في كل أمة متميزون، يبرزون كإفراز طبيعي، وعلى الأمة والعلماء البحث عنهم، وتربيتهم تربية خاصة، والتدرج في ذلك والتوازن.

مقدمة

لا تزال الأمة الإسلامية بحاجةٍ إلى “الرواحل المتميزة”، المنتِجة، ذات الكفاءة العالية والأداء المتقن؛ لأنها الأَوْلى بحمل مسؤولية راية الإصلاح الدعوي والتربوي لأوضاع الأمة المتردِّية.

ومِنْ ثَمّ فهي تفرض نفسها على الآخرين بتميُّزها وإنتاجها، ونفاسة معدنها، ونُدرتها ونَجابتها.

ويتصور أنها هي الـمُعَوَّل عليه دائماً ـ بعد الله ـ في إنجاح الأعمال وإتمامها؛ لا سيما وأنها نادرة الوجود، قليلة الحضور في المشهد الواقعي. وهي بحاجة إلى صيّاد ماهر يكتشفها، ويرعاها، ويُحسن الاستفادة منها.

«ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يُلْقُون شَبَك الاجتهاد لصيد طالبٍ ينتفع الناس به في حياتهم ومن بعدهم. ولو لم يكن للعالم إلا طالبٌ واحدٌ ينتفع الناس بعلمه وهديه وإرشاده لكفاهُ ذلك الطالب عند الله تعالى؛ فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحدٍ فينتفع به إلا كان له نصيبٌ من الأجر». (1تذكرة السامع والمتكلم ص63)

قيمة الكفاءات

ومن ظفر بإحدى هذه “الرواحل” فقد ظفر بكنزٍ ثمينٍ؛ لِـمَن عرف أهميتها ودورها المنشود في الإصلاح. والمغبونُ من يُفرِّط فيها بعد الظفر بها.

ومن تأمل بعضَ أحاديث “الرواحل” يجد هذا المعنى واضحاً جلياً؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تجدون النّاس كإبلٍ مئةٍ لا يجد الرجلُ فيها راحلة». (2صحيح مسلم 232)

قال القارئ رحمه الله:

“فاللام للجنس (لا يجد الرجل فيها)؛ أي: في مئة من الإبل (راحلة)؛ أي: ناقةٌ شابّةٌ قويّةٌ مرتاضةٌ تصلح للركوب.

فكذلك لا تجد في مئة من الناس من يصلح للصحبة وحمْل المَودّة وركوب المحبة؛ فيعاون صاحبه، ويلين له جانبه.

وفي رواية عند البخاري من حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِئَةِ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً». (3صحيح البخاري 6498)

و«راحلة» الجمل النجيب الذي يصلح لسير الأسفار ولحمل الأثقال. ومعنى الحديث: يأتي زمان يكون الناس فيه كثيرين، ولكن المرضيَّ منهم والذي يلتزم شرع الله قليلٌ؛ شأنَ الإبل الكثيرة التي تبلغ المئة ولا تكاد توجد منها واحدة تصلح للركوب والانتفاع بها.

أو المراد: أن الناس دائماً شأنهم هكذا الصالح فيهم قليل”. (4انظر فتح الباري ج11 ص335، وشرح النووي على مسلم ج16 ص101، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ج8 ص140)

وقال السعدي رحمه الله:

“هذا الحديث مشتمل على خبرٍ صادقٍ، وإرشادٍ نافعٍ.

أما الخبر؛ فإنه صلى الله عليه وسلم أخبَرَ أن النقص شاملٌ لأكثر الناس، وأن “الكاملَ” أو “مقاربَ الكمال” فيهم قليل؛ كالإبل المئة؛ تستكثرها؛ فإذا أردت منها راحلة تصلح للحمل والركوب، والذهاب والإياب، لم تكد تجدها. وهكذا الناس كثيرٌ؛ فإذا أردت أن تنتخب منهم من يصلح للتعليم أو الفتوى أو الإمامة، أو الولايات الكبار أو الصغار، أو للوظائف المهمة، لم تكد تجد من يقوم بتلك الوظيفة قياماً صالحاً.

وهذا هو الواقع؛ فإن الإنسان ظلوم جهول، والظلم والجهل سببٌ للنقائص، وهي مانعة من الكمال والتكميل.

وأما الإرشاد: فإن مضمون هذا الخبر إرشادٌ منه صلى الله عليه وسلم  إلى أنه ينبغي لمجموع الأمة أن يسعوا ويجتهدوا في تأهيل الرجال الذين يصلحون للقيام بالمهمات، والأمور الكلية العامة النفع. فالوظائف الدينية والدنيوية، والأعمال الكلية، لا بد للناس منها. ولا تتم مصلحتهم إلا بها، وهي لا تتم إلا بأن يتولاها الأكفاء والأمناء.

وذلك يستدعي السعي في تحصيل هذه الأوصاف بحسب الاستطاعة. قال الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]”. (5بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخبار، عبد الرحمن السعدي، ص219)

المعنيون بوصف “الرواحل”

ما نعنيه من الرواحل في هذه المقالة هم: “الأحداثُ الأكفاءُ الأمناءُ”، أصحابُ الأعمار الشابة، والسواعد الفتية، والنفوس المتوقدة، والهمم العالية، والإرادة القوية، والطموح الذي يتعدى الزمن. من يُغلقون الملفات العالقة ويحسمون المواقف المتأزمة؛ كأنهم بسبقهم ونشاطهم وحيويتهم خليةُ نَحلٍ متحركة.

إلا أنّ تميُّزَهم وندرتَهم وتحمُّلَهم للأعباء وإنجازَهم للمهام، وسبْقَهم في ذلك كله ولَّد صورة ذهنية نمطيةً سلبيةً لدى بعض المربّين العاملين في الحقل التربوي والدعوي؛ ألا وهي: “الإفراط في التفويض”.

حيث حمّلوهم ما لا يحتملون، وكلّفوهم ما لا يطيقون، وأثقلوا  كاهلَهم بالأحمال والمسؤوليات التربوية والدعوية التي قد تقصِمُ ظهورهم وتُسقطهم أو تشوِّهَهم؛ لاسيما مع قلة الخبرة، وضعف التجربة، وعدم متابعة مربّيهم، وتجاهُل تحفيزهم ومؤازرتهم.

فلا تسأل عن الأمراض التي تعتري قلوبهم؛ مِنْ غُرور، وعُجْبٍ، وغير ذلك. وكذا التوقُّف عن الأخذ والتلقِّي؛ فليس هناك وقتٌ أو مجال لذلك. ومِنْ ثَمّ فهم بعيدون عن الارتقاء والتطور الذاتي؛ بل ربما نفذ رصيدهم يوماً من الأيام، فيتوقفون عن العطاء، وينقطعون عن الأعمال، ويعتذرون. وفاقد الشيء لا يعطيه.

هذا فضلاً عن إصابتهم بالملل والسآمة بسبب كثرة المهام والتكاليف، وعدم إتقان الأعمال والمسؤوليات التي كُلفوا بها؛ لكثرتها.

وكذلك وقوعهم في التفريط؛ بسبب تكليفهم فوق طاقتهم.

وأيضاً فقدان روح الجِدة والإبداع والتطور في أعمالهم؛ لأنهم يريدون الإنجاز فقط؛ لكثرة الأعمال والمسؤوليات، وليس عندهم وقت للتفكير التطويري والإبداع العملي، عدا التفريط في الحقوق الواجبة للوالدين، والأسرة، والقرابة، والجيرة، ومن هم أولى بالمعروف من غيرهم.

دور المربين

أيّها المربون الكرام، رفقاً بالرواحل، ولْنَسْتَبْقِ الظهر، ولا نكن كالمنبتَّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع. هؤلاء الرواحل هم في الحقيقة رأس المال، ومن الغَبْن أن نفرّط في رأس المال من أجل ربحٍ متوقَّعٍ غير مضمون. فدونكم وصية النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرّفقَ لا يكون في شيء إلَا زانَه، ولا يُنزَع من شيءٍ إلَا شانه». (6صحيح مسلم 2594)

فيمكن تحقيق هذه المطالب برفق؛ وذلك باستحضار “خصائص التربية” أثناء تربيتهم؛ كالتراكُمية، والمرحلية، والتدرُّجية في التكليف.

وحتى لا يقع المربون في هذا العطب، وحتى يتفادوا هذا الزلل، ولا يقعوا في الهدْر التربوي، وتسرُّب الطاقات الفعّالة المنتجة؛ لا بد أن يدرك المربون الضابطَ الذي يقيهم من ذلك بإذن الله؛ وهو ألّا يوقِعوا المتربين (الصف الثاني) في الحَرَجِ؛ بأنْ يُرهقوهم بالتكليفات، والمهام، والمسؤوليات.

ونعني بالحرج: كلّ ما أدى إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال.

والمشقة الزائدة هي: التي تشوِّش على النفوس في تصرُّفها، ويقلقها هذا العمل بما فيه من هذه المشقة.

فيُلاحَظ وجود أحد أمرين: الانقطاع عن العمل، أو وقوع الخلل.

بين الانقطاع عن العمل أو حدوث الخلل

ولتوضيح الأمر، وتبسيطه يُقال:

الأمر الأول: الانقطاع عن العمل

ويتحقق الانقطاع عن العمل بأحد مظهرين:

السآمة والملل

وقد أشار إلى ذلك النبي  صلى الله عليه وسلم بقوله: «يَا أَيها النَّاس، خُذوا من الأعمال ما تُطيقون؛ فإِن اللَّهَ لا يَملُّ حتّى تَمَلوا، وإن أَحَب الأعمال إلى اللَّه ما دامَ وإنْ قَلّ». (7صحيح البخاري 5861)

وعَنْ شَقِيقٍ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: «كان عبد الله يُذكِّرُنا كل يوم خميسٍ. فقال له رجل: يا أبا عبد الرَّحمن، إنّا نحب حديثك ونشتهيه، ولَوَدِدنا أنّك حدّثتَنا كلّ يومٍ. فقال: ما يمنعُني أن أحدّثكم إلا كراهيَة أن أُمِلّكم؛ إن رسولَ الله كان يتخَوَّلُنا بالموعظة في الأيّام، كراهية السآمة علينا». (8صحيح مسلم 2821)

كما ينبغي على المربين أن يستحضروا إبّان تكليف المتربين بالأعمال مدى إقبالهم وإدبارهم، ونشاطهم وكسلهم؛ فمِن أهل العلم مَن قال في معنى التخوُّل في الموعظة: أنه «يطلُبُ حالاتهم وأوقات نشاطهم». (9شرح النووي على مسلم ج17 ص163)

الانقطاع بسبب تزاحم الحُقوق

فإنّه إذا أوْغَل في عمل شاقٍّ مشقة زائدة فربَّـما قطعه عن غيره؛ لاسيما حقوق الغير التي تتعلق به؛ فتكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعاً لما كلفه الله به؛ مثل: “بِرِّ الوالدين، وصِلَة الأرحام، ورعاية الأسرة، وتربية الأبناء”؛ فيقصِّر فيها، فيكون بذلك مَلوماً لا معذوراً. إذْ إنّ المطلوب منه القيام بجميعها على وجهٍ لا يُخلُّ بواحدٍ منها، ولا بحالٍ من أحواله فيها.

الأمر الثاني: وقوع الخَلل

العَمل الخارج عن المعتاد الذي فيه مشقة زائدة قد يؤدّي إلى وقوع خلل في المكلَّف، وهذا الخلل قد يكون في النفس ـ سواء بأمراضٍ بدنيةٍ، أو نفسيةٍ ـ أو في المال؛ فالمال قرين النفس.

فإذا علم المكلَّف أو ظن أنّه يَدخل عليه فسادٌ – في جسمه، أو نفسه، أو ماله، أو عقله، أو عادته ـ يتحرَّجُ به ويُعْنِتُه، ويكره بسببه العمل؛ فهذا أمرٌ ليس له.

وكذلك إنْ لم يعلم بذلك، ولا ظَنَّه، ولكنه لما دخل في العمل دخل عليه ذلك؛ فحكمه الإمساك عمّا دخل عليه المشوّش.

وفي مثل هذا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ». (10صحيح مسلم 92)

قال النووي رحمه الله:

«معناه: إذا شقّ عليكم وخِفتم الضرر». (11شرح النووي على مسلم ج7 ص233)

خاتمة

فحاصل ما تقدم أن المكلَف إذا كان يحصل له بسبب إدخال نفسه، أو إدخال غيره له في العمل؛ هذه المشقة الزائدة على المعتاد؛ فتؤثر فيه أو في غيره فساداً، أو تُحدث له ضجراً أو مللاً وقعوداً عن النشاط؛ فينقطع في الطريق، ويُبغَّض العمل إلى نفسه، كما هو الغالب في المكلَفين، ـ مع إخراج القِلة من الناس الذين تواكبهم الإعانة الربانية، وهؤلاء لا يقاس عليهم ـ فمثْل هذا لا ينبغي أن يرتكب من الأعمال ما فيه ذلك؛ بل يترخَّص فيه بحسب ما شُرع له. (12انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ضوابطه وتطبيقاته، د. صالح بن حميد ص33، 47)

وعليه، يجب التوازن في تكليف “الرواحل” من المتربّين من الصف الثاني؛ وذلك باستحضار ضابط الحرج وما ذكرناه من متعلقاته وضوابطه.

كما يجب في المقابل ألّا نُهمِلَهم، ونهمّشَهم بحيث لا يُعطَون الدورَ التربوي الذي يستحقونه، والمسؤوليات التي ينبغي أن تُناط بهم؛ ليعيشوا التجربة، وتُصقل خبراتهم، وتتراكم لديهم المعرفة، فيحملون بعد ذلك الراية وهم أهلٌ لها.

………………………………

هوامش:

  1. تذكرة السامع والمتكلم ص63.
  2. صحيح مسلم 232.
  3. صحيح البخاري 6498.
  4. انظر فتح الباري ج11 ص335، وشرح النووي على مسلم ج16 ص101، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ج8 ص140.
  5. بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخبار، عبد الرحمن السعدي، ص219.
  6. صحيح مسلم 2594.
  7. صحيح البخاري 5861.
  8. صحيح مسلم 2821.
  9. شرح النووي على مسلم ج17 ص163.
  10. صحيح مسلم 92.
  11. شرح النووي على مسلم ج7 ص233.
  12. انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ضوابطه وتطبيقاته، د. صالح بن حميد ص33، 47.

راجع:

  • مجلة البيان، العدد: 365 

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة