ثمة قوم انتبهوا لآفات القلوب ومزالق حبوط الأعمال ولم ينخدعوا بشهرة وبريق، وآخرون غفلوا وأنكروا، والمفاجأة يوم لقاء الله وقراءة ما في الصحف..!

مقدمة

القلوب مدار الأعمال، ففيها العلوم وفيها الإرادات، وكلاهما يحددان طبيعة العمل وصحته. وكم من آفة تدخل علينا في غفلة؛ ومن أعظمها وأبطئها خروجا من القلب الرياسة وحب الشهرة.

وهذا كان دأب السلف وتيقظهم لهذا الجانب لتصح أعمالهم ويبارك ربك لهم فيها..

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ يُوسف الأَصْبَهَانِيّ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ: «حَدِّثِ النَّاسَ وَعَلِّمهُم، وَلكن انظرْ إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَكَ كَيْفَ يَكُونُ قَلْبكَ؟». (1حلية الأولياء (8/ 234))

وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: كنتُ أجلسُ يومَ الجُمُعة في مَسْجِدِ الْجَامِعِ، فيجلس إليَّ النَّاس؛ فإذا كَانوا كثيراً فَرحتُ، وإذا قَلُّوا حَزنتُ، فسألتُ بشرَ بنَ منصور، فَقَالَ: هَذا مجلسُ سوء لا تعدْ إليه، قَالَ: فَمَا عُدتُ إليهِ.

وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يوماً ـ وقام من المجلس وتبعه الناس ـ فَقَالَ: يَا قومِ! لا تطؤوا عَقبي، ولا تمشوا خَلْفي. وَوَقَفَ فَقَالَ: حَدّثَنا أبو الأشهب عَن الحَسَنِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بنُ الخطّاب: إنَّ خَفْقَ النّعالِ خَلْفَ الأحمق قلَّ مَا يبقي مِنْ دِينهِ. (2حلية الأولياء (9/ 12) ، شعب الإيمان (2/ 310))

وقال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، رضي الله عنه: «أَخِّرُوا عَلَيَّ خَفْقَ نِعَالِكُمْ؛ فإنها مُفْسدةٌ لِقُلُوبِ نَوْكَى (3النُّوكُ: بالضم: الحُمْق؛ والأَنْوَك: الأحمق، وجمعه نَوْكَى) الرِّجَال». (4فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (1/ 548))

إنَّ المُسْلمَ وَخَاصةً العالِم المُرَبّي والدّاعية ـ لأنَّهُما عُرْضةٌ لخَفْق النّعالِ خَلْفَهُما أكثر مِنْ غَيرهِما ـ بحاجةٍ مُلحّة لتفقد قلبه وما يَرِدُ عَليهِ مِنْ خَطَرات وأفكار وهواجس؛ فالقلبُ إنَّما سُمي قلباً لكثرة تقلبهِ.

والمُسْلمُ الفطن لدينه يستشعرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال: 24) إنَّ هذه الآية تستوجب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، والاحتياط الدائم؛ اليقظة لخلجات القلب، والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافةَ أن يكون انزلاقاً، والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس. كما تستوجب التعلق الدائم بالله سبحانه مخافة أنْ يقلّب هذا القلب في سهوة من سهواته.

إنَّ هذه الآية تهز القلب حقاً، ويجد لها المؤمن رجفة في نفسه حين يخلو إليها لحظات ناظراً إلى قلبه الذي بين جنبيه، وهو في قبضة الواحد القهار، وهو لا يملك من تصريف قلبه شيئاً، وإن كان يحمله بين جنبيه.

تفاوت الناس في العناية بملاحظة القلب

وقد تفاوت الفضلاء في العناية بهذا الجانب أعني ملاحظة القلب وما يَرِدُ عليه:

صنفٌ لا يلتفت لهذا الأصل

وكأنه في مأمنٍ من هذه الخطرات والواردات، بل ربما عدَّ الخوف من هذا والعناية به ضرباً من الوسوسة والتنطع.

وهذا التصور فيهِ غفلةٌ عن نصوص الكتاب والسنة التي تبين أهمية القلب، وأنَّ عليه مدارَ القولِ والعملِ. وفي الحَدِيث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ». (5أخرجه: مسلم في صحيحه (4/ 1987 رقم 2564))

وأدلُّ شيءٍ عَلَى أهميةِ العنايةِ بالقلب وأحوالهِ قولُه صلى الله عليه وسلم: «أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ». (6أخرجه: البخاري في صحيحه (1/ 28 رقم 52) ، ومسلم في صحيحه (3/ 1219 رقم 1599) من حديث النُّعْمَان بْنِ بَشِيرٍ)

كمَا أنَّهُ فيهِ غفلةٌ عن سِيَر الصحابة والتابعين والعلماء المحققين الذين كانت لهم عناية عظيمة بجانب الإخلاص والصدق والخوف من الرياء والنفاق.

قال ابنُ رَجَب:

“كان الصحابة ومَن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر. كما تقدم أنَّ دسائس السوء الخلفية توجب سوء الخاتمة». (7جامع العلوم والحكم (1/ 58))

وتجد عند بعض هذا الصنف من الجرأة في إظهار النفس، وحب الشهرة ما يعجب منه الناظر، وقد قالَ إبراهيمُ بنُ أدهم: «مَا صَدَقَ اللهَ عَبْدٌ أحبَّ الشهرة». (8التاريخ الكبير للبخاريّ (4/ 363)):

– فمنهم من يسجل تلاوته ليُعرَف.

– ومنهم من يكتب ويؤلف ليشتهر.

– وربما يحزن هذا الصنف إذا رأى فلاناً يحضر عنده المئات والألوف من النّاس، وهو لا يحضر عنده إلاّ عددٌ قليل، وربما وَقَعَ في الحسد المحرم، ورُبّما استعدى عليه الولاة كما وقع ذلك من خصوم شيخ الإسلام ابنِ تيمية. قال الشيخُ بكر أبو زيد مبيناً ذلك:

“ولمَّا بلغ، رحمه الله، الثانية والثلاثين من عمره وبعد عودته من حجته، بدأ تعرضه، رحمه الله، لأخبئة السجون، وبلايا الاعتقال، والترسيم عليه الإقامة الجبرية خلال أربعة وثلاثين عاماً، ابتداء من عام (693هـ) إلى يوم وفاته في سجن القلعة بدمشق يوم الاثنين (20/11/728هـ)، وكان سجنه سبع مرات: أربع مرات بالقاهرة وبالإسكندرية، وثلاث مرات بدمشق، وجميعها نحو خمس سنين، وجميعها كذلك باستعداء السلطة عليه من خصومه الذين نابذ ما هم عليه في الاعتقاد والسلوك والتمذهب عسى أنْ يفتر عنهم، وأنْ يُقصر لسانه وقلمه عمَّا هم عليه، لكنه لا يرجع». (9الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيميّة (ص 28))

وهذا المُعجب لا يقنع بأن يكونَ عضواً في لجنة، بل لا بدَّ أن يكون رئيساً يُرجع إليه في هذه اللجنة. فليتنبه الدعاة الفضلاء الذين يتنافسون على رئاسة المراكز الإسلامية لهذا المدخل على قلوبهم، والذي ربما كان على حساب دينهم وقلوبهم.

كَانَ مُحَمَّدُ بنُ إبراهيم الكَرْجيّ، يَقولُ لسبط أخيهِ ـ والنّاس ينتابون بابه على طبقاتهم لسؤدده: يا أسفي على ابن أبي القاسم..! سَالَ بهِ السيلُ أينَ هُوَ والحالة هذه مِنْ دِينهِ؟

وكان يقولُ إذا خلا بهِ: يا بنيَّ! عليك بدينك؛ فإن خَفْقَ النّعالِ خَلْفَ الإنسان، وعلى بَابِ دَارهِ، مَعَاول تهدم دينه وعقله. (10التدوين في أخبار قزوين (1/ 149))

– ورأيه هو الصواب المعتمَد، ورأي غيره خطأ دائماً.

– وأيّ كتابٍ أوْ مَقال يُعْرضُ عليه: ضعيف.

– وأي محاضرة: هزيلة.

– وأيّ عالمٍ أو طالبِ علمٍ أو داعيةٍ: منهجه كيتَ وكيت..، عنده قصور في كذا وكذا.. مِنْ غيرِ عَدلٍ ولا نَصَفة.

فهو لا يُبقي ولا يذر.

عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وعنده رَجلٌ، تخوَّفتُ إنْ قمتُ مِنْ عنده أنْ يَقَعَ فيَّ، قَالَ: فَجَلَستُ حَتى قَامَ؛ فَلمَّا قَامَ ذَكرتُهُ لإيَاس قَالَ: فَجَعَلَ يَنْظر في وَجهي، وَلا يقولُ لي شيئاً حَتى فَرغتُ، فَقَالَ لي:

أغزوتَ الدَّيْلمَ؟ قُلتُ: لا، قَالَ: فغزوتَ السِّند؟ قُلتُ: لا، قَالَ: فغزوتَ الهند؟ قُلتُ: لا، قَالَ: فغزوتَ الرُّوم..؟ قُلتُ: لا، قَالَ: يَسْلمُ مِنْكَ الدَّيلم والسِّند والهند والرُّوم، وَلَيسَ يَسْلمُ مِنْكَ أَخُوكَ هذَا..؟!! قَالَ: فلمْ يَعُدْ سُفْيَانُ إلى ذاكَ». (11شعب الإيمان (5/ 314) ، تاريخ مدينة دمشق (10/ 18) ، قلتُ: وهذا أسلوبٌ تربويٌّ عميق ولطيفٌ، ولكَ أنْ تتصور أخي الكريم حالنا لو فعلنا كما فعل إياس عند مَنْ جعَلَ أعراض الناس فاكهةً له، هل تراه يعود؟!)

صنفٌ بالغَ في الحذر والتحري

حتى وصل به الأمر إلى ترك بعض العبادات والعمل، وربما حصل لهذا الصنف نوعٌ من الوسوسة، وقد قال بعضُ العلماء: الوسوسة إنما تحصل للعبد من جهل بالشرع أو خبل في العقل، وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب.

قال ابنُ رَجَب:

“والقدْرُ الواجبُ مِن الخَوفِ مَا حَمَلَ عَلَى أداءِ الفَرائضِ وَاجتنابِ المَحَارمِ؛ فَإنْ زَادَ عَلَى ذَلكَ بحيث صَارَ بَاعِثاً للنّفوسِ عَلَى التشميرِ في نوافل الطاعاتِ وَالانكفافِ عَنْ دقائق المكروهاتِ وَالتبسطِ في فُضولِ المُبَاحاتِ كَانَ ذَلكَ فَضْلاً مَحْموداً، فَإنْ تَزايدَ عَلَى ذَلكَ بأنْ أورثَ مَرَضاً أوْ مَوتاً أوْ هَمّاً لازماً بحيث يَقْطعُ عَنْ السّعي في اكتسابِ الفضائلِ المطلوبةِ المحبوبةِ لله عز وجل لم يكنْ مَحْموداً..

والمقصودُ الأصلي هُوَ طاعةُ الله عز وجل وَفعل مراضيه ومحبوباته، وترك مناهيه ومكروهاته، وَلا نُنكر أنَّ خشيةَ اللهِ وَهيبته وعظمته في الصدور وإجلاله مقصودٌ أيضاً، ولكن القدْر النافع من ذلكَ مَا كَانَ عوناً عَلى التقرب إلى الله بفعل ما يحبه، وترك ما يكرههُ، وَمَتى صَارَ الخوفُ مانعاً مِنْ ذلكَ وقاطعاً عنه فَقد انعكس المقصود منه، وَلكنْ إذَا حَصَلَ ذَلكَ عَنْ غَلَبة كَانَ صاحبه مَعْذوراً». (12التخويف من النار (ص: 20))

صنفٌ توسط واعتدل

فلم يُغِفل هذا الجانب، وكذلك لم يبالغ في الحذر، بل يعمل ويدَعُ، ويتحرز من تقلُّب القلب؛ فهو دائماً يدعو: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ. وَمِنْ عَلاَمةِ هذا الصنف أنَّه لا يبالي إذا ظَهَرَ الحق والخير على لسان مَنْ كان. قال الإمام الشافعي: «ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفَّقَ ويُسدَّد ويُعان، وما كلمت أحداً قط إلا ولم أبالِ بَيّنَ الله الحق على لساني أو لسانه». (13آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم (ص 326)، حلية الأولياء (9/ 118)، والفقيه والمتفقه (2/ 26)) ، وقال أيضاً: «ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ».

خاتمة

لا تغفل عن قلبك؛ فازدحام الخلق والحديث عليه مؤقت، وغدا يفرغ لأمر عظيم. والخير أن يفرغ له اليوم.

………………………….

الهوامش:

  1. حلية الأولياء (8/ 234).
  2. حلية الأولياء (9/ 12) ، شعب الإيمان (2/ 310).
  3. النُّوكُ: بالضم: الحُمْق؛ والأَنْوَك: الأحمق، وجمعه نَوْكَى.
  4. فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (1/ 548).
  5. أخرجه: مسلم في صحيحه (4/ 1987 رقم 2564).
  6. أخرجه: البخاري في صحيحه (1/ 28 رقم 52) ، ومسلم في صحيحه (3/ 1219 رقم 1599) من حديث النُّعْمَان بْنِ بَشِيرٍ.
  7. جامع العلوم والحكم (1/ 58).
  8. التاريخ الكبير للبخاريّ (4/ 363).
  9. الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيميّة (ص 28).
  10. التدوين في أخبار قزوين (1/ 149).
  11. شعب الإيمان (5/ 314) ، تاريخ مدينة دمشق (10/ 18) ، قلتُ: وهذا أسلوبٌ تربويٌّ عميق ولطيفٌ، ولكَ أنْ تتصور أخي الكريم حالنا لو فعلنا كما فعل إياس عند مَنْ جعَلَ أعراض الناس فاكهةً له، هل تراه يعود؟! .
  12. التخويف من النار (ص: 20).
  13. آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم (ص 326)، حلية الأولياء (9/ 118)، والفقيه والمتفقه (2/ 26).

المصدر:

  • د. علي بن عبد الله الصياح، مجلة البيان، العدد: 200.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة