التلاقي في الله ليس معنى روحيا هائما؛ بل هو رابطة وعقيدة ومحور تجمع، يتمثل فيه تكريم الإنسان، ويتقرب به الى الله، وتكتمل به امتداد أمة.

ولاء العقيدة تكريم

إقامة الكيان السياسي الذي يكون محوره هذا الدين الحق والرسالة الخاتمة هو تكريم للإنسان للالتقاء على العقيدة الصحيحة الكريمة، وليس التلاقي القومي المتعصب على حدود مرعى أو سياج قطيع، فأكرم ما في الإنسان عقيدته واختياره لاتجاهه، بينما هو لا يملك اختيار قومه ولا وطنه.

يقول الأستاذ الشهيد رحمه الله:

“عقيدة المؤمن هي وطنه، وقومه، وهي أهله.. ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج..!”. (1تفسير في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب، المقدمة ص 12)

هذا التجمع هو تجمع “أمة” وليس تعصبا؛ وهو تجمع يسمح لأصحاب العقائد الأخرى بالعيش في ظلاله بشرط علو كلمة الله وشرعه، وهو تجمع يذيب الفوارق العصبية للجنس واللون والقومية واللغة في أمة واحدة لمن أسلم وآمن بهذه العقيدة.

وهذا يتأكد مع سماحة الإسلام وعدله وإنصافه مع غير المسلمين الذين يعيشون تحت سلطانه ومع غير المسلمين خارج سلطانه وغير المحاربين له لعموم قوله تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج:77] ولقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:104].

أمة واحدة

جاء في كتاب «هذا الدين» للأستاذ سيد قطب:

“وجاء الإسلام فوجد الناس يتجمعون على آصرة النسب، أو يتجمعون على آصرة الجنس، أو يتجمعون على آصرة الأرض، أو يتجمعون على آصرة المصالح والمنافع القريبة… وكلها عصبيات لا علاقة لها بجوهر الإنسان، إنما هي أعراض طارئة على جوهر الإنسان الكريم.

وقال الإسلام كلمته الحاسمة في هذا الأمر الخطير، الذي يحدد علاقات الناس بعضهم ببعض تحديداً أخيراً.

قال: إنه لا لون ولا جنس، ولا نسب ولا أرض، ولا مصالح ولا منافع، هي التي تجمع بين الناس أو تفرق؛ إنما هي العقيدة. هي علاقتهم بربهم التي تحدد علاقتهم بعضهم ببعض. فعلاقتهم بالله هي التي منحتهم إنسانيتهم؛ ومن ثم فهي التي تقرر مصائرهم في الدنيا والآخرة سواء.

إن هناك حزبين اثنين في الأرض كلها: حزب الله وحزب الشيطان.

حزب الله الذي يقف تحت راية الله ويحمل شارته. وحزب الشيطان وهو يضم كل ملة وكل فريق وكل شعب وكل جنس وكل فرد لا يقف تحت راية الله.

والأمة هي المجموعة من الناس تربط بينها آصرة العقيدة. وهي جنسيتها؛ وإلا فلا أمة، لأنه ليست هناك آصرة تجمعها… والأرض، والجنس، واللغة، والنسب، والمصالح المادية القريبة، لا تكفي واحدة منها، ولا تكفي كلها لتكوين أمة، إلا أن تربط بينها رابطة العقيدة”. (2هذا الدين، سيد قطب، ص 87 – 90)

إنسانية واحدة

يقول سيد قطب رحمه الله عن أثر الإسلام في التوجه الإنساني، فيقول:

“جاء الإسلام ليقول للناس: إن هناك إنسانية واحدة، ترجع إلى أصل واحد، وتتجه إلى إله واحد. وإن اختلاف الأجناس والألوان، واختلاف الرقعة والمكان، واختلاف العشائر والآباء… كل أولئك لم يكن، ليتفرق الناس ويختصموا، ويتحوصلوا وينعزلوا. ولكن ليتعارفوا ويتآلفوا؛ وتتوزع بينهم وظائف الخلافة في الأرض؛ ويرجعوا بعد ذلك إلى الله الذي ذرأهم في الأرض واستخلفهم فيها.

وقال لهم الله سبحانه في القرآن الكريم: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:13]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء، وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ. إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾ [الروم:22].

ولم تكن هذه مبادئ نظرية؛ ولكنها كانت أوضاعاً عملية؛ لقد انساح الإسلام في رقعة من الأرض فسيحة؛ تكاد تضم جميع الأجناس وجميع الألوان، وذابت كلها في النظام الإسلامي. ولم تقف وراثة لون، ولا وراثة جنس، ولا وراثة طبقة، ولا وراثة بيت، دون أن يعيش الجميع إخواناً؛ ودون أن يبلغ كل فرد منهم ما تؤهله له استعداداته الشخصية. وما تكفله له صفته الإنسانية.

واستقر هذا الخط العريض في الأرض؛ بعد أن كان غريباً فيها أشد الغرابة، ومستنكراً فيها كل الاستنكار.. وحتى بعد انحسار المد الإسلامي لم تستطع البشرية ان تتنكر له كل التنكر؛ ولم تعد تستغربه كل الاستغراب». (3هذا الدين، سيد قطب، ص 79 – 82)

من حق البشرية علينا إقامة الولاء الإسلامي

إن من حق البشرية علينا والواجب علينا نحوهم أن يروا «منهج الله والالتقاء عليه» يتحقق، كما تحقق على مدار أكثر من ألف سنة.. أمة تجمع أجناسا وألوانا وقوميات على “لا إله إلا الله”.

إن إقامة هذا الكيان هو نعمة ضخمة لنا وللبشرية، قال يوسف عليه السلام: ﴿مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ، ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ [يوسف:38]، فترْك الشرك نعمة لأهله وللخلق حيث ينتصب دعاة إلى الحق يتمثلون المنهج الرباني شريعةً وهويةً، يدْعون الناس إلى منهج مطبق وشريعة مُعاشة؛ فترى الحق متجسدا في صورة كيان عضوي وسياسي، ومنهج وهوية، ونظام اجتماعي واقتصادي وقيمي وثقافي؛ فمن حق العقيدة الصحيحة أن تتمثل في كيان يمثلها ويقوم على أساسها كنظام وانتماء، تحكمه وتوجهه شريعة ومنهج رب العالمين ويلتقي فيه الناس على هذا الأصل العظيم إخوةً في الله.

من حق البشرية أن ترى هذا الحق متجسدا في ممارسة لكافة مناحي الحياة في حدود طاقة البشر، ليكون أمامها بدائل للاختيار فلا تنحصر في اختيارات أرضية منحرفة ومنفلتة من دين رب العالمين وخطابه، تتقلب بين الإباحية والإلحاد والتمرد على الله تعالى والمخاصمة معه والافتراء عليه.

من حق البشرية علينا ومن واجبنا نحوها أن ترى أثر قيادة منهجه في السياسة، وفي اقتصادها وفي واقعها الاجتماعي والأخلاقي وفي نشاطها الفني والأدبي، وفي سعة الأفق وسمو وجمال وتوازن التصورات والعقيدة الربانية.

لقد أقامت الشيوعية دولا تطبق نظرياتها ومنهجها الفاشل، وأقام اليهود من إرث محرَّف تماما من التلمود والمزاعم المحرفة دولة راحوا يبحثون بعد إقامتها عن مزاعمهم التاريخية بالحفر والآثار فلم يجدوا؛ ليؤكدوا أنها ترَّهات وخرافات؛ لكنهم أقاموا عليها دولة..!

بحثت أوروبا في ميراث أثينا وأسبرطة القديمة وأقاموا عليها حضارة عصر النهضة، رغم انقطاع وجودها أكثر من ألف وستمائة عام.

وأقام اليابانيون والصينيون لبوذا وكونفيشيوس دولا قامت عليها..

أقامت الرافضة المجوس دولة قائمة على معتقداتهم، وتغلبوا على خرافة الطفل الذي دخل سردابا منذ أكثر من ألف سنة ينتظرونه ليتحركوا خلفه، فلما وجدوا مستقبلهم مهددا أمام هذه الخرافة حلوا هذه المعضلة بفتوى أو رؤية من أحد قياداتهم الدينية وانطلقوا يقيمون دولة لها مكانة دولية، تمثل هويتهم وتسعى لمصالحهم وتخطط من أجلهم، بلا تبعية، وهم في هذا مصممون على خرافاتهم يذهبون الى السرداب كل عام ينادون على الطفل ليخرج، ويدعو رؤوساؤهم الحمقى، في كل لقاء عام، بفك كربه وتعجيل عودته..!

وبقي الإسلام ممنوعا من إقامة دولة قائمة على شريعته وهويته ونظامه ومنهجه، تصطف القوى كلها والمعسكرات والأحزاب المجرمة دون عودته.. فعجبا أن يُمنع المنهج الحق من الظهور وتبقى الخرافات والإرث الوثني يقيم ما يشاء..! بينما لم ينقطع الوجود السياسي الشرعي للإسلام عن الوجود سوى تسعين عاما، مع حفظ أصوله ومع تجربة عملية طويلة ومتنوعة ومؤثرة؛ بل وعجبا أن يخجل أصحابه من هذا..!

خاتمة

والحق أنه.. “ليس في إسلامنا ما نخجل منه، وما نضطر للدفاع عنه، وليس فيه ما نتدسس به للناس تدسساً، أو ما نتلعثم في الجهر به على حقيقته.

إذا كان هناك من يحتاج للدفاع والتبرير والاعتذار فليس هو الذي يقدم الإسلام للناس، وإنما هو ذاك الذي يحيا في هذه الجاهلية المهلهلة المليئة بالمتناقضات وبالنقائض والعيوب، ويريد أن يتلمس المبررات للجاهلية.

وهؤلاء هم الذين يهاجمون الإسلام ويلجئون بعض محبيه الذين يجهلون حقيقته إلى الدفاع عنه، كأنه متهم مضطر للدفاع عن نفسه في قفص الاتهام!”. (4معالم في الطريق، سيد قطب، ص 92)

…………………………….

الهوامش:

  1. تفسير في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب، المقدمة ص 12.
  2. هذا الدين، سيد قطب، ص 87 – 90.
  3. هذا الدين، سيد قطب، ص 79 – 82.
  4. معالم في الطريق، سيد قطب، ص 92.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة