ينبغي لكل دعوة تجديدية لهذا الدين أن تكون إحياءًا شاملا، وأن تعرف انحرافات وحجج عصرها، وألا تقبل مغريات القعود. وسيكون لها من الخير شأن عظيم بإذن ربهم تعالى.

مقدمة

لقد أدرك أئمة الدعوة الإسلامية المعاصرة أن مهمة هذه الدعوة هي تطهير العباد من الاعتقادات والأقوال المخالفة للتوحيد، وردّهم إلى ما كان عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه  ـ رضوان الله عليهم. وإذا تطهروا من ذلك تحرروا من العبودية لغير الله، وأقاموا مجتمعاتهم ـ في أي عصر من العصور ـ على شريعةٍ من الله غير مشركين به.

وإن هذه المهمة الكبيرة تحتاج إلى عمل جادٍّ وصبر وفقه في الدين وتحديد لمواطن الخلل في كل عصر وكل مكان حتى يمكن معالجته حسب ما ورد في كتاب الله وفي سنة رسولنا ـ عليه الصلاة والسلام.

ولنضرب لذلك نماذج عملية متعددة ومتنوعة ليستفيد منها الدعاة في كل مكان في العصر الحاضر.

انحرافات في العقيدة

لقد تأمل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، واقع عصره فوجد الناس يصرفون كثيراً من أنواع العبادة لغير الله في الاعتقادات والأقوال والأعمال، وإنهم لا بد من تحريرهم من عبادة غير الله وردهم إلى عبادة الله وحده.

لقد وجدهم يَدْعون ويذبحون وينذرون لغير الله، ويعكفون على القبور يصرفون لها أنواعاً من العبادة التي لا يستحقها إلا الله.

وتأمَّلَ في شبهتهم التي كانوا يعتذرون بها؛ فمنهم من اعتقد الضر والنفع في غير الله، ومنهم ـ عند المجادلة ـ من يقول إن عبادته لا تصل إلى العليم الحكيم إلا عن طريق البشر أو غيرهم من الأشجار والأحجار والأصنام؛ فوجد ـ رحمه الله ـ أن هذا القول انتقاصٌ لحق الله الواحد القهار وأنه عذر أقبح من الذنب المعتذَر عنه، لأن مآله تعلُّق القلب بغير الله لاعتقاد الإنسان أن عبادته لا تصل إلى الله إلا عن طريق المخلوقين؛ فيأخذ في التعلق بهم، واعتقاد النفع فيهم الذي أنكروه من قبل واعتذروا عنه بقولهم ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3]، فاتخذوا بذلك الوسائط بينهم وبين الله.

وبعد أن أدرك الشيخ هذا الواقع عزَم على تحريرهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.

ثم تأمَّلَ الشيخ في واقع مجتمعه فوجد انحرافاً آخر، وجد أناساً يزعمون الإسلام ويتحاكمون إلى غير شريعة الإسلام.

هل النطق بالشهادتين مانع من الإحياء والتصحيح..؟

لم يمنع الشيخ، رحمه الله، نطْقُهم بالشهادتين وصلاتُهم وحبهم للصالحين والأولياء وقولُهم إنهم يتبعون العلماء، لم يمنعه ذلك من أن يعزم على تحريرهم من العبودية لغير الله.

ولقد حاجهم وجادلهم بالتي هي أحسن، ودعاهم للتي هي أقوم، وخير مثال على ذلك كتابه (كشف الشبهات) الذي قال فيه مبيناً الأسس التي ينبني عليها فهم الإسلام بعيداً عن الشرك والانحراف عن شرائع الإسلام:

“لا خلاف في أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل. فإن اختل شيء من ذلك لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به، فهو كافر معاند. فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق وهو شر من الكافر الخالص؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء: 145]). (1مجموعة التوحيد، 88)

وبيَّن لهم أن هذه المسائل لم يختلف فيها الفقهاء، بل أجمعوا على أن من جحد شيئاً معلوماً كفر ولو كان من مسائل الفروع؛ فكيف إذا جحد التوحيد وخالف فيه..؟!

ثم ذكر كلام علماء الإسلام في باب المرتد وأن النطق بالشهادتين لا ينفع صاحبه إذا أتى سبباً من أسباب الكفر المخرج من الملة أو الشرك الأكبر، لأن المراد بالنطق بكلمة الشهادتين معناها لا مجرد لفظها. (2مجموعة التوحيد، 72)

وقد بذل، رحمه الله، قصارى جهده في بيان حقيقة التوحيد فكشف عن مسائل الجاهلية وحذّر الناسَ منها.

لقد وقر الحق في قلب الشيخ المجدد، رحمه الله، ولم يعد يلتفت إلى شُبههم إلا إذا أراد أن يكشف زيفها.

أما واقعهم فقد علم الشيخ أنه لن يَصلُح إلا بتجديد مفهوم التوحيد وتحقيق مقتضياته، حتى تصبح وجهة القوم مطابقة لمقتضى الشهادتين التي ينطقون بها.

فلما رأى المخالفون إصرار الشيخ على دعوته رموه عن قوس واحدة، وحاربوه بكل وسيلة في أيديهم، وهو صابر ثابت لم يفتَّ في عضده كثرة المخالفين وسطوتهم، ولا لدد الخاصمين وتكبرهم ولا سفاهة المشاغبين وخستهم.

افتراءات المخالفين

لقد جمع هؤلاء كيدهم وافتروا عليه بأنه جاء ليبدل دينهم ويظهر في الأرض الفساد ويحارب العلماء والصالحين والأولياء؛ فلابد إذاً من محاربة دعوته..!!

وقد تمت المحاربة ولكن الله حفظ الشيخ ولم يتنازل عن شيء من دعوته، بل مضى في طريقه لا يكلُّ ولا يضعُف ولا يتردد؛ حتى انتشر العلم بالتوحيد وأحكامه وربَّى أتباعه على ذلك وانكشف زيف الشرك وأباطيله، ومسائل الجاهلية وسفهَها.

التأويلات المغرية

لقد طلب منه مخالفوه أن يَدَعهم وما هم فيه، وكان يمكن أن يستجيب لمطالبهم؛ ولكن أراد الله به وبالناس خيراً، كان مجال التأويل واسعاً لمن أراد أن يخلد إلى الحياة الدنيا ويقعد عن تحمل المسؤولية في مجال الإصلاح. كان يمكن أن يقول الإنسان لنفسه: كيف أدعو الناس للتوحيد وأتحمل كل هذا العناء والدولة العثمانية التي عاشت قروناً طويلة وخدمت الإسلام في كثير من السنين قائمة بالفعل وتتبعها الإمارات في كل مكان، لِمَ لا أترك لها القيام بذلك على طريقتها وهي تتحمل ما يقع من تقصير، وألتزم بالوضع الذي كان سائداً..؟

وقد وفق الله الشيخ إلى الصواب في هذا الأمر فلم يلتزم بالأُطر الدعوية التي كانت تمارَس في تلك الأيام، وسَلِمَ من فساد التعصب والتقليد والعادات وارتفع إلى طريقة الكتاب والسنة في الدعوة إلى الله عز وجل.

كان يمكن أن يقول الداعية لنفسه في مثل تلك الظروف: لماذا أبدأ بتصحيح الاعتقاد، وأنابذ الشرك والبدع والأهواء وأهلها، ولماذا لا أبدأ بتصحيح الأمور الجزئية؟ ولا حاجة للدخول معهم في خصومة ولا بأس من أن أعذرهم في تلك المخالفات العقَدية، وتكون الألفة والمحبة والولاء بيني وبينهم؛ وبذلك أسلمُ أنا ومن معي من كيدهم ومكر رؤسائهم ومخالفة عوامهم، وفي آخر المطاف يمكن لي أن أصحح الانحراف في الاعتقاد.

اختيار الطريق

ومع كل هذه التأويلات والمغريات.. إلا أن الشيخ، رحمه الله، لم يقبل بشيء من ذلك، واختار الاستمساك بالمنهج الدعوي كما ورد في الكتاب والسنة؛ فدعاهم من أول الطريق إلى تحقيق مقتضى الشهادتين وتحكيم الشريعة في جميع شؤونهم، ومنابذة ما يخالف ذلك، والبراءة من الشرك وأسبابه وأهله، والصدق في نصرة دين الإسلام.

واحتمل ـ رحمه الله ـ عن بيّنة وبصيرة وعزيمة وثباتٍ كل العداوات؛ احتمل العداوات من الرؤساء الجهال ممن ينتسبون إلى العلم أو يملكون السلطان.

واحتمل الذم من جهلة العوام، والافتراء من سدنة الشرك والجاهلية والتعصب.

ولم تكن هذه العداوات بعيدة عن باله وهو الذي كان يأمر من يتبعه بأن يتسلح بالعلم والحجة ليواجه كل تلك العداوات. قال، رحمه الله، في كتابه (كشف الشبهات):

“واعلم أن الله سبحانه من حكمته (تأمل قوله “من حكمته”) لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداءً كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً شَيَاطِينَ الإنسِ والْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً﴾ [الأنعام: 112]. وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وهم أهل فصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير سلاحاً لك تقاتل به هؤلاء الشياطين.. ولا تخف ولا تحزن ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً﴾ [النساء: 76]) (3مجموعة التوحيد، 73)

خاتمة

نعم، إن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه يصدّون الناس عن سبيل الله، ولا بد للدعاة من الصبر على كيدهم وتبيين التوحيد ومحاربة الشرك وتحرير الناس من عبادة غير الله بكل صورها وأشكالها. (4ملل الكفر وطقوسها وقوانينها صور من العبادة لغير الله، والدعاء والذبح والنذر لغير الله صور من صور الشرك)

ولا يحسبنَّ أحد أن آثار دعوة الشيخ مقتصرة على محاربة شرك القبور والأضرحة ـ كما فهم كثير من الدعاة في بلاد العالم الإسلامي. كلا؛ فإن دعوة الشيخ دعوة شاملة تجديدية. بذَلَت جهدها المستطاع في تحرير الإنسان من عبادة غير الله، سواء أكانت تلك عبادة الأولياء والأضرحة أو عبادة الطواغيت وطاعاتهم في التحاكم إلى غير شريعه الله، أو ما سوى ذلك من مسائل الجاهلية التي عن طريقها يُنتقص حق الله، سبحانه، في العبادة أو يُنتقص حق هذه الشريعة الربانية في الاتّباع ووجوب التحاكم إليها في جميع الأمور.

………………………………..

الهوامش:

  1. مجموعة التوحيد، 88.
  2. مجموعة التوحيد، 72.
  3. مجموعة التوحيد، 73.
  4. ملل الكفر وطقوسها وقوانينها صور من العبادة لغير الله، والدعاء والذبح والنذر لغير الله صور من صور الشرك.

المصدر:

  • د. عابد السفياني، مجلة البيان، العدد 62.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة