كنت أتصور سابقاً أن ” المنافق ” يعلم من نفسه أنه منافق! ويالسذاجة تصوري السابق! اكتشفت أن المنافق قد لا يعلم بذلك، بل قد يظن نفسه حين أطلق بعض العبارات إنما أطلقها مزاحاً !
النفاق أثر لسلوكيات معينة وليس قراراً
وكنت سابقاً أتوهم أن ” النفاق ” هو قرار يتخذه المرء، فيقرر بأنه سيكون منافق يظهر الإسلام ويبطن الكيد له، كنت أظن النفاق مؤامرة كبرى تتخذ بتخطيط شامل، ولم أتوقع بتاتاً أن النفاق قد يقع في القلب بأمور نعدها في موازيننا من هوامش الأمور!
بالله عليك.. هل تتوقع أن قوماً عاهدوا أنفسهم بأنه إن رزقهم الله مالاً أنهم سيتصدقون به، فلما رزقهم الله، شحّت نفوسهم، فسبب لهم ذلك قيام النفاق في قلوبهم! هل تتصور ذلك؟!
انظر ماذا يقول تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [التوبة:75-77]
انظر.. إنهم قوم يؤمنون بالله لدرجة أنهم عاهدوا ربهم، ولم يفعلوا أكثر من البخل بالمال بعد المعاهدة، ومع ذلك هجم النفاق على قلوبهم بسبب ذلك!
ولم يتأخر الأمر كثيراً.. بل كما عبر القرآن (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ) !
كيف يأمنون على أنفسهم النفاق؟!
وما الذي يؤمننا نحن حين نقصر في أمر علمنا تعظيم الله له أن لا يعقبنا ذلك نفاقاً في قلوبنا؟ وما الذي يؤمننا حين ننتهك أمراً علمنا حرمته عند الله أن لا يعقبنا ذلك نفاقاً في قلوبنا؟!
بل وكيف يأمن أقوام تتلى عليهم آيات الله في “انحطاط الكافر”، ومع ذلك يتفننون في إظهار عبارات احترام ملل الكفر ومساواتها لغيرها؟! كيف يأمنون أن لا يعقبهم ذلك نفاقاً في قلوبهم؟!
وأقوام يرون آيات الله تتلى كلها في التحفظ والاحتياط والتصون في العلاقة بين الجنسين، ومع ذلك يتهورون في إطلاق الانفتاح بين الجنسين، كيف لا يأمنون أن يعقبهم ذلك نفاقاً في قلوبهم؟!
وأقوام يرون آيات الله تتلى كلها في تعظيم كمال اهتداء السابقين الأولين، ومع ذلك يطلقون عبارات لا يلقون لها بالاً في أن “تجربة السلف لا تلزمنا”، كيف لا يأمنون أن يعقبهم ذلك نفاقاً في قلوبهم؟!
وأقوام يرون الله في القرآن يأمر صراحة برد الخلاف والنزاع إلى النص، وهؤلاء يتذرعون بالخلاف في تعطيل النصوص، كيف لا يأمنون أن لا يعقبهم ذلك نفاقاً في قلوبهم؟!
وأقوام يرون الله في القرآن يأمر صراحة بموالاة المصلحين ومنافاة المضلين، ثم يرددون صبحاً ومساءً بأن كل القضية مجرد خلاف داخل الوطن ويجب ترك الاصطفاف والتحزب والاستقطاب، كيف لا يأمنون أن يعقبهم ذلك نفاقاً في قلوبهم؟!
هل قلق أصحاب رسول الله من النفاق من باب الورع؟
حين رأيت الله تعالى يقول عن رجل بخل بعد أن عاهد على النفقة، هذا كل ما صنع، شح بماله بعد أن عاهد ربه على الصدقة، ومع ذلك يقول الله عنه: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) استطعت أن أفهم قلق أصحاب رسول الله من النفاق!
والله العظيم إنني كنت أفهم حديث ابن أبي مليكة المعروف عن قلق الصحابة من النفاق على أن سببه هو “ورع الصحابة” فقط، وهو الحديث الذي يقول فيه ابن أبي مليكة: (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه)1(1) [صحيح البخاري، 48]..
كنت أقول إن هذا من باب الاحتياط المستحب فقط الذي يصنعه الصحابة، لكن هذه الآية العجيبة (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ) والتي شاهد الصحابة واقعتها عياناً، وشاهدوا نظيرها؛ هي التي جعلتهم يفهمون النفاق على أنه “أثر” لسلوكيات معينة، وليس “قراراً” يتخذه المرء! أي أن الإنسان قد يقوم بأقوال أو أفعال فيها مصادمة لكتاب الله تقوده للنفاق وهو لا يعلم! وليس بالضرورة أن يكون النفاق “إرادة واعية”.
هل يمكن لنا أن نعرف المنافق؟
المهم.. أنني عدت لصاحبي وقلت له إن القرآن صور المنافقين أنهم يصلون ويتصدقون ويذكرون الله ومع ذلك لم يستنقذهم ذلك من ورطة “النفاق”.
فسكت صاحبي برهة ثم قال لي: ولكن هل يمكن لنا أن نعرف المنافق؟ أليس المنافق شخص متستر؟ أليس النفاق حالة قلبية لا يمكن الاطلاع عليها؟
بصراحة شعرت أن عبارة صاحبي الطيب فيها “ورع”، لكن هل الأمر شرعاً كما ذكر؟!
لنحاول أن نحلل هذا الورع على ضوء القرآن، لنكتشف هل هو ورع فيكون محموداً، أم هو خور فيكون مذموماًَ؟
الله تعالى بين صراحة أن بعض المنافقين مستترين لا يعرفون، وبعضهم يصرح لبعض الناس لكن لا يعلن ذلك، وبعضهم يظهر النفاق فقط من ملامح أفكاره وخطابه، كما يقول تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد:30]
فيا ترى.. كم من خطاب فكري معاصر يجد القارئ في لحن خطابه شُعَباً من النفاق التي لا تحصى؟!
ولذلك كان الصحابة يعرفون بعض المنافقين بأعيانهم بسبب أفكارهم ولحن خطابهم كما صور ذلك كعب بن مالك بعبارة بديعة في حديثه الطويل في صحيح البخاري حين قال: (فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء)2(2) [البخاري: 4418]..
لله در العرب ما أبلغ عباراتهم، والمراد أن بعض المنتسبين للإسلام في مجتمع الرسول كانوا “مغموصاً” عليهم النفاق، أي مطعونين ومتهمين بذلك! فإذا كان أصحاب رسول الله يغمصون بعض الناس بالنفاق، فكيف يقال أن وصف النفاق لا يمكن إطلاقه لأنه حالة قلبية مستترة؟!
الحقيقة أنه مرّ بي حديث في صحيح البخاري فيه أن حذيفة جاء إلى حلقة في المسجد فيها مجموعة من التابعين فقال لهم كما في البخاري: (عن الأسود قال: كنا في حلقة عبد الله، فجاء حذيفة حتى قام علينا فسلم ثم قال: لقد أنزل النفاق على قوم خير منكم)3(3) [البخاري: 4602]..
يعني حذيفة أنه إذا كان مجتمع النبي الذي كان الوحي فيه يتنزل، والمعجزات تظهر على يدي رسول الله، ومع ذلك وقع تورط بعض الناس في ذلك المجتمع بالنفاق، فكيف بمجتمعكم؟
إذا كان ذلك في عصر من بعد النبي، فكيف نقول عن عصرنا نحن؟
حقاً.. صدق حذيفة رضي الله عنه.. لقد أنزل النفاق على قوم خير منا.. فكيف نستبعد وجود المنافقين بيننا؟!
الهوامش
(1) [صحيح البخاري، 48].
(2) [البخاري: 4418].
(3) [البخاري: 4602].
المصدر
كتاب: “رقائق القرآن”، إبراهيم السكران.