لم تمض على فتح مكة إلا شهور، حتى كانت أصنام جزيرة العرب كلها قد سقطت عن عروشها، وكفر بها عبَّادها، وأصبح من كان يعبدها بالأمس يخجل من تفاهة رأيه إذ كان يعبد حجراً لا يضر ولا ينفع ولا يغني عن حوادث الدهر شيئاً.

كيف تغيّر دين إسماعيل عليه السلام

كان إبراهيم عليه السلام – وهو أبو الأنبياء بعد نوح – ممن حارب الوثنية في قومه، حتى حاول قومه إحراقه بالنار. كما يحكي القرآن الكريم، ولما جاء إلى مكة أودع ولده إسماعيل عليه السلام فيها مع أمه، فلما شب إسماعيل عليه السلام بنيا الكعبة معاً لتكون بيتاً يعبد الله عنده، ويحج الناس إليه، وتكاثر ولد إسماعيل – وهم العرب المستعربة، كما يسميهم المؤرخون – واستمروا لا يعرفون عبادة الأوثان والأصنام1(1) الأصنام: هي ما كان من المعبودات على هيئة تماثيل، والأنصاب: هي أحجار يعبدونها وينحرون عندها.، ثم كان من عبادتهم أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن، إلا احتمل معه حجراً من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم، وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمناً منهم بها، وحباً منهم للحرم، وشوقاً إليه، واستمروا كذلك حتى أدخل فيهم عمرو بن لحي عبادة الأوثان – وكان ذلك قبل البعثة النبوية بخمسائة سنة على ما يقولون – فهو أول من غيّر دين إسماعيل عليه السلام، وكان من أمره أن تولى حجابة البيت بعد إجلاء جرهم عن مكة وما حولها، ثم مرض مرضاً شديداً، فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمة – وهي التي يقال لها الحَمة الآن – إن أتيتها برأت، فأتاها فاستحم بها فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة2(2) كتاب الأصنام لهشام بن محمد بن السائب الكلبي: ص 8.، وانتشرت بعد ذلك عبادة الأصنام في جزيرة العرب، حتى كان لأهل كل دار في مكة صنم يعبدونه في دارهم، فإذا أراد أحدهم السفر، كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به، وإذا قدم من سفره، كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضاً.

ثم أولعت العرب بعبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتاً، ومنهم من اتخذ صنماً، ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت، نصب حجراً أمام الحرم، وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت، وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلاًَ، أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه رباً، وجعل ثلاث أثافي لقدره، وإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلاً آخر فعل مثل ذلك3(3) الأصنام للكلبي ص 33..

 أشهر أصنام العرب في الجاهلية

وكانت للعرب ثلاثة أصنام كبرى تعظمها، وتحج إليها، وتنحر لها الذبائح:

أقدمها مناة وكان منصوباً على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، بين المدينة ومكة، وكانت العرب جميعاً تعظمه، وأشدهم إعظاماً له الأوس والخزرج، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، أرسل إليه عليَّاً رضي الله عنه، فهدمه، وأخذ ما كان له، وأقبل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكان فيما أخذ: سيفان، كان الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان أهداهما له، والحارث هذا هو الذي قتل شجاع بن وهب الأسدي رضي الله عنه حين سلمه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه للإسلام، ولم يقتل للنبي صلى الله عليه وسلم رسول غيره.

وثانيهما اللات وكانت بالطائف، وهي صخرة مربعة، وكانت قريش وجميع العرب تعظمها، فلما جاء وفد ثقيف بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من فتح مكة إلى المدينة، طلب وفدها منه عليه الصلاة والسلام أن يدع لهم اللات ثلاث سنين لا يهدمها، فأبى ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة وهو يأبى عليهم، حتى سألوا شهراً واحداً، فأبى عليهم.

قال ابن هشام: وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم، ونسائهم، وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها، فلما أخذ المغيرة يضربها بالمعول، خرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها ويقلن:

لتُبكينَّ دُفَّاع … أسلمها الرُّضَّاع … لم يُحسنوا المِصَاع

يردن بذلك: واحسرتا على التي كانت تدافع عنا أعداءنا، وتدفع عنا البلاء، قد أسلمها اللئام للهدم، فلم يدافعوا عنها، ولم يجالدوا بالسيوف في سبيلها.

وثالثتها العزى كانت عن يمين المسافر من مكة إلى العراق، وكانت قريش تخصها بالإعظام، فلما نزل القرآن يندد بها وبغيرها من الأصنام، اشتد ذلك على قريش، ولما مرض أو أحيحة وهو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف مرضه الذي مات فيه، دخل عليه أبو لهب يعوده، فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا أبا أحيحة؟ أمن الموت تبكي ولا بد منه؟ قال: لا، ولكني أخاف ألا تعبد العزى بعدي! قال أبو لهب: والله ما عبدت حياتك لأجلك، ولا تترك عبادتها بعدك لموتك، فقال أبو أحيحة: الآن علمت أن لي خليفة! .. وأعجبه شدة نصبه في عبادتها4(4) الأصنام للكلبي: ص 23..

فلما كان عام الفتح دعا النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، وأمره أن ينطلق بهدمها، فلما جاءها خالد، قال سادنها ديبة بن حرمي الشيباني:

أعُزاء شدِّي شدة لا تكذبي … على خالد أَلقي الخمار وشمري

فإنك إلا تقتلي اليوم خالدا … تبوئي بذلٍّ عاجل وتنصرَّي

فقال خالد:

يا عُزَّ كفرانك لا غفرانك … إني رأيت الله قد أهانك

وقد زعموا أنها كانت حبشية، نافشة شعرها، واضعة يدها على عاتقها في داخل شجرة كان قد قطعها خالد، فبرزت له بهذا الشكل، فضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة (أي كالفحم) فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأداء مهمته، قال عليه الصلاة والسلام: تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب، أما إنها لن تعبد بعد اليوم.

تلك هي أشهر أصنام العرب في الجاهلية، وهي التي ذكرها القرآن الكريم بقوله: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) [النجم: 19 – 20].

تطهير الكعبة وجزيرة العرب من الأصنام

ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت الحرام يوم فتح مكة، رأى صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم عليه السلام مصوراً في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إبراهيم والأزلام؟ (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران: 67] ثم أمر بتلك الصور كلها، فطمست.

قال ابن عباس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها، وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الاسراء: 81] فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع.

ولم تمض على فتح مكة إلا شهور، حتى كانت أصنام جزيرة العرب كلها قد سقطت عن عروشها، وكفر بها عبَّادها، وأصبح من كان يعبدها بالأمس يخجل من تفاهة رأيه إذ كان يعبد حجراً لا يضر ولا ينفع ولا يغني عن حوادث الدهر شيئاً.

الإسلام يكشف زيف الآلهة المزعومة

لقد قامت رسالة الإسلام أول ما قامت على التشهير بهذه الأصنام الآلهة، والتشنيع على عبادتها والدعوة إلى دين الفطرة: عبادة الله خالق الكون ورب العالمين، وقاومت جزيرة العرب وفي مقدمتها قريش هذه الدعوة، ورأت فيها عجباً عجاباً (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [ص:5].

وماجت جزيرة العرب واضطربت لهذا الدين الجديد، وحاولت وأْده والقضاء على رسوله بكل وسيلة، ولكن النصر كان أخيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نضال استمر إحدى وعشرين سنة، فافتتح عاصمة الوثنية، وحطم آلهتها، وهزم جيوشها، وتغلب على مؤامرات زعمائها، هل يصدق العقل أن ذلك كله قد تم خلال هذه الفترة القصيرة، ولم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ابتدأ هذه الدعوة إنسان لولا أن يكون الله من ورائها، يهيء كتائبها، ويوجه معاركها؟ (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى) [الأنفال: 17].

 جزيرة العرب تودع حياة الوثنية إلى الأبد

لقد أنهى محمد بن عبد الله مأساة العرب الفكرية التي استمرت زهاء خمسمائة عام أو تزيد، وحرر العقل العربي من أغلال الوثنية وخرافاتها، وأنقذ الكرامة العربية من مهانة الوثنية وحقارتها، وفتح أبواب الخلود للعرب يدخلون منه ثم لا يخرجون، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: لا عزى بعدها للعرب، أما إنها لن تعبد بعد اليوم فقد ودعت جزيرة العرب حياة الوثنية إلى الأبد، وبلغ العقل العربي سن الرشد، فلم يعد يرضى بعودته إلى طفولته: طفولة الوثنية التي تحمل صاحبها على أن يضع جبهته عند أقدام حجارة صماء بكماء، ولقد قامت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حروب وفتن، وادعى النبوة من ادعاها، وعارض القرآن من عارضه، ولكنا لم نسمع أن عربياً واحداً فكر في العودة إلى الوثنية وآلهتها، ذلك أن الراشد لن يعود طفلاً، وكل ذلك إنما تم بفضل محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، فله على كل عربي إلى انتهاء الدنيا فضل الإنقاذ والتحرير، ثم فضل زيادة الهدى لشعوب الأرض من اتبع الهدى ومن أعرض عنه، وجل الله حين يقول: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الجمعة: 2].

الهوامش

(1) الأصنام: هي ما كان من المعبودات على هيئة تماثيل، والانصاب: هي أحجار يعبدونها وينحرون عندها.

(2) كتاب الأصنام لهشام بن محمد بن السائب الكلبي: ص 8.

(3) الأصنام للكلبي ص 33.

(4) الأصنام للكلبي: ص 23.

المصدر

كتاب: “السيرة النبوية – دروس وعبر” مصطفى السباعي ص152-159.

اقرأ أيضا

أهم الأحداث بعد فتح مكة: غزوة حنين(1)

أهم الأحداث بعد فتح مكة: غزوة حنين(2)

فقه الحديبية .. وأعظم الفتوح

التعليقات غير متاحة