للواقع ضغطه، وله مصطلحاته ودلالاتها، ومحاربة الإسلام ومفارقته من خلال الأنظمة العلمانية والمناهج الفكرية العلمانية ترفض مصطلحات الشريعة ودلالاتها. والتبرير جريمة.

مقدمة

نحن اليوم في مواجهة سيل من الأفكار الهدامة، يقف النص الشرعي سدّاً أمامها، ومتى ما عُدِمَ النص اجتاح السيل الفكر البشري فأصبحت البشرية حينها أثراً بعد عين، وعدنا كما كنا في ظلمات بعضها فوق بعض.

وهذا لا يكون مع وجود الوحي المنزَّل؛ ولكن الوحي لا يسير على الأرض، بل يحمله ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب: 32].

والإرجاء الفكري هو نوع من الخنوع والضعف أمام هذه المقالات، وصاحبُه عبدٌ لغير مُنْزِل الوحي، أسير لظنونٍ وتخرصاتٍ تكون تارة باسم (المصلحة)، وتارة باسم (المجادلة بالحسنى)، وتارة أخرى باسم (عدم التشدد والغلو)… إلى آخِر هذه القيود والأغلال، التي هي حق أُرِيد بها باطل.

والإرجاء الفكـري اليوم لا يصـرِّح بمقالات الإرجاء القديم، ولكنَّ أفكارَ ذاك القديم تعشِّش في فكر هذا الحديث، والمحصلة واحدة ، وهي: “التفلت من الأوامر، والتقحم في النواهي”. (1المرجئة درجات، ومنهم وإن كان يُخرِج العمل عن مسمى الإيمان؛ إلا أنه يحرص على العمل ويحث عليه ويحتفي بأهله كمرجئة الفقهاء)

وكما كان أهل الإرجاء القدماء على درجات في مقالتهم، فإن أهل الإرجاء الفكري هم كذلك في فكرهم.

من ملامح هذا الإرجاء الفكري

أولاً: عدم التصريح بالأحكام الشرعية

فيتهرب مَنْ أصيب بهذا المرض من قول: (حرام) أو (كفر) أو (شرك) لِـمَا هو كذلك بالنص الشرعي، ويستبدل هذه الألفاظ الشرعية بأخرى مبتدَعة هي أخفُّ (حدَّة ووطأة) ـ بزعمه ـ على مخالفيه أو الناس عموماً؛ فيقول: (الأَوْلَى تَرْكه) مع علمه بحرمته، أو (فيه خلاف) مع أن الخلاف مطروح وغير معتَبَر؛ فيوحي إلى سامعه أن الأمر (سهل ميسور).

ثانياً: عدم استخدام المصطلحات الشرعية

فلا تجـد في قاموسـه (كفَّـار)، أو (فسَّـاق)، أو (منافقـون)؛ فهـؤلاء لا يعيشون على الأرض، وكأنهم ـ لدى من أصيب بهذا المرض العضال ـ تاريخ مندثر ولَّى، ولا يظـن ظـانٌّ بأن المطلـوب هو إقحـام مثـل هذا في الكـلام إقحاماً. لا، ليس هذا المراد، بل المقصود هو التولي عن استخدام هذا المصطلـح الذي هو شرعي دلَّت عليه النصوص، إلى غيره، فيستخدم (غير المسلمين) أو (الآخر)، أو يستخدم (أهل التقصير) لمن هم رؤوس الضلالة والفجور في الأمة.

ولا يخفى أن المصطلح الشرعي هو الذي لا يُطلَب به بدلٌ، ولا عنه حِوَلٌ؛ لدقة معناه، وعمق مرماه. وقد تكلم أهل العلم كابن تيمية وغيره في أهمية التمسك بالمصطلح الشرعي وأنه يزيل كثيراً من الإشكال.

ثالثاً: الذلة على الكافرين، والكبر على المؤمنين

وهم بهذا يعارضون مراد الله تعالى حين حكى حالَ أهل الإيمان، فقال: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 45]، وحين أمر نبيَّه، صلى الله عليه وسلم، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْـمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْـمَصِيرُ﴾ [التوبة: 37]؛ ولكن أهل الإرجاء الفكري تجد لديهم تمام التودد للكفار والزنادقة، ولين الخطاب والتسامح معهم، مع غلظة وشدة وجفوة واستعلاء مع إخوانهم من أهل الإيمان.

رابعاً: كَتْمُ بعض النصوص الشرعية

تلك التي فيها الوعيد والتهديد، أو التي يتوهَّمون شِدَّتها وعنفها كالحدود، فيحاولون تجنُّب ذِكرِها تماماً، والتنصُّـل منها؛ وكأنهـا غير موجودة أصلاً، مع إبرازهم في المقابل للنصوص الشرعية في الوعد والتسامح والعفو، وقد خاطب الله تعالى أهل الكتاب، فقال: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 58].

خامساً: محاولة الوقوع على نقطة التقاء مع أصحاب المذاهب

فيكون أحدهم صامتاً ساكتاً ردحاً طويلاً، والأمة حوله تئن من أعدائها المختلفين في مشاربهم ومذاهبهم، وكلٌّ منهم ينهشها نهشاً، وهو لا يحرك ساكناً؛ فإذا رأى قولاً لصاحب فكر منحرف أو مذهب هدَّام بادر لإعلان الموافقة، وتعاضُدِ الفكرة. وهو في هذا كله يغض الطَّرْف عن الانحرافات الكفرية أو البدعية أو الهدامة؛ فلا ينبه الناس عليها، فيكون عند ذلك الغش الذي يتسرب لعموم المسلمين؛ أن الشيخ فلان وافق فلاناً فهو على الخير، فنال تزكية لدى عوام الناس؛ فلا يمسُّه بعد هذا نكير، إلا وصاح الناس في المنكِر عليه باطلَه أخذاً بتزكية من أصيب بالإرجاء الفكري من قَبْلُ.

سادساً: الإكثار دوماً من ذكر الخلاف والرخص

إن ذكر الرخصة للناس وتخفيفَ المشقَّة عليهم واجب شرعي؛ فإن الدين دين يُسْر، لكن أن يكون هذا بكثرة، ويكون المراد من ذكر الخلاف دوماً هو نقض الشريعة، وتخيير العامة، وإثارة شكوكِ من لا خَلاقَ له من دينٍ أو علمٍ بأن الشريعة متناقضة؛ فهذا جناية على الدين، ومهما كان مراد صاحب الإرجاء الفكري في هذا التيسير على الناس، فقد أخطأت استُه الحفرة بهذا، حين جنح للإرجاء دون التيسير، ودعا الناس للزندقة بتخييرهم بين أمور الدين، التي يصير بها المرء أخيراً ليس على دين الإسلام؛ فإن من له حظ من علم يعلم أنه لا يحق لمسلم التخيُّر بين أقوال أهل العلم لهوى في نفسه، بل عليه التقليد إن كان جاهلاً، واتباعُ الدليل إن كان عالماً.

سابعاً: غياب الفطنة، ومحاولةُ تأصيل الأفكار الهدامة شرعاً

إن من لازِم الخنوعِ والمسكنةِ الفكرية، وعدمِ الاعتزاز بالشرع الإسلامي في جميع مناحي الحياة، أن يصبح هذا المصاب بالإرجاء الفكري، مسوِّغاً لمشاريع التيارات المنحرفة، مُسْبغاً عليها مظلة شرعية، خادعاً بها الراعي والرعية؛ فيسألونه ـ أو ربما تبرع هو محتسباً..! ـ لبيان حكم عمل المرأة ـ مثلاً ـ وأنه كشرب العسل.. مع أن أهل الأهواء لا يريدون عمل المرأة لذاته، بل لما وراءه من إخراج المرأة المسلمة، وإفسادها؛ وهل جادل أحد من أهل العلم في عملها مع الضوابط حتى يحتسبَ هذا المصابُ بالإرجاء الفكري لبيان الحكم..؟

ولنا في ابن عباس، رضي الله عنهما، قدوة حسنة حين سأله مَن في عينيه شرر عن توبة القاتل، فقال له: لا تُقبَل، وسأله من في سيفه دم عنها، فقال: تُقبَل. فسأله مَن حوله عن هذا، فقال: علمت أن ذاك إن قلت له: يقبلها الله، ذهب فسفك دماً حراماً، وأن الآخر أتاني نادماً فلم أقنِّطه.

وإنما أطلت في هذا؛ لفشوِّه اليوم بين طلبة العلم، وموافقته لشهوة الرياسة وحبِّ الظهور، وما علم المسكين ـ صاحب الإرجاء الفكري ـ أن مَن كذا حاله رُمِي بعد إتمام الغرض منه، وكَثُر ذامُّوه وقلَّ حامدوه أو عُدِمُوا. وأعظم من هذا: أن الله هو الذي مَدْحُه زين وذمه شين، وإذا أحب الله عبداً أمر جبريل أن يحبه فيحبه، ثم ينادي في الملائكة «أن الله يحب فلان فأحبوه، فيحبونه» (2انظر: صحيح البخاري ، وصحيح مسلم، (2637))، و «من ابتغى رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عليه الناس، ومن ابتغى سخط الله برضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس». (3انظر: سنن الترمذي، (2414). قال الشيخ الألباني: صحيح، وصحيح ابن حبان، (276). قال عنه الأرنؤوط: إسناده حسن)

خاتمة

إن من تمسك بالنص الشرعي، وأذعن له فكرُه، وخضع له عقلُه، نجا من هذا الإرجاء، مع تعلُّقٍ بفهم السلف الصالح لا سواه، والبعد عن المحدَثَات الفكرية، أو محاولة تطويع الدين بما لم يأذن به الله، والعلم النظري بأننا في زمن الفتن كما قال، صلى الله عليه وسلم: «فتنٌ كقِطَع الليل المظلم، يصبح فيها الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي كافراً ويصبح مؤمناً، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا قليل». (4أخرجه مسلم، (118))، ثم تطبيق هذا العلم النظري، مع دعاء الله بالثبـات؛ كما كـان يفعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حينمـا يُكثِر مـن قـول: «اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك». (5سنن ابن ماجة، (3834)، والترمذي، (2140) ،وصححه الألباني في تعليقه عليه)، ويسأل الله حُسْن الخاتمة.

…………………………

الهوامش:

  1. المرجئة درجات، ومنهم وإن كان يُخرِج العمل عن مسمى الإيمان؛ إلا أنه يحرص على العمل ويحث عليه ويحتفي بأهله كمرجئة الفقهاء.   
  2. انظر: صحيح البخاري ، وصحيح مسلم، (2637).
  3. انظر: سنن الترمذي، (2414). قال الشيخ الألباني: صحيح، وصحيح ابن حبان، (276). قال عنه الأرنؤوط: إسناده حسن.
  4. أخرجه مسلم، (118).
  5. سنن ابن ماجة، (3834)، والترمذي، (2140) ،وصححه الألباني في تعليقه عليه.

اقرأ أيضا:

المصدر:

  • بدر بن سعيد الغامدي، مجلة البيان، العدد : 276.

التعليقات غير متاحة