مفاتيح التعامل مع القرآن، لا بدّ من الوقوف عليها ومعرفتها، واستخدامها في استخراج كنوز القرآن المذخورة فيه .. لقد حرصنا أن نضع هذه المفاتيح بين يدى أهل القرآن وجنوده وحملته، ليتعرفوا عليها، ويقفوا عليها، ويستخدموها في صلتهم بالقرآن، وتعاملهم معه، وأخذهم عنه، واستخراجهم لكنوزه ..

10 – غنى النصوص بالمعاني والدلالات

وصف الله كتابه الكريم بأنه مبارك فقال تعالى: (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) [الأنعام: 92] والبركة في هذا القرآن شاملة عامة، تسري في كل نص فيه، وتبرز في كل موضوع من موضوعاته، وتلحظ في كل جانب من جوانبه .. ولعل من مظاهر هذه البركة وصورها، البركة في نصوصه، حيث تجد النص قليلا في كلماته قصيرا في عباراته، لكنه غني في دلالاته، شامل في معانيه، عظيم في توجيهاته، عملاق في إيحاءاته ..

من أبرز سمات القرآن القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى

ولهذا كان من أبرز سمات القرآن في أسلوبه- كما يقول العلامة المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه الرائد «النبأ العظيم» – القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى، ولذلك كل أسلوب القرآن موجز إيجازا قاصدا، لا إطناب فيه ولا حشو ولا استطراد .. وإنك إذا نظرت إليه فستجد «بيانا قد قدّر على حاجة النفس أحسن تقدير، فلا تحس فيه بتخمة الإسراف ولا بمخمصة التقتير» – كما يقول الدكتور دراز- وحتى يتضح لك هذا يدعوك إلى أن تقوم بتمرين عملي على نصوص القرآن: «ضع يدك حيث شئت من المصحف، وعدّ ما أحصته كفك من الكلمات عدا، ثم أحص عدتها من أبلغ كلام تختاره، خارجا عن الدفتين، وانظر نسبة ما حواه هذا الكلام من المعاني إلى ذاك، ثم انظر: كم كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها من هذا الكلام دون إخلال بغرض قائله؟ وأي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها هناك»1(1) [النبأ العظيم: 105]..

غنى نصوص القرآن بدلالاتها وأصالتها وجمالها

ويتحدث الإمام سيد قطب عن غنى النصوص بدلالاتها وأصالتها وجمالها فيقول: «إن النص الواحد يحوي مدلولات متنوعة متناسقة في النص، وكل مدلول منها يستوفي حظه من البيان والوضوح، دون اضطراب في الأداء أو اختلاط بين المدلولات. وكل قضية وكل حقيقة تنال الحيز الذي يناسبها .. بحيث يستشهد بالنص الواحد في مجالات شتى، ويبدو في كل مرة أصيلا في الموضع الذي استشهد به فيه، وكأنما هو مصوغ ابتداء لهذا المجال ولهذا الموضع! وهي ظاهرة قرآنية لا تحتاج منا إلى أكثر من الإشارة إليها..»2(2) [الظلال: 3/ 1787]..

ولا بدّ للقارئ البصير الذي يريد أن يعيش إيحاءات القرآن وظلاله ولطائفه- من مفاتيح التعامل مع القرآن (3) – أن ينطلق من هذه القاعدة، وأن ينظر له بهذا المنظار، وأن يفتح كنوزه المذخورة بهذا المفتاح، فيتعرض لها ويلحظها ويعيشها ويشير إليها.

بركة القرآن عامة شاملة

الآية التي أوردناها قبل قليل- على سبيل المثال- كم من الدلالات والمعاني يمكن أن تستخرج منها؟ وكم من مظاهر البركة وصورها وألوانها يمكن أن تؤخذ منها؟ – على القاعدة البلاغية «حذف المعمول يفيد العموم» فالقرآن مبارك في كل شيء، بركة عامة شاملة- إنه مبارك في مصدره لأنه كلام الله، ومبارك في مكانه في اللوح المحفوظ، ومبارك في حامله جبريل عليه السلام، ومبارك في من يشيعه من الملائكة، ومبارك في من تلقاه وهو رسول الله عليه السلام، ومبارك في من استقر فيه وهو قلب الرسول عليه السلام، ومبارك في كلماته فهي قليلة في مبناها غنية في معناها، ومبارك في حجمه القصير وعلومه الغزيرة، ومبارك في علومه ومعارفه – ومكتبة التفسير وعلوم القرآن على طول التاريخ الإسلامي مصداق هذا- ومبارك في تشريعاته ومناهجه ومبادئه، ومبارك في رسالته ومهمته وأغراضه، ومبارك في أثره وتأثيره وآثاره .. إلى غير ذلك من صور البركة التي تجلت فيه ..

بركة القرآن في حجمه ومحتواه

يقول سيد قطب عن البركة في حجمه ومحتواه: «فإن هو إلّا صفحات قلائل بالنسبة لضخام الكتب التي يكتبها البشر، ولكنه يحوي من المدلولات والإيحاءات والمؤثرات والتوجيهات في كل فقرة منه، ما لا تحويه عشرات من هذه الكتب الضخام، في أضعاف أضعاف حيزه وحجمه! وإن الذي مارس فن القول عند غيره من بني البشر وعالج قضية التعبير بالألفاظ عن المدلولات، ليدرك أكثر مما يدرك الذين لا يزاولون فن القول، ولا يعالجون قضايا التعبير .. إن هذا النسق القرآني مبارك من هذه الناحية- وإن هناك استحالة في أن يعبر البشر في مثل هذا الحيز- ولا في أضعاف أضعافه- عن كل ما يحمله التعبير القرآني من مدلولات ومفهومات وموحيات ومؤثرات! وإن الآية الواحدة تؤدي من المعنى وتقرر من الحقائق، ما يجعل الاستدلال بها على فنون شتى من أوجه التقرير والتوجيه شيئا متفردا لا نظير له في كلام البشر ..»3(3) [الظلال: 2/ 1147]..

لو تدبر الناس سورة العصر لوسعتهم

سورة العصر- على سبيل المثال- من أقصر سور القرآن آياتها ثلاث، ومع ذلك غنية في معانيها حيث تكتب فيها كتب ومجلدات، وصدق الإمام الشافعي في وصفها: «لو تدبر الناس سورة العصر لوسعتهم».

كم سيخرج القارئ بزاد من المعاني والدلالات، وكم سيستنبط من الحقائق والتوجيهات، وكم سيقف على ثروة من القيم والتقريرات لهذه النصوص، عندما يتعامل معها على هذا الأساس، إنه سيحتاج إلى صفحات كثيرة ليسجل عليها ما أوحت له بها من إيحاءات ..

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [الإسراء: 17].

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) [المجادلة: 5].

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: 34].

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) [طه: 124].

11 – الاعتناء بمعاني القرآن التي عاشها الصحابة عمليا

نشأ الصحابة على القرآن الكريم، وعاشوا في ظلاله، وتذوقوا آياته، وتفاعلوا مع نصوصه، وأدركوا هديه، وأضاءت إليهم أنواره .. فكانوا جيلا قرآنيا فريدا.

وقد رووا أحيانا بعض ما كانوا يجدونه من تأثير القرآن فيهم، وما يعيشونه من إيحاءاته ومعانيه .. وهذا لا يمثل إلّا النزر اليسير الضئيل، فقد كان ما عاشوه من ذلك أضعاف أضعاف ما روي عنهم ..

ولكن تلك الروايات التي نقلت عنهم ذات دلالة على منهج تعاملهم مع القرآن وصلتهم به ونظرتهم إليه، ويمكن للقارئ أن يقتدي بهم في ذلك، وأن يحاول أن يجد من القرآن بعضا مما وجدوه، وأن يعيش فيه شيئا مما عاشوه .. واطلاعه على ما روي عنهم، أكبر عامل يساعده على اقتدائه بهم واحتذائه حذوهم، واتباعه خطواتهم.

ولقد سبق إيرادنا لقول ابن مسعود رضي الله عنه: «إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به».

الإيمان قبل القرآن

وقول عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «لقد عشنا دهرا طويلا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، فيتعلَّم حلالَها وحرامَها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فيَنْثُره نثْرَ الدَّقَل».

إن وقوف القارئ على تعامل الصحابة مع القرآن، واعتناءه بالمعاني والإيحاءات التي حصّلوها من الحياة في ظلال القرآن، يعرّفه كيف تقبل القلوب الطاهرة على القرآن وتتفاعل به، فيسعى ليكون واحدا من هؤلاء.

نماذج من تعامل الصحابة مع القرآن

والنماذج في هذا كثيرة، والأمثلة عليه وافرة، نقتطف منها ما يلى:

تحويل القبلة

روى مسلم وأبو داود عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي نحو بيت المقدس، فنزلت: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة: 144] فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر، قد صلوا ركعة، فنادى: ألا إن القبلة قد حولت، فمالوا كما هم ركوعا إلى الكعبة».

فهذه الرواية تدلنا على نظرة الصحابة للتوجهات والتكاليف الربانية، وعلى قلوبهم المتبوئة للإيمان وهي تتفاعل معها، وعلى الاستجابة الفورية في التنفيذ والالتزام.

فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟

وأخرج البخاري والترمذي والنسائي وأبو داود- والرواية لأبي داود- عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كنت إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فغشيته السكينة، فوقعت فخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فخذي، فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم سري عنه: فقال لي: أكتب، فكتبت في كتف: (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ..) [النساء: 95]، فقام ابن أم مكتوم- وكان رجلا أعمى- لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله: فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه، غشيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: اقرأ يا زيد. فقرأت: (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ..) الآية كلها. قال زيد، أنزلها الله كلها فألحقها» ..

أينا لم يظلم نفسه

وروى البخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) [الأنعام: 82] شق ذلك على المسلمين، وقالوا: أينا لا يظلم نفسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “ليس ذلك: إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)” [لقمان: 13].

كيف الفلاح بعد هذه الآية؟

وروى أحمد في مسنده عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله: كيف الفلاح بعد هذه الآية: (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء: 123]، فكل سوء عملناه جزينا به- وفي رواية أخرى قال: فلا أعلم قد وجدت انفصاما في ظهري حتى تمطيت لها! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما لك يا أبا بكر؟ فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله وأينا لم يعمل السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ قال: بلى! قال: فهو مما تجزون به».

أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا جهزوني يا بني

وروى ابن جرير الطبري قال: قرأ أبو طلحة رضي الله عنه سورة براءة، فأتى على هذه الآية: (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [التوبة: 41]، فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا جهزوني يا بني، فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلّا بعد تسعة أيام فلم يتغير، فدفنوه بها .. ».

هذا ويجد القارئ الأقوال والروايات عن الصحابة في ذلك في كتب التفسير بالمأثور، وفي كتب أسباب النزول، وفي كتب الأحاديث من الصحاح والسنن، وفي كتب السيرة وحياة الصحابة .. وهي كثيرة ..

الهوامش

(1) [النبأ العظيم: 105].

(2) [الظلال: 3/ 1787].

(3) [الظلال: 2/ 1147].

المصدر

“مفاتيح للتعامل مع القرآن”، د صلاح عبد الفتاح الخالدي: ص109-117.

اقرأ أيضا

من مفاتيح التعامل مع القرآن (1)

من مفاتيح التعامل مع القرآن (2)

من مفاتيح التعامل مع القرآن (3)

 

التعليقات غير متاحة