظاهرة هي مجرد الإقرار!

المصدر:

كتاب “مفاهيم ينبغي أن تصحح” للأستاذ محمد قطب رحمه الله، ص121-128 بتصرُّف يسير.

الهوامش:

  1. أخرجه ابن ماجه.

اقرأ أيضًا:

التعليقات غير متاحة