عندما تتراجع قيادات المسلمين في منتصف الطريق فهذا يعني فتنا متراكبة، وأثمانا باهظة، وصدا عن سبيل الله. وعندما يتراجع المبتلَى يُشمت عدوه به وبدينه.

الخبر

“بعد نحو أسبوعين من رسالتهم الأولى التي وجّهوها بشكل أساسي لقيادات جماعة الإخوان المسلمين، وجّه عدد من شباب المعتقلين في مصر رسالة ناشدوا فيها شيخ الأزهر التوسط بين النظام والشباب في السجون لوضع خارطة لإنهاء هذه الأزمة ووقف أضرارها على الوطن وأبنائه.

هذه الخارطة المنشودة تتضمن طريقا للشباب للخروج من مأزقهم وتفتح لهم بابا للخروج من “بوتقة معارضة النظام”، وكذلك الخروج من سياق الإخوان وركبهم، مع وضع ضمانات على الشباب بذلك.

وكانت رسالة سابقة خرجت من داخل سجن طرة الواقع جنوب القاهرة، وتحدثت عن تصاعد معاناة المعتقلين السياسيين في مصر، واستهدفت بالخصوص قيادات جماعة الإخوان المسلمين، حيث طالبتهم بالتحرك لحل الأزمة مع السلطة في مصر و”ألا يترددوا في أخذ خطوة للوراء تحفظ لهم ما تبقى من بقايا جماعة، وتحفظ عليهم القليل مما تبقى من شبابهم”.

وأثارت الرسالة السابقة جدلا كبيرا ما بين مرحب ومعارض ومتشكك، لكن أكثر الجدل جاء بعدما خرج إبراهيم منير نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين المقيم في لندن ليقول إن الجماعة لم تجبر أحدا على الانضمام إليها، كما أنها لم تدخل أحدا السجن.

وكان لافتا أن الرسالة تطرقت إلى تراجات ضخمة؛ فترحّم المعتقلون على “شهداء الوطن أجمع، من المتظاهرين والثوار ومن مجرمي أفراد القوات المسلحة والشرطة”، كما تضمنت إقرارا من أصحابها بأن “أمورا كثيرة التبست عليهم من بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني 2011) وحتى الآن”، وأنهم أخطؤوا التقدير حيث اعتقدوا أنهم يستطيعون “الوقوف أمام دولة ومؤسساتها”.

ثم أردفت صورة خطية من الرسالة لمن أراد الاطلاع عليها..” (1موقع “الجزيرة” 3/9/2019، على الرابط:
بعدما خاطبوا قيادات الإخوان.. معتقلون مصريون ينشدون وساطة شيخ الأزهر
)

التعليق

حقيقة المشهد

حقيقة المشهد أن قيادات بعض التيارات الإسلامية تقدمت بمواجهات محمودة؛ ظن الناس أنهم أعدوا لها عدتها اللازمة لها وأنهم يعرفون البدائل وكيف يقودون الجموع للحصول على أكبر مكاسب للمسلمين ولقضية الإسلام وشريعته، ولكن فوجيء الناس أن الشباب والشيوخ، والرجال والنساء بل والصبيان تقدموا ثقة في هذه القيادات ولكنها لم تكن على مستوى الحدث ولا معرفة لها بالبدائل ولا قدرة لها على إدارة الصراع.

ثم إن هذه الجموع الشريفة تقدمت تواصل الدفاع عن قضية الإسلام ومصلحة الأمة والبلاد، وتقدموا بصدورهم العارية؛ أفواجا إثر افواج فتلقوا الرصاصات، وارتقى منهم شهداء، ووقع منهم أسرى كثيرون، ثم إذ بهذه القيادات قد قُتل المخلصون منهم أو هاجروا أو سُجنوا، وبقيت الدفة في يد من لا يوثق بهم؛ فإذا بهم يعودون بالناس ويمنعونهم من المواصلة ويرفعون عن العدو ضغطا هائلا بدون ثمن. والعقلاء يرون أنه كان يمكن أن يكون تبريد المواجهات مع الأنظمة الطاغوتية في مقابل خروج الأسرى على أقل تقدير. لكن كان التراجع بدون ثمن وبلا مقابل..!

ثم انصرفوا لا يملكون أدوات لإدارة الصراع ولا الخروج بالناس من الأزمة ولا إخراج مَن في الأسر من هذه الفتن، وعوّلوا على منظمات حقوقية تابعة للغرب، لا تقدم ولا تؤخر إلا مجرد بيانات، ولا تقوى مواقفها على الوقوف أمام مصالح استراتيجية للغرب الصليبي والأنظمة الطاغوتية العميلة لهم في بلادنا.

وعندما طلب منهم الشباب التعامل للخروج من الأزمة ساقوا قواعد في غير محلها خلاصتها أننا لم نضربكم على أيديكم لتكونوا معنا..! وهو موقف ليس له نتيجة إلا تنفير الناس وزيادة الفتنة عليهم وتسليمهم الى العدو؛ أقصد تسليم قلوبهم ونفوسهم اليه؛ وهذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم «المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يُسْلمه..» الحديث (2صحيح البخاري، رقم 2442)

تراكم الفتن

وقد وصل الأمر بالأسرى المبتلين الى أنهم يعتذرون عن حراكهم ضد الظلم وضد الاستبداد وضد  العلمانية وضد نقض ولاء الإسلام وهويته، وضد إلغاء دور الدين في الحياة العامة، وضد المشروع الصهيوني والأمريكي الغربي.

ثم بدؤا يعترفون للأنظمة العلمانية المستبدة السارقة لإرادة الأمة المسلمة في مصر وفي المنطقة كلها، والتي تآمرت على الإسلام في مصر والمنطقة لها، وعملت لصالح المشروع الصهيوني والمسيحي المحلي والغربي؛ إذ بهم يعترفون لهذه الأنظمة بالشرعية ويعتذرون عن مواجهتها بل وعن “المعارضة” لها، وهو حق تكفله الديمقراطية الغربية نفسها..!

ثم تمادى الأمر الى أنهم يطلبون من أفجر الناس وأكذبهم من رموز إعلامية وسياسية للتوسط لهم؛ مُبْدين لهم الثقة في إرادتهم المخلصة لخير البلاد والعباد..!! وهو عجب من العجب إذ إن هذه الرموز السياسية والإعلامية طافحة بالعلمانية والإلحاد، أو الإباحية والسقوط الأخلاقي، وجميعهم معروفون بالنفاق للطواغيت، وجميعهم مشتركون في دماء المسلمين والحض عليها واستسهالها وتبريرها، وفي حرب الإسلام وتتبع أهله، ومحو آثاره في التعليم والإعلام وفي الحياة الإجتماعية وفي المؤسسات. بعضهم يقول عن الكيان الصهينين أنه دولة ديمقرايطة رائدة تمثل نموذجا يُحتذى به..! وبعضهم يرى “صلاح الدين الأيوبي” أسوأ رجل في التاريخ، وأن “البخاري” كذاب يكذب على رسول الله..! وجميعهم يرى الإسلام إرهابا والمطالبة بالحقوق جريمة، وفرّقوا البلاد الى شعبين، بل وجعلوا المعبود لهم ربا غير رب العالمين..! فقالوا أن للشعب المصري ربّين رب يعبده المسلمون، وربا يعبده هؤلاء الفجرة.

أن ينزل هؤلاء المبتلون الى هذه الدرجة فهي فتنة متراكبة وإحباط للعمل وتراجع مهين، كما أنه علامة على إحباط وشعور أنهم في مأزق لا يرون منه مخرجا أو وصلوا الى حائط مسدود.

وهذه فتنة كبيرة لهم، وفتنة لبقية الأمة، وفتنة للطغاة أنفسهم إذ يرون أن الناس ترجع اليهم فيظنوا ـ بعد كل جرائمهم ـ أنهم على حق. وقد قال هذا بعضهم بالفعل.

مسؤولية من..؟

المسؤولية على الجانبين:

جانب المبتلين في السجون ـ فرج الله عنهم ـ وجانب قيادات التيار الإسلامي الذين يبدون للناس أنهم تعايشوا مع هذا الحال..!

واجب القيادات

أما جانب قيادات التيار الإسلامي فالمؤلم أن الناس اكتشفوا أنهم منذ البداية لم يكن لديهم رؤية للصراع وإدارته، ولا أدوات لذلك.

وعند هذا الانكشاف تقدم الصادقون منهم مع الموجات المسلمة المندفعة يصاولون العدو يدا بيد وجولة أمام جولة، حتى اهتزت قدم العدو وخشي على نفسه وتداعى الغرب ليفاوض ويعلم ما عند هؤلاء.

لكن تم التآمر على الصادقين فقُتلوا أو أُسروا، وتم استلام القيادة في يد متهمة غير بريئة، وهي مريبة ومواقفها تثير التساؤلات.

واليوم يبدو للناس أنهم متعايشون مع الأوضاع ومرتاحون اليها؛ السلطة في يد الطغاة، والمؤمنون في السجون، وهم متعايشون في الخارج يضعون على أكتفاهم كوفية أو يلبسون شعارا في مظاهرة متواضعة تصورهم الكاميرات ثم ينصرفون الى بيوتهم، ويستمرون في إدارة المشهد كما هو.

إن مسؤوليتهم تتمثل في أمور كثيرة منها الخروج بالناس من المأزق ورفع الضغوط عنهم والخروج من الفتنة. إن طول البلاء يفتن الناس عن دينهم. وكم من جماعات كانت ملء السمع والبصر ذابت كما يذوب الملح، ومن قياداتها من أصبحوا ردءا للطواغيت وأعوانا متطوعين لهم، ومِن أفرادهم من صار عينا للعدو على المسلمين أو كتلة مثبطة للأمة، وأما صادقوهم ومخلصوهم فأصبحوا أفرادا مبعثرين بلا تأثير. ويُخشى على أي تيار مهما بلغ عدده وتاريخه أنه إن لم يحسن قيادة الصراع فسيصير تاريخا لا أكثر ويافطات قديمة بالية.

فكما يجب على القيادات ألا تسوق المسلمين الى مواجهات غير محسوبة، يجب عليهم أيضا الخروج بهم من الفتن خروجا شريفا لا يمس عقيدتهم ولا يهين قضيتهم التي خرجوا من أجلها. والأمر فقط يحتاج الى صدق وتوكل ورجولة وقوة.

واجب المبتلين

وأما المبتلون في السجون فيجب أن يكون موقفهم ذاتيا لعقيدة ينافحون عنها، وأن يكونوا رقما صعبا ومستعصيا على الانحناء. وأنه إن تخلى عنهم من ظنوا فيهم الخير والمسؤولية فالله تعالى لا يترك أولياءه بل يثأر لهم كما يثأر الليث الحرِب.

وهنا نذكّر بموضعين من كتاب الله:

الأول: قوله تعالى حاكيا عما قاله الأنبياء والمؤمنون على مدار التاريخ: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (الممتحنة: 4-5)

ومعنى ﴿لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وفيها معانٍ:

1) لا تجعلنا موضع فتنة لهم أي موضع تعذيب.

2) لا تسلطهم علينا فيفتنونا عن دينك.

3) لا تسلطهم علينا فيظنوا أنهم على الحق ويقولوا لولا أننا على حق لما سلطنا الله عليهم. (3راجع تفسير الحافظ ابن كثير للآية الكريمة)

وهذا دعاء وتوكل. ولا بد من الأمرين.

الثاني: قول الله تعالى ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146)

جاء في تفسير الجلالين:

«﴿ربيون كثير﴾ جموع كثيرة ﴿فما وهنوا﴾ جبنوا ﴿لما أصابهم في سبيل الله﴾ من الجراح وقتل أنبيائهم وأصحابهم ﴿وما ضعُفوا﴾ عن الجهاد ﴿وما استكانوا﴾ خضعوا لعدوهم كما فعلتم حين قيل قتل النبي ﴿والله يحب الصابرين﴾ على البلاء» (4تفسير الجلالين (ص: 86))

ويقول البيضاوي:

﴿فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله﴾ فما فتروا ولم ينكسر جَدّهم لما أصابهم من قتل النبي أو بعضهم. ﴿وما ضعفوا﴾ عن العدو أو في الدين. ﴿وما استكانوا﴾ وما خضعوا للعدو». (5تفسير البيضاوي = أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 41))

يجب ألا يتسرب الوهن الى القلوب أو الضعف عن طلب قضية المسلمين، ونقصد بالضعف ضعف القلوب، وأما الأيدي فبحسب ما في مكنتها من القدرة. فإن عجزت عن العمل كان التربص. وفي كل حال فلا ينبغي أن تعطي للعدو ما يحلم به وهو أن يصل الى قلبك بوهن أو تشكك أو اعتذار عن قضية هذا الدين العظيم.

خاتمة

قد تكون المقارنة التي قارنها أصحاب البلاء مع من هم في عافية بهجرة أو هروب أو حتى خيانة؛ مقارنةً مزعجة للقلوب. وهذه المقارنة وحدها قد تكون كفيلة في التسبب بتسلط الشياطين على القلوب وانكسار أصحابها. لكن علّمنا الله تعالى أن العبد مكلَّف بعمل اللحظة الراهنة، ومكلَّف أن يقوم بالتعبد المطلوب في كل حال. والتعامل مع الله تعالى لا مع خلقه؛ فالشرف في ذلك التعامل، معاملةً وعاقبةً مريئة ورأسا مرفوعة وحقا تحفظه لا تسمح ببيعه ولا تُشمت بالمسلمين ولا بك عدوا هو من أرذل خلق الله ومن أحط أنواع البشر.

بيّض الله وجوهكم وفرج الله عنكم وعن كل مسلم في كل مكان، وجعل تعالى للمسلمين فرجا عاجلا ومخرجا.

……………………….

هوامش:

  1. موقع “الجزيرة” 3/9/2019، على الرابط:
    بعدما خاطبوا قيادات الإخوان.. معتقلون مصريون ينشدون وساطة شيخ الأزهر.
  2. صحيح البخاري، رقم 2442.
  3. راجع تفسير الحافظ ابن كثير للآية الكريمة.
  4. تفسير الجلالين (ص: 86).
  5. تفسير البيضاوي = أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/ 41).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة